ترجمة حفصة جودة
كانت أول مرة يجمع فيها هادي جمعان الجثث من ساحة المعركة في اليمن، عندما طلب منه صديق إعادة بقايا رجلين ماتا في القتال إلى منزلهما، كان ذلك في أغسطس/آب 2015، فقد تسبب الصراع في مقتل نحو 150 ألف شخص ونزوح مليون، وترك البلاد تعاني من أعلى نسبة سوء تغذية للأطفال في العالم.
لم يكن جمعان – عامل اجتماعي شاب – المرشح المناسب للمهمة، لكنه ينحدر من محافظة الجوف في الشمال وهي نفس محافظة القائد المتمرد الذي كان يتمركز بجنوده جنوب البلاد حيث قُتل الرجلان.
لم يكن جمعان يعرف القائد لكنه وافق على المساعدة رغم ذلك، وبعد التفاوض للوصول إلى خطوط المعركة الأمامية، بدأ رحلته من مدينة تعز في سيارة إسعاف مُستعارة إلى وادي يبعد 30 ميلًا نحو الجنوب، ثم مشى آخر نصف ميل في الوادي وهو يحمل راية بيضاء.
ما يتذكره بعد ذلك أنه كان راقدًا في المستشفى العسكري بالعاصمة صنعاء محاطًا بعائلات القتلى يشكرونه على تحديد موقع جثث أحبابهم، أما عائلته فقد كانت غافلة عما يحدث، أُصيب جمعان برصاصة في صدره، لكن الرصاصة أخطأت قلبه، بعد انقطاع التواصل بين القادة المتحاربين.
قضى جمعان 45 يومًا في المستشفى، في البداية قال لزوجته إنه يعمل في صنعاء حتى لا يزعجها بالأمر، رغم الصدمة، كان متأثرًا بشدة من امتنان العائلات لعثوره على أحبابهم، حتى إنه قرر أنه سيقبل القيام بذلك مرة أخرى إذا طلب منه أحد ذلك، وقد حدث.
منذ المهمة الأولى الدرامية، يقدر جمعان أنه استعاد نحو 1700 جثة، مخاطرًا بحياته في كل مرة يخوض فيها ساحة الصراع، يصف جمعان عمله بأنه مهمة انتحارية، فقد تعرض لإطلاق النار 3 مرات واعتُقل 8 مرات.
قال جمعان في حفل توزيع جوائز مبادرة “Aurora” الإنسانية في البندقية الشهر الماضي: “مهمتي أن أموت كل يوم، هذا ما أتوقعه”.
بوصوله إلى مرحلة النهائيات، فاز جمعان بمبلغ 25 ألف دولار، وقال إن هذا المال سيساعده في عمله الذي كان يموله سابقًا من بيع قطعة أرض تخص العائلة ومجوهرات وبعض المنح الصغيرة، أهدى جمعان الجائزة لزوجته ووالدته.
“الشعور الذي ينتابني عندما أُعيد الجثث للعائلات يساعدني في الاستمرار، عندما ترى العائلة جثة فقيدها تقل معاناتها بشكل ما” هادي جمعان
وبينما كانت مهمته الأولى في جنوب اليمن، فإن غالبية المهمات اللاحقة كانت في الجوف حيث يسكن مع زوجته وأطفالهما الثلاث، تقع المنطقة الريفية بين السعودية وصنعاء الواقعة تحت سيطرة الحوثيين، وتعد جبهة قتال رئيسية.
أطلقت عليه وسائل الإعلام اليمنية لقب “جامع الجثث”، وقد ازداد الطلب على خدماته بسبب سمعته الحسنة، كانت مهاراته مطلوبة للتفاوض على تبادل الأسرى بين المتمردين الحوثيين والقوات الحكومية، ولإقناع المقاتلين الحوثيين بالسماح بدخول المساعدات للمجتمعات الجائعة المنكوبة، كان ذلك يعني في بعض الأحيان نزع العلامة التجارية عن حزم المساعدات وإقناع القادة قائلًا: “أنا لست في صف أحد، أنا هنا كوسيط محايد”.
يتغير عدد المتطوعين معه دائمًا، فهم يأتون ويرحلون، أحيانًا يصلون إلى 70 شخصًا والآن 15 فقط، لكنه لا يلومهم على ذلك، يقول جمعان: “أقدر كل من ساهم في ذلك ولو بساعة من وقته، وأفهم تمامًا رحيلهم في منتصف الطريق، فمن يبقون يواجهون الموت”.
لكنه ما زال محافظًا على ذلك، فهو يقول: “ينتابني شعور ما عندما يتصل أب أو أم أو أخ أو أخت طلبًا لمساعدتي، لا أستطيع أن أرفض طلبهم”.
يضيف جمعان “الشعور الذي ينتابني عندما أُعيد الجثث للعائلات يساعدني في الاستمرار، عندما ترى العائلة جثة فقيدها تقل معاناتها بشكل ما”.
في إحدى المرات عندما طُلب منه تتبع جثة مقاتل حوثي عمره 18 عامًا، توجه إلى المشرحة وعُرضت عليه الجثة، لكنه لاحظ أنها تبدو مختلفة عن بقية الجثث التي رآها، فنادى الطبيب الذي أكد أن هذا الشاب المصاب برصاصة في رأسه ما زال يتنفس.
يقول جمعان: “اتصلت بأهله وأخبرتهم أنني سأعيده إليهم حيًا، فقالوا هل ستحييه من الموت؟ واليوم هذا الشاب يمشي ويتحدث كأي شخص”، يبتسم جمعان لهذه الذكرى، لكن العيش في منطقة حرب يسبب صدمة، والأسوأ من ذلك الإحساس بأن العالم يدير ظهره لذلك.
يقول جمعان: “هناك شعب بأكمله يواجه الموت يوميًا، يقاتل الناس للعثور على الخبز، نحن نعاني من الجوع وتغير المناخ والمجاعة بالإضافة إلى ضربات الصورايخ، لكننا منسيون وبلا هوية”.
كانت الهدنة المتفق عليها لـ6 أشهر في أبريل/نيسان قد رفعت آمال اليمنيين بالبدء في بناء حياتهم بعد 7 سنوات من الحرب، يقول جمعان: “أن نعيش مثل بقية العالم”، لكن الفشل في مد الهدنة الشهر الماضي ترك الناس يواجهون عودة الضربات الجوية والقصف المدفعي والهجمات الصاروخية.
سجل جمعان في مفكرته نحو 1300 اسم مفقود ويعتزم إعادتهم، وما يمنحه القدرة على الاستمرار أمله في انتهاء هذا العداء بما يمنح اليمنيين فرصة للتعافي، يقول جمعان: “رسالتي أن تنتهي تلك الفوضى وأن يتوقف تدمير البلاد، توقفوا عن ذلك لقد عانينا بما فيه الكفاية”.
المصدر: الغارديان