ينص القانون الثالث من قوانين إسحاق نيوتن للحركة في الميكانيكا التقليدية، على أن القوى تنشأ دائمًا بشكل مزدوج، حيث يكون لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار وعكسه في الاتجاه، لكن يبدو أن ما بات معلومًا بالضرورة في الفيزياء ليس شرطًا أن يكون كذلك في الحياة العامة، فليس كل تطور إيجابي يكون رد فعله تطورًا إيجابيًّا مثله، وليس هناك أدلّ على ذلك من متزامنة النمو والتلوث.
ففي الوقت الذي ينشد فيه العالم نموًّا في الاقتصاد ونهضة في العمران يكون ذلك حتمًا على حساب مستقبل صحة وحياة البشر، حيث زيادة معدلات التلوث والإضرار بالبيئة بشكل قد يحمل معه شهادة وفاة الملايين إن لم يتمّ تدارك الأمر قبل فوات الأوان.
في هذه المادة من ملف “مجرمو المناخ” نلقي الضوء على أبرز الصناعات الملوّثة للبيئة، والتي لأجل تحقيق معدلات متقدمة من الإنتاج والتقدم تطأ بأقدام التلوث والهدم والتدمير مقومات الحياة الأساسية (الهواء والماء والتربة)، ما يجعل الإنسان حبيس سجن خانق، وجلاد على أهبّة الاستعداد لنزع حياته في أي وقت.. فما هي تلك الصناعات؟
معايير التقييم
الحديث عن حجم تلوث الصناعات المختلفة حديث مطاط، ليس به ضوابط تحكم معايير التقييم الحقيقية، وتلك إحدى المعضلات التي تواجه الباحثين في تطرّقهم لهذا الملف، غير أن موقع Ecojungl المتخصص في القضايا البييئة وضع 5 مؤشرات محورية لقياس حجم التلوث في كل صناعة على حدة، هي الضوضاء، الهواء، الماء، الضوء والتربة.
ويعود الاستناد إلى تلك العوامل الخمسة إلى ما تعكسه الأرقام الصادمة الخاصة بتأثيراتهم البييئة، فوفق منظمة الصحة العالمية تسبّبَ تلوث الهواء في وفاة 7 ملايين شخص عام 2021، بجانب دوره المحوري في زيادة عدد ضحايا جائحة كوفيد-19.
الوضع كذلك في المياه، إذ يتسبب تلوثها في وفاة 500 ألف شخص سنويًّا، كما يتم إلقاء 14 مليار رطل من البلاستيك في المحيط كل عام، فيما ذهبت تقديرات أخرى إلى أن المياه الملوثة بشكل عام تتسبّب في وفاة 1.5 مليون طفل سنويًّا.
وبعيدًا عن الهواء والمياه اللذين يحتلان المرتبة الأكبر في عدد الضحايا، فإن التلوث الضوضائي هو الآخر يستبب في حدوث 12 ألف حالة وفاة مبكرة سنويًّا، بجانب تسبّبه في إصابة عشرات الآلاف بأمراض القلب والسمع، الأمر ذاته في تلوث التربة الذي يقود في النهاية إلى حدوث الآلاف من الوفاة سنويًّا بسبب التسمم وغيرها.
صناعة الوقود.. 30% من حجم الانبعاثات الكربونية
تعدّ صناعات الطاقة المتعددة واحدة من أكثر الصناعات الملوثة للبيئة، إذ تمثل ما يزيد عن 30% من حجم الغازات الدفيئة في العالم، خاصة في ظل الاعتماد على الفحم كوقود أساسي لتوليد الطاقة، وهو ما حذّر منه البيان الختامي لمؤتمر الأمم المتحدة لتغيُّر المناخ لعام 2021 الذي عُقد في غلاسكو، اسكتلندا، في الفترة من 31 أكتوبر/ تشرين الأول إلى 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، والذي قال بشكل واضح إن الفحم هو المساهم الأكبر في تغيرات المناخ التي يشهدها العالم مؤخرًا.
