رغم ارتياح إيران لنجاح حلفائها في العراق بتشكيل الحكومة الجديدة بعد عام تقريبًا من حالة الانسداد السياسي، إلا أن هذا الارتياح يقابله أرق إيراني من ملفات أخرى لم تحسَم حتى اللحظة، والتي يأتي في مقدمتها مستقبل نفوذها والحوار مع السعودية والعلاقة مع الولايات المتحدة، بل يمكن القول إن هذه الملفات الثلاثة ستؤدي دورًا مهمًّا بإعادة رسم الملامح الجديدة للدور الإيراني في العراق بعد تشكيل حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني.
إذ إن المراهنة الإيرانية على أن تؤدي حكومة السوداني دورًا في إعادة تشغيل حلقات النفوذ الإيراني بالعراق، قد لا تصل إلى نهايات واضحة، وهي حالة أرادت إيران عبر دعمها لعملية تشكيل الحكومة أن تتجاوز مرحلة ما بعد حكومة مصطفى الكاظمي.
فالإجراءات الحكومية التي اتخذها السوداني من قبيل تفكيك العديد من شبكات تجارة المخدرات في الأيام القليلة الماضية، وإبعاد المناصب الأمنية والاستخباراتية عن المحاصصة السياسية وإدارتها من موقع أدنى، على عكس رغبات الفصائل المسلحة الموالية لإيران؛ أدت إلى ترسيخ صورة بعيدة عن التصور الإيراني، وهو تصور يقوم على فكرة رئيس الوزراء المهادن وليس المواجه.
يمكن القول إن السوداني قد لا يذهب بعيدًا في خياراته الحكومية المعارضة لإيران، لأنه بالنهاية ثمرة تحالف سياسي مقرّب من إيران، إلا أنه من جهة أخرى بحاجة إلى بلورة صورة رئيس الوزراء غير الخاضع لإيران أمام الداخل والخارج، فحتى هذه اللحظة ما زالت العديد من الأوساط العراقية والإقليمية تعتبره شخصية خاضعة لتأثير رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، إلى جانب علاقاته الجيدة مع العديد من قيادات الفصائل المسلحة.
المعضلة لا تكمن في الداخل فقط
مشكلة إيران أن تنوُّع أدوارها في العراق وشمولها واتساعها، جعل منها حالة متداخلة في جميع جزئيات الساحة العراقية، وهذه المشكلة جعلت من العراق ساحة مهمة لتصفير المشاكل مع الخارج، ويبرز في هذا الصدد ملف الحوار السعودي الإيراني الذي توقف بعد انتهاء مهام حكومة الكاظمي.
إذ تشير المعلومات إلى أن السعودية أرسلت رسالة إلى الجانب الإيراني عبر وسيط عراقي، بأنها لم تعد راغبة باستئناف الجولة السادسة من الحوار السعودي الإيراني، وأن جولات هذا الحوار لا يوجد ما يشجّعها على الاستمرار، في ضوء الاتهامات الإيرانية المستمرة للسعودية بالوقوف خلف الاحتجاجات التي تشهدها إيران.
هذا إلى جانب أن الطبقة السياسية الحالية في العراق لا يوجد فيها ما يمكن أن تعتمد عليه السعودية للقيام بهذه المهمة، فالعديد من دول الخليج، ومنها السعودية، ما زالت مترددة في الانفتاح على الحكومة العراقية بقيادة السوداني، رغم ترحيبها بعملية تشكيلها.
تردُّد حكومة السوداني في ضبط حركة الفصائل المسلحة الموالية لإيران، قد يشجّع الحرس الثوري للمضيّ قدمًا في ترسيخ الدور الإيراني في العراق، إلى جانب محاولة احتواء المنافسين.
وفي هذا السياق أيضًا، يشير صعود الجمهوريين في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس الأمريكي، إلى أن هناك تحولًا مهمًّا سيطرأ على طبيعة العلاقات الأمريكية الإيرانية في العراق، إذ ستؤدي الأغلبية التي سيمتلكها الجمهوريون إلى السيطرة والتأثير على قرارات الرئيس الأمريكي جو بايدن، وتحديدًا فيما يتعلق بمحاولات إحياء الاتفاق النووي مع إيران.
