مع التسريبات المتوالية عن “التسوية السياسية” في السودان التي يجري التفاوض بشأنها في غرف مظلمة بين قوى الحرية والتغيير وقادة الانقلاب، عاد الحديث مجددًا عن مصير قادة انقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول بعد أن كثر حديثهم عن “الانسحاب من المشهد السياسي”، كما تدور النقاشات أيضًا عن وضع قوات الدعم السريع سيّئة السمعة.
إذا تحدثنا في البداية عن الدعم السريع، نجد أنه كان يُنتظَر من الحكومة المدنية، التي تقاسمت السلطة مع المجلس العسكري بعد سقوط البشير، أن تعمل على تحجيم هذه القوات المملوكة لعائلة محمد حمدان دقلو “حميدتي” وصولًا إلى تصفيتها، خاصة بعد المجزرة الدموية التي ارتكبتها في 3 يونيو/ حزيران 2019، عندما فضّت اعتصام القيادة العامة في الخرطوم بشكل وحشي وقُتل على إثر ذلك أكثر من 100 شاب واُغتصبت الفتيات في نهار رمضان.
تمدُّد الدعم السريع خلال الفترة الانتقالية
ما حدث كان العكس تمامًا، إذ اعترفت قوى الحرية والتغيير رسميًّا بالقوات المملوكة لحميدتي الذي نصّب نفسه نائبًا لرئيس مجلس السيادة الانتقالي، رغم عدم وجود هذا المنصب في الوثيقة الدستورية لعام 2019، ثم تمددت الميليشيا تمددًا هائلًا حيث تضاعف عدد أفرادها من 40 ألف جندي قبل سقوط البشير إلى نحو 100 ألف مقاتل حاليًّا، وفق تقديرات وكالة “أسوشيتد برس” التي أشارت إلى أن عدد أفراد قوات الدعم السريع أصبح يفوق عدد القوات البرية للجيش السوداني.
ووفق الوكالة، استفادت الميليشيا من تهريب الأسلحة والمخدرات والمهاجرين، بعد أن تمكّنت من ترسيخ سيطرتها على الحدود الغربية والشمالية المليئة بالثغرات بسبب ضعف الجيش، كما يلفت تقرير لـ”مركز الدراسات الدفاعية المتقدمة” إلى أن قوات الدعم السريع جمعت ثروة من خلال الاستحواذ التدريجي على المؤسسات المالية السودانية واحتياطات الذهب، بعضها تحت أسماء أقارب دقلو، إضافة إلى الأموال التي دفعها التحالف العربي بقيادة السعودية مقابل القتال في اليمن ضد الحوثيين.
وقال أليكس دي وال، المدير التنفيذي لمؤسسة السلام العالمي في كلية فليتشر للقانون والدبلوماسية بجامعة تافتس، إن حميدتي “من خلال الذهب ونشاط المرتزقة، أصبح يتحكم بأكبر “ميزانية سياسية” للسودان، أموال يمكن إنفاقها على الأمن الخاص، أو أي نشاط، دون أي مساءلة”.
يفسّر هذا الإنفاق الهائل لحميدتي على الأنشطة التي يعتقد أنها يمكن أن تغسل السمعة السيئة لقواته، فتارة يرسل قوافل المساعدات الإنسانية، وتارة أخرى يدعم الاتحادات الرياضية والمعلمين والفنانين، كما تمكّن من شراء عدد كبير من قيادات ما يعرَف بـ”الإدارة الأهلية” ورموز المجتمع، هذا بالإضافة إلى الإنفاق الهائل على وسائل التواصل الاجتماعي وشراء “ذباب إلكتروني” من أجل نشر تعليقات وتفاعلات إيجابية مع المواد الدعائية التي تبثها المنصات التابعة لحميدتي، والتي في الغالب تجد سخرية وانتقادات لاذعة من قبل الجمهور الأصيل.