ورغم اتفاق الدول الـ 197 المشاركة في المؤتمر على ضرورة “التقليل التدريجي” من استخدام الوقود الأحفوري والفحم في عمليات توليد الطاقة، بجانب تعهُّد 140 دولة على الوصول إلى صافي الانبعاثات الصفرية، إلا أن الأمور لم تتغير، إذ ما زال الفحم هو اللاعب الأبرز في تلك الساحة العريضة.
ومع الزيادة السكانية يتوقع تفاقم الأزمة إن لم يتم تداركها، وهو ما تكشفه أرقام ومعدلات استهلاك النفط والطاقة بصورة عامة، والتي قفزت من 85 مليون برميل يوميًّا عام 2006 إلى 99.7 مليون برميل عام 2020، مع توقعات زيادة هذا المعدل خلال السنوات المقبلة، ما يعني زيادة الانبعاثات الكربونية بصورة تهدد حياة البشر.
وتعدّ صناعة الوقود واحدة من الصناعات الحيوية التي يعتمد عليها العالم في كافة المجالات، إذ يدخل الفحم والنفط في المشاريع المتعددة كصناعة الهواتف والأدوية والبلاستيك والمواد الكيميائية، ما يعني انفجارًا كبيرًا في معدلات ثاني أكسيد الكربون، ما يتسبّب في ارتفاع درجات حرارة الأرض عن معدلها الطبيعي، فيما يعرَف باسم ظاهرة الاحتباس الحراري التي تنطوي على مخاطر هائلة على صحة وحياة الإنسان والحيوان والنبات.
وسائل النقل.. أبرز أسباب الاحتباس الحراري
يلعب قطاع النقل بأنواعه الثلاثة (برّي – بحرّي – جوّي) دورًا كبيرًا في تفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري، فهو القطاع الأكثر استهلاكًا للوقود، هذا بجانب أنه يمثل 24% من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، مع احتمالية زيادة تلك النسبة إلى 50% بحلول عام 2050، حسبما تشير الدراسات البيئية.
ويقسم الباحثون صناعة النقل إلى قسمَين: الأول هو النقل البري وسيارات الركّاب، والتي تساهم بـ 60% من الانبعاثات الكربونية، إذ إن سيارة واحدة فقط تنتج قرابة 4.6 أطنان من ثاني أكسيد الكربون سنويًّا، أما القسم الثاني فهو الشحن التجاري ويمثل 40% من إجمالي الانبعاثات الناتجة عن صناعة النقل.
وتشير الباحثة أسماء محمد أمين في تقرير لها إلى أن هناك 4 آليات تؤثر من خلالها الانبعاثات الناجمة عن وسائل النقل على المناخ، أولها انبعاثات الغازات الدفيئة المباشرة وعلى رأسها ثاني أكسيد الكربون الذي يحتجز الحرارة في الغلاف الجوي ما يتسبب في رفع درجة حرارة الأرض، ثانيها انبعاثات الغازات الدفيئة غير المباشرة مثل أكاسيد النيتروجين والتي تؤثر على طبقة الأوزون من خلال التفاعلات التي تحدثها في طبقة التروبوسفير.
أما الآلية الثالثة التي تؤثر على المناخ فهي انبعاثات الهباء الجوي (جزيئات عالقة في الهواء) مثل الكربون العضوي ومركبات الكبريت، والتي تساهم بشكل كبير في تكوين طبقات سميكة وثقيلة في الغلاف الجوي يكون لها انعكاسات ضارّة على المناخ ودرجات الحرارة، بالإضافة إلى الآلية الرابعة والخاصة بالتأثير غير المباشر للهباء الجوي.
جدير بالذكر أن عدد السيارات في العالم تجاوز 1.7 مليار سيارة بحلول عام 2020 وفقًا لأحدث إحصائية، فيما حدد برنامج FlightAware وجود 9 آلاف و728 طائرة في الجو تحلق فوق الكرة الأرضية في عام 2017، أما عدد السفن المختصة في نقل البضائع العامة والسائبة في العالم فتتجاوز حوالي 28 ألف سفينة مختصة بنقل المواد التجارية بين الدول.
