سهرة 11 أكتوبر/تشرين الأول 2019، قبل 48 ساعة من الدور الثاني للانتخابات الرئاسية التونسية، قال المرشح للرئاسة حينها قيس سعيد خلال المناظرة التليفزيونية التي جمعته بالمترشح الثاني نبيل القروي، كلمات ساحرة كان مفعولها قويًا جدًا على التونسيين والعرب أجمعين.
قال سعيد حينها: “التطبيع خيانة عظمى.. ما يحدث في فلسطين هو مظلمة القرن.. نحن في حالة حرب مع كيان غاصب.. الحق الفلسطيني لا يسقط بالتقادم ومن يكن له علاقة مع الكيان الصهيوني هو خائن”، كلمات قليلة قيلت في ثوانٍ معدودات، مهدت لفوز سعيد برئاسة تونس بأغلبية فاقت 73% من أصوات الناخبين رغم حداثة عهده بالسياسة.
لكن يبدو أن كرسي الرئاسة يغيّر المبادئ، والفعل عكس القول، فالكلام سهل خاصة لوافد جديد على ميدان السياسة، أما الفعل فهو صعب وله عواقب وخيمة، وقد تبين ذلك في العديد من المرات، آخرها ما صدر عن رئيسة حكومته نجلاء بودن.
بودن تتبادل الابتسامات مع الرئيس الإسرائيلي
أظهر مقطع للفيديو رئيسة الحكومة التونسية نجلاء بودن كأنها تتبادل الحديث مع الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، خلال التقاط الصور التذكارية لقمة المناخ التي انعقدت في شرم الشيخ بمصر، الأمر الذي اعتبره الكثير من التونسيين “تطبيعًا” مع الكيان الصهيوني.
لم تستغرق المحادثة بين بودن وهرتسوغ، وفق ما أظهره الفيديو، سوى ثوان قليلة، انتهت بابتسامة عريضة من بودن، وجاءت المحادثة رغم موقف الدولة التونسية المعارض للتطبيع مع “إسرائيل” وادعاء الرئيس رفض التطبيع.
لم يعقب النظام التونسي على الفيديو المتداول، لكن الإعلام الإسرائيلي تحدث عنه كثيرًا، إذ قالت صحيفة تايمز أوف إسرائيل إن هرتسوغ وبودن تبادلا الدعابات، عندما اجتمع زعماء العالم لالتقاط صورة مشتركة في شرم الشيخ.
سبق أن تحدثت الصحف الإسرائيلية عن وجود رغبة تونسية للتطبيع
الصحيفة الإسرائيلية قالت: “من الواضح أن المحادثة القصيرة بين الرئيس الإسرائيلي وقادة الدول التي لا تعترف رسميًا بالدولة الإسرائيلية لم تلق قبولًا جيدًا من الكثيرين في العالم العربي”، في إشارة إلى الحملة التي شُنت على مواقع التواصل الاجتماعي تنديدًا بتصرف بودن ومطالبة الحكومة والرئاسة بتوضيح الأمر.
لقي هذا الفيديو استهجان العديد من التونسيين على مواقع التواصل الاجتماعي، متسائلين عن المبادئ التي ظل سعيد يرددها قبل توليه رئاسة تونس، لكن في المقابل هناك أشخاص برروا فعلة بودن، مستنكرين الحملة التي شُنت ضدها.
لكن في السياسة كل شيء محسوب، الحركات واللباس والكلمات، لا شيء يُترك للصدفة، ما يعني أن حديث بودن مع هرتسوغ وتبادل الابتسامات معه، يدل على وجود أمر ما يطبخ على نار هادئة، خاصة بعد بروز مؤشرات سابقة نحو التطبيع.
كيف سيتعامل سعيد مع الأمر؟
حديث رئيسة حكومة تونس والرئيس الإسرائيلي أمر لم يعتده التونسيون وهو ليس بالهين، خاصة في هذه السياقات التي جاء فيها، لكن السؤال المطروح الآن هو: كيفية تعامل الرئيس قيس سعيد مع ما بدر من رئيسة حكومته التي اختارها بنفسه ولا تفعل شيئًا دون التشاور معه.
سعيد قال قبل توليه الرئاسة إن من يكن له علاقة مع الكيان الصهيوني هو خائن، فهل يعني هذا أن بودن خائنة؟ من منظور سعيد – رجل القانون الدستوري والمرشح لرئاسة تونس – هي كذلك، لكن من منظور سعيد الرئيس الأمر يختلف ولا يستحق التعقيب أصلًا.
تطبيع على المباشر بين #تونس و #اسرائيل
الوزيرة الاولى التونسية نجلاء بودن في حديث مع الرئيس الإسرائيلي يتسحاق هرتسوغ اثناء التقاط الصورة الجماعية لقادة الدول المشاركة في مؤتمر المناخ المنعقد بشرم الشيخ بمصر!
هل سيعتبرها قيس سعيد خيانة عظمى؟؟ pic.twitter.com/1dxSf0erZP
— وليد كبير – Oualid KEBIR ?? (@oualido) November 7, 2022
لن يتوقف سعيد أمام ما اقترفته بودن، فيمكن أن يكون الأمر منسقًا من قبل، ولن نسمع له صوتًا في هذا الشأن، فهذه ليست المرة الأولى التي يقف فيها مسؤول تونسي عينه سعيد، إلى جانب مسؤول إسرائيلي، فقد تكرر الأمر في مناسبات عديدة.