مبادرة جديدة في الخرطوم لغسل “سمعة حميدتي”.. جمعيات تابعة له قامت بتوزيع أجهزة استقبال فضائي تتيح للجمهور مشاهدة مباريات كأس العالم في الأندية الرياضية.
“تسوية” تمنح البرهان وحميدتي حصانة وتبقيهما على رأس المؤسسة العسكرية
بعد انقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، تورّطت قوات المجلس العسكري بكل تشكيلاتها، جيش وشرطة ودعم سريع ومخابرات في قتل 120 شابًا، فضلًا عن أكثر من 7 آلاف مصاب بجروح مختلفة نتيجة للقمع الوحشي، بعضهم فقدوا أطرافًا حيوية مثل الأرجل والأيدي والعيون، وبعضهم أُصيب بالشلل التام، هذا بخلاف حالات التعذيب والاعتقالات الجائرة بل حتى الاغتصاب والاعتداءات الجنسية.
مع كل هذه الانتهاكات المروعة تسعى النخب السياسية من جديد لتوقيع “تسوية” أخرى مع الطغمة الإجرامية، تنص بنودها المسرّبة على خروج كل من البرهان وحميدتي من المشهد السياسي وبقائهما على رأس المؤسسة العسكرية (البرهان قائدًا للجيش وحميدتي قائدًا للدعم السريع)، من دون حديث مفصّل عن الإمبراطورية الاقتصادية التي يتحكم فيها الدعم السريع والجيش، فاحتفظاهما بتلك الشركات الضخمة التي تمتلك اقتصادًا موازيًا يزيد عمّا قيمته 72% من اقتصاد البلاد، ما يعني الفشل المحتوم لأي حكومة مدنية قادمة مهما وجدت من دعم شعبي، إضافة إلى الفشل الأمني بالتأكيد.
معضلة أخرى تتمثل في التسريبات الموثوقة إلى حد كبير، والتي تفيد بأن القوى المدنية تناقش في ظلام حالك طلب القادة العسكريين تحصين أنفسهم من الملاحقة القانونية، وذلك بإدراج بند يخصّ رفع المسؤولية الجنائية عن الجرائم السابقة، وهو بند سبق أن تضمّنه الدستور الانتقالي السوداني لعام 1964 الذي يقول: “أي حكم أو أمر أو فعل صدر من أي شخص أو هيئة في الفترة من 17 نوفمبر 1958 إلى صدور هذا الدستور لا يجوز الطعن فيه أو اتخاذ أية إجراءات قانونية بصدده أو على أساسه أمام أية محكمة جنائية أو مدنية أو إدارية، ما دام قد صدر ذلك الحكم أو الأمر أو الفعل من ذلك الشخص أو تلك الهيئة أثناء تأدية الواجب أو بغرض حماية القانون والنظام أو حفظ الأمن وفقًا لأي تكليف من القوات المسلحة السودانية على أية صورة عسكرية كانت أم مدنية”.
يتضمن الميثاق الممهور بتوقيعات الثوار ودماء الشهداء 6 أبواب تبدأ باستعراض تاريخي للأزمة السودانية وفشل النخب السياسية في تشخيصها، ومن ثم وضع معالجات حاسمة لها.
وتشير المعلومات وفق تقرير لـ”السفير العربي” إلى أن الصياغة التي انتهت إليها مقترحات القانونيين في غرف التفاوض هي بديل لبند دستور 1964، جاءت كالتالي: “لا يجوز اتخاذ إجراءات قانونية في مواجهة أعضاء قيادة القوات المسلحة أو قيادة الدعم السريع بحكم مناصبهم الدستورية بشأن أي مخالفات قانونية تم ارتكابها في الفترة من 11 أبريل 2019 وحتى تاريخ صدور هذا الدستور، بسبب فعل أو امتناع قام به أعضاء القوات المسلحة أو أعضاء الدعم السريع، ما لم يكن ذلك الفعل أو الامتناع موضوع المحاسبة ينطوي على اعتداء جسماني، أمرَ عضو قيادة القوات المسلحة أو عضو قيادة الدعم السريع منفذه بارتكابه”.