الزراعة.. مصدر الأمان والتهديد معًا
تمثل الزراعة وأنشطتها المختلفة ضلعًا أصيلًا في تلوث البيئة، إذ تسهم بنسبة تتراوح بين 13% و18% من إجمالي انبعاثات الغازات الدفيئة في العالم، ويشكّل غاز الميثان وأكسيد النيتروز اللذان تطلقهما الأبقار 65% من إجمالي الانبعاثات الناتجة عن الزراعة بصفة عامة.
وفي الوقت الذي تشكّل فيه الزراعة عصب الحياة بالنسبة إلى الإنسان، إلا أنها في الوقت ذاته تحمل تهديدًا لحياته مستقبلًا في ظل المخالفات والانتهاكات الفجّة الممارَسة، والتي على رأسها التجريف المستمر للأراضي، والاستخدام المفرط للمبيدات الحشرية والأسمدة، والاستخدام العشوائي الآخر للمواد الكيميائية الداخلة في سلاسل الإمدادات الزراعية.
ومن الانتهاكات التي تتغول على البيئة وتحدث أضرارًا جسيمة بالمناخ، ظاهرة الحرائق التي باتت أمرًا معتادًا خلال السنوات الماضية بسبب التغيرات المناخية، ففي عام 2019 أسفرت حرائق الأمازون التي اندلعت حينها عن تدمير 870 ميلًا مربعًا من النباتات خلال شهر واحد فقط، ما يمثل زيادة في إزالة الأشجار والنباتات بنسبة 278% مقارنة بالشهر نفسه من عام 2018.
ويقسم الباحثون الانبعاثات الناتجة عن الأنشطة الزراعية إلى 5 فئات رئيسية: التخمير المعوي، تخزين السماد الطبيعي، إنتاج الأعلاف ومعالجتها، نقل المنتجات، تخزين السماد الطبيعي، فضلًا عن الممارسات الزراعية السيئة الأخرى التي أدّت إلى تراجع جودة التربة كنتيجة طبيعية لتلوث المبيدات والتغدق والتمليح، ما يؤدي إلى تآكل التربة ثم إلى تجريفها ثم فقدان قدراتها الخصوبية والإنتاجية.
الأزياء.. ضريبة الموضة القاسية
تساهم صناعة الأزياء في زيادة حجم ومستوى التلوث واستنزاف الموارد الطبيعية، فهي ثاني أكبر مستورد للمياه، وتمثل قرابة 10% من إجمالي انبعاثات ثاني أكسيد الكربون على مستوى العالم، وتشكّل محورًا رئيسيًّا في ظاهرة الاحتباس الحراري وتفشيها في السنوات الأخيرة.
ومع تزايد معدلات السكان التي تحتاج ما بين 100 مليار و150 مليار قطعة ملابس سنويًّا، بات الحديث عن أضرار صناعة الأزياء والملابس مرعبًا، يحمل بين طياته تهديدًا واضحًا ومباشرًا لصحّة الإنسان ومستقبله، وهو ما أوضحته الخبيرة في شؤون البيئة مريم لطيْف، التي لفتت إلى أن هذه الصناعة تستهلك نحو 93 مليار متر مكعب من المياه النظيفة كل عام، كما يتم قطع 70 مليون طن من الأشجار كل عام لتلبية الطلب على الأقمشة، بحسب حديثها لـ”سكاي نيوز“.
واستشهدت لطيْف بمادة البوليستر التي تشكّل 60% من المواد الداخلة في إنتاج الملابس، والمصنوعة من تفاعل عناصر كيميائية ممزوجة من الماء والهواء والنفط والفحم، ما ينجم عنه كميات هائلة من ملوثات الهواء، مشيرة إلى أن إنتاج قميص واحد من البوليستر يسفر عن 5.5 كيلوغرامات من ثاني أكسيد الكربون، بجانب أنه من الألياف صعبة التحلُّل ما يعني صعوبة إعادة تدويرها.