بل قد تؤدي عملية اغتيال عامل إغاثة أمريكي يدعى ستيفن ترويل في بغداد يوم 7 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، وتبنّي فصيل سرايا أهل الكهف المقرّب من عصائب أهل الحق هذه العملية، انتقامًا لعملية اغتيال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس في يناير/ كانون الثاني 2020، إلى دخول العلاقات بين الطرفَين بمرحلة جديدة من التصعيد.
وفي هذا السياق، تعرّضت عشرات الصهاريج النفطية وناقلات أسلحة كانت في طريقها من داخل العراق نحو مدينة دير الزور السورية، لهجوم مجهول نفّذته طائرات مسيّرة، سقط على إثره العديد من القتلى والجرحى في صفوف عناصر إيرانية وعراقية، حيث أشارت العديد من قنوات تيلغرام التابعة للفصائل الولائية إلى إن ما لا يقلّ عن 25 عنصرًا “استشهدوا” في هذه الهجمات.
وفيما نفى الجيش الأمريكي صلته بهذه الهجمات، رفضت “إسرائيل” التعليق عليها، في عودة على ما يبدو لاستراتيجية “الهجمات الشبحية” التي اعتادت “إسرائيل” تنفيذها، والتي تأتي مترافقة مع فوز بنيامين نتنياهو بالانتخابات العامة الإسرائيلية، إذ يولي نتنياهو أولوية قصوى لإبعاد أي تهديد إيراني عن الحدود الشمالية لـ”إسرائيل”، سواء عبر استهداف المواقع الإيرانية في الداخل السوري أو قطع خطوط الدعم اللوجستي عن “حزب الله” اللبناني.
وبالتوافق مع كل ما تقدّم، تشكل الاحتجاجات المناهضة للنظام في إيران بدورها ضاغطًا آخر على الدور الإيراني في العراق، إذ لم يتوقف الأمر على استمرار الاحتجاجات واتساعها، بل بدأت تتعلق بمستقبل هذا النظام وسياسته الخارجية، حيث بدأت تُطرح في الآونة الأخيرة مطالبات شعبية إيرانية تتعلق بالاستفتاء على بقاء أو رحيل النظام.
حيث أبدى مسؤولون إيرانيون رفضهم لمطالب تنظيم استفتاء عام حول أصل النظام، وتوقعوا تراجُع الاحتجاجات، في حين استمرت التجمعات في عدة مدن إيرانية، بما في ذلك الجامعات، خلال الأسبوع الثامن على الاحتجاجات.
الخبرة السياسية التي اكتسبتها إيران في العراق خلال الفترة الماضية، والأدوات السياسية والأمنية التي تملكها، ستجعلان إيران قادرة على تجاوزها بأقل الخسائر
وقال محمد حسيني، نائب الرئيس الإيراني للشؤون البرلمانية، في كلمة أمام طلاب جامعة “تربيت مدرس” بطهران: “نحن النظام الوحيد الذي اُنتخب على أساس الاستفتاء”، في إشارة إلى الاستفتاء الذي أعقب ثورة 1979، واستبعد حسيني التجاوب مع المطالب المطروحة، قائلًا: “لا يمكن طرح أصل النظام للاستفتاء”.
إجمالًا، إن تردُّد حكومة السوداني في ضبط حركة الفصائل المسلحة الموالية لإيران، قد يشجّع الحرس الثوري للمضيّ قدمًا في ترسيخ الدور الإيراني في العراق، إلى جانب محاولة احتواء المنافسين (مقتدى الصدر)، وهو ما قد ينبئ بتداعيات خطيرة على الواقع العراقي، خصوصًا أن حكومة السوداني خاضعة لتأثير قوى الإطار التنسيقي، وفي مقدمتها المالكي.
ورغم المزاحمة الاستراتيجية التي تواجهها إيران بالعراق، عبر الأدوار العربية والتركية، فضلًا عن تحولات الداخل العراقي، إلا أن الخبرة السياسية التي اكتسبتها إيران في العراق خلال الفترة الماضية، والأدوات السياسية والأمنية التي تملكها، ستجعلان إيران قادرة على تجاوزها بأقل الخسائر، وهو ما قد يعطي الحرس الثوري قوة دفع أكبر للمضيّ بسياسات الهيمنة والنفوذ في الداخل العراقي.