هذا البند إذا ما تمّ الاتفاق عليه فهو يعني بوضوح استثناء البرهان وأعضاء هيئة قيادة الجيش وقائد الدعم السريع وهيئة قيادته من أي مسؤولية في كافة الجرائم التي اُرتكبت منذ سقوط البشير وحتى الآن، بينما يتحمل الجنود وحدهم المسؤولية، وقد ألمحت قوى الحرية والتغيير في بيان الأسبوع الماضي إلى أن قضية الحصانات لقادة الطغمة أمر يمكن النقاش حوله، إذ جاء في البيان أنه “لا يمكن القيام بهذا الأمر دون تشاور وقبول واسع لأهل المصلحة”، بيد أن لجان المقاومة ومنظمة أسر الشهداء ترفضان رفضًا باتًّا أي حلّ يفضي إلى الإفلات من العقاب، وأنهما ستقفان ضد التسوية التي لن تكون العدالة في أول أولوياتها.
لجان المقاومة فقدت الثقة في الأحزاب السياسية
استفادت لجان المقاومة الشبابية التي تقود الحراك الثوري من التجربة المريرة التي خلّفتها الوثيقة الدستورية لعام 2019، والتي كلّفت الثورة أخطاء مريرة كان آخرها انقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول، فآثرت لجان المقاومة أن تتصدى بنفسها هذه المرة لمحاولات التسويق لـ”التسوية السياسية” الجديدة التي يُقترح أن تُبقي على جنرالات الانقلاب في مناصبهم الأمنية (البرهان قائدًا للجيش وحميدتي قائدًا للدعم السريع).
بادرت لجان المقاومة في الولايات إلى اقتراح مواثيق سياسية تعكس رؤية الشباب الثائر لهيكل الدولة السودانية وكيفية حُكم البلاد، وأهم ما يميز تلك المواثيق أنها بدأت من الأرياف ثم انتقلت إلى العاصمة الخرطوم حيث تمّ تكليف لجنة مشتركة لتوحيد المواثيق، إلى أن خرجت اللجنة بـ”الميثاق الثوري لتأسيس سلطة الشعب” الذي وقّع عليه عدد من التنسيقيات تضمّ العديد من لجان المقاومة بالعاصمة السودانية والولايات، وما زالت الاتصالات المستمرة لاستقطاب اللجان التي لديها بعض التحفظات أو التعديلات المقترحة.
يتضمن الميثاق الممهور بتوقيعات الثوار ودماء الشهداء 6 أبواب تبدأ باستعراض تاريخي للأزمة السودانية وفشل النخب السياسية في تشخيصها، ومن ثم وضع معالجات حاسمة لها، وانتهى بالباب السادس الذي يضمّ الملاحق سواء التصورات الاقتصادية للثوار أو القرارات الثورية المفترض اتخاذها فورًا، فيما تطرق الباب الخامس للأحكام العامة، وحددت عبره لجان المقاومة مَن المستهدف بالتوقيع ومَن الذي لا يحق له أن يوقع.
وقالت اللجنة المشترطة إن هذا الميثاق مطروح من تنسيقيات لجان المقاومة بولايات السودان المختلفة للتداول والتطوير والتوقيع عليه من لجان المقاومة بولايات السودان المختلفة، وكل التنظيمات المهنية والنقابية والمطلبية والنسوية، وتنظيمات معسكرات النازحين والاتحادات العمالية والطلابية والفئوية، والتنظيمات السياسية والثورية الرافضة لعسكرة الحياة السياسية والساعية لإسقاط الانقلاب.
هناك مجال لحلٍّ وسط ربما تقبل به لجان المقاومة وعائلات الضحايا “على مضض”، وهو الخروج الكامل لقادة الانقلاب من المشهد وعدم توليهم أي مناصب حتى لو عسكرية وأمنية.