وكشفت الخبيرة البيئية أن صناعة الملابس والأزياء والمواد الكيميائية الداخلة في تلك الصناعة أو الخارجة منها مسؤولة عمّا يصل إلى 20% من تلوث الصرف الصحي، وإذا أضيفت انبعاثات الكربون إلى كتلة نفايات الملابس التي يبللها الناس في النُّظم البيئية المتنوعة في جميع أنحاء العالم، فإن الأمر يزداد خطورة ولا بدَّ من التحرك العاجل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
بيع المواد الغذائية.. فاتورة الهدر الباهظة
تؤدي الزيادة الكبيرة في أعداد السكان ومستوياتها الاقتصادية إلى اتساع رقعة الفجوة بين العرض والطلب على الغذاء، وهو ما يؤدّي في النهاية إلى زيادة معدلات الهدر من الأطعمة، إذ تشير الدراسات إلى أن حجم الهدر من الطعام في بريطانيا بلغ 1.9 مليون طن سنويًّا.
ويلعب تجار الأغذية بالتجزئة دورًا كبيرًا في تفاقم الأزمة البيئية، إذ يتسبب المهدور من مواد التعبئة والتغليف يوميًّا في زيادة معدلات النفايات البلاستيكية (تشير الأبحاث إلى أن 800 ألف طن من النفايات البلاستيكية السنوية تأتي من تجارة التجزئة التي ينجم عنها ملوثات كبيرة، تكون سببًا في وفاة الآلاف من الحيوانات التي تستهلك البلاستيك كغذاء مرحلي، مثل الثدييات البحرية والأبقار والحيتان والدلافين وخنازير البحر.
ويشير تقرير مؤشر نفايات الأغذية لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة لعام 2021 إلى الآثار السلبية، بيئيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا، للكميات الكبيرة من الغذاء التي ينتجها البشر ولكن لا يأكلونها، مضيفًا أن 8-10% من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري ترتبط بالغذاء الذي لا يتمّ استهلاكه.
الأمر هنا لا يتوقف عند تلك الصناعات الرئيسية وحسب، فهناك صناعات أخرى تسهم بشكل واضح في زيادة معدلات التلوث، منها صناعة البناء التي تساهم في 23% من تلوث الهواء، و40% من تلوث مياه الشرب، وبنحو 50% من نفايات مكبّات النفايات، إضافة إلى استهلاكها كميات ضخمة من المواد الخام، فهي بحاجة إلى 400 مليون طن سنويًّا من تلك المواد، ومسؤولة وحدها عن 50% من جميع عمليات استخراج الموارد الطبيعية، بما يضرّ بالأرض والحياة البرية والمائية بوجه عام.
التكنولوجيا هي الأخرى كانت الوافد الجديد على قائمة الصناعات الملوثة للبيئة، فرغم الإنجازات التي حقّقتها لكنها تسهم بشكل واضح في تعميق الأزمة البيئية عالميًّا، وسط توقعات بزيادة نسبة الإسهام في المستقبل، ففي ظل الطلب العالمي على الأجهزة المتصلة بالإنترنت والذي يزيد بنسبة 20% سنويًّا، فإنه من المتوقع أن تساهم صناعة التكنولوجيا بنحو 3.5% من الانبعاثات العالمية، مع الوضع في الاعتبار الاستنزاف الذي تمثله تلك الصناعة للطاقة والموارد الطبيعية، إذ تستهلك 3-5% من كهرباء العالم، وتتزايد سنويًّا مع زيادة الطلب.
في ضوء ما سبق، يمكن القول إن الدور الذي تلعبه القوى الاقتصادية الكبرى صاحبة القلاع الصناعية الهائلة في دفع قاطرة التنمية للأمام، يصطدم بشكل مباشر مع إسهاماتها الواضحة في تلويث البيئة والمناخ وتعريض حياة مئات الملايين للخطر، بسبب الطموح الاقتصادي لتلك القوى والذي يدفع ثمنه الأكبر الدول النامية والأسواق الاستهلاكية في المقام الأول.