سبق أن جلس وزير الدفاع التونسي في نفس الطاولة مع نظيره الإسرائيلي، ولم يعقّب سعيد عن ذلك، كما استقبلت بلاده رحلات مباشرة من تل أبيب وفتحت أبوابها للاعبين إسرائيليين للعب فوق أراضيها وسمحت لذهاب سياح تونسيين نحو كيان الاحتلال وتفهمت تطبيع الدول العربية وقالت إن ذلك وجهة نظر وشأن داخلي.
سيصمت سعيد كما صمت من قبل، رغم أن تونس كانت ضحية لجرائم عديدة نفذها كيان الاحتلال الإسرائيلي، مثل قصف مدينة حمام الشط عام 1985، واغتيال القياديين الفلسطينيين بتونس أبو جهاد وأبو إياد سنتي 1988 و1991، وأخيرًا اغتيال مهندس الطيران التونسي محمد الزواري بصفاقس في 15 ديسمبر/كانون الأول 2016.
استعداد تونس للتطبيع
وأكثر من الصمت، قد يبدأ سعيّد بنفسه سلوكات تحمل صبغة تطبيعية، وهذا بالنظر إلى أن نظامه يهيئ الشعب التونسي لتطبيع قادم مع كيان الاحتلال الصهيوني، خاصة أن النظام ومن ورائه تمكنوا من تحييد المنظمات التي كانت إلى وقت قريب تدعي الدفاع عن القضية الفلسطينية.
العديد من المنظمات المدنية في تونس، اختارت الصمت هي الأخرى على رأسها اتحاد الشغل، بعد أن قادت المظاهرات في أوقات سابقة للمطالبة بسن قانون يجرم التطبيع في الدستور التونسي، فالوقت الآن لا يسمح لها بالتظاهر.
أمام هذا التوجه الرسمي نحو التطبيع، هناك رفض شعبي كبير له، فالتونسيون يعتبرون القضية الفلسطينية قضيتهم الأولى
يعني هذا أن تونس مقبلة على تطبيع محتمل مع الاحتلال، أسوة بالإمارات والبحرين والمغرب والسودان، رغم ادعاء نظام سعيد في وقت سابق أن بلاده غير معنية بهذه المسألة، وأن موقف تونس لا تؤثر فيه التغيرات الدولية.
التطبيع القادم يُفهم أيضًا، من رفض سعيد إدراج تجريم التطبيع في الدستور التونسي الجديد الصادر في الجريدة الرسمية التونسية نهاية يونيو/حزيران الماضي، فرغم إمساكه بكل السلطات وعدم وجود أي جهة تربك عمله وتوجهه، فإن سعيد تجاوز هذه المسألة أيضًا وتجاهلها.
وسبق أن تحدثت الصحف الإسرائيلية عن وجود رغبة تونسية للتطبيع، إذ أشارت صحيفة “إسرائيل اليوم” العبرية إلى أن قيس سعيد أوعز بتسهيل زيارات الإسرائيليين إلى بلاده، لكن المعارضة في الداخل حالت دون رغبته في المضيّ بمساعي التطبيع مع “إسرائيل”.
من يدفع النظام للتطبيع؟
مؤشرات التطبيع ظاهرة للعيان ولا أحد ينكرها، لكن من يدفع النظام إلى اقتراف هذه “الخطيئة”؟ يمكن القول إن المتغيرات الدولية تدفع سعيد إلى التخلي عن المبادئ التي لطالما ردّدها على مسامع التونسيين قبل أن يكون رئيسًا للبلاد.
رئيسة وزراء #تونس تتحدث مع رئيس #اسرائيل في #قمة_المناخ و تبتسم له …فعلا قمة #مصر فرشات كلشي ? pic.twitter.com/ISO38lAn26
— السلطان الشارجان Soltane Charjane (@SoltaneCharjane) November 8, 2022
هناك توجه عام في المنطقة العربية إلى التطبيع مع الإسرائيليين، فبعد تطبيع كل من الإمارات والبحرين والمغرب والسودان، هناك دول أخرى على قائمة الانتظار من بينها المملكة العربية السعودية وليبيا، وفي حال طبعت هذه الدول سيصل التطبيع إلى دول أخرى.
إلى جانب المتغيرات الدولية، هناك من يدفع للتطبيع من الداخل، إذ يوجد لوبي داخل تونس يدفع إلى التطبيع دفعًا ويزينه أمام التونسيين لغايات كثيرة، أبرزها الجانب المالي، فهم يرون أن العلاقات مع الإسرائيليين تأتي معها موارد مالية عديدة للبلاد.
أمام ابتسامات التطبيع هذه، هناك رفض شعبي كبير له، فالتونسيون يعتبرون القضية الفلسطينية قضيتهم الأولى ويرون الكيان الصهيوني كيانًا مجرمًا مغتصبًا لأرض فلسطين، ولا بدّ لهذه الأرض أن ترجع إلى أصحابها.