واستثنت لجان المقاومة من التوقيع على ميثاقها الثوري كل القوى السياسية التي شاركت في انقلاب ونظام 30 يونيو/ حزيران 1989 إلى لحظة سقوطه، والقوى التي أيّدت انقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، والقوى التي شاركت في سلطة انقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول حتى لحظة سقوطه.
وقالت المتحدثة باسم تنسيقيات لجان مقاومة كرري وعضوة اللجنة المشتركة لدمج المواثيق، ساجدة المبارك، إن “الميثاق مرحلة جديدة من نشاط لجان المقاومة التي تعيد تعريف الحياة السياسية في السودان”، مضيفةً أن “دورة الانقلابات العسكرية وسيطرة النخب السياسية على السلطة أدخلت البلاد في نفق مظلم”، مشددة على أن الميثاق يهدف إلى إنهاء فرص التسوية الفوقية بين العسكريين والمدنيين وإعادة السلطة إلى الشعب لا “النخب الفوقية”.
رصد الميثاق التطور التاريخي للجيش السوداني، واعتبره أحد أوجُه أزمة الدولة السودانية وأنه يحتاج إلى إعادة هيكلة، موضحًا أن هذه المؤسسة لم تخضع لإعادة هيكلة وطنية منذ استقلال السودان، بل استمرت هياكلها وعقيدتها الاستعمارية في توجيه العنف ضد السودانيين بدلًا عن القيام بالمهام المتعارف عليها من حماية الدستور والسيادة والحدود.
وقرر الميثاق في سياق إصلاح هذه المؤسسة إلغاء منصب القائد العام وحصره على رئيس الوزراء “بحكم منصبه”، أسوة بالعديد من الدول التي لا يوجد بها مسمّى قائد عام الجيش ويوجد لديها فقط رئيس الأركان، ففي السودان حاليًّا يوجد منصبان هما قائد الجيش ورئيس الأركان.
لا يمكن استبعاد لجان المقاومة من المشهد
يرجّح تحليل لمركز “ستراتفور” الاستخباراتي الأمريكي استمرار الاضطرابات والتظاهرات في السودان حتى لو حدث اتفاق بين قادة الانقلاب والأحزاب، بسبب رفض لجان المقاومة لمشروع “التسوية السياسية” الذي تسعى إليه أحزاب قوى الحرية والتغيير مع قادة الانقلاب، فاللجان متمسكة باللاءات الثلاث “لا تفاوض، لا شراكة، لا شرعية”، وبميثاقها السياسي الذي تعتبره رؤية جديدة للحل شارك فيها طيف واسع من القواعد الشعبية.
ومع ذلك هناك مجال لحلٍّ وسط ربما تقبل به لجان المقاومة وعائلات الضحايا “على مضض”، وهو الخروج الكامل لقادة الانقلاب من المشهد وعدم توليهم أي مناصب حتى لو عسكرية وأمنية، والأفضل أن يخرجوا إلى منفى خارجي كما حدث من قبل مع الديكتاتور الأوغندي عيدي أمين ومع الديكتاتور الإثيوبي منغستو هيلا مريام، أما بقاء البرهان وحميدتي على رأس المؤسسة العسكرية ومنحهما حصانة من الملاحقة، فسيكون حلًّا مستفزًّا يعيد إنتاج الأزمة ولو بعد حين، إذ كيف يثق عاقل بهما بعد كل ما تورّطا به؟
كما أن تلك التسوية لن تكون مقبولة على الإطلاق من الشارع الثائر الذي تقوده لجان المقاومة، والتي أثبتت حضورها القوي خلال عام الانقلاب، ليس فقط من خلال تنظيم التظاهرات، بل من خلال المواثيق السياسية التي أنتجتها تثبت عمق الوعي والإدراك لهؤلاء الشباب بجذور أزمة الدولة السودانية منذ الاستقلال.