كم من الوقت باعتقادك يتطلبه بناء مستشفى متوسط الحجم بسعة 400 سرير؟ عامَين؟ ثلاثة؟
في محافظة الديوانية العراقية يقبع أحد المستشفيات الشهيرة، المستشفى الأسترالي، الذي انطلق العمل به عام 2008، ولم يظهر إلى العلن مرة أخرى إلا حين أعلنت السلطات المحلية استئناف العمل به في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2021، وما بين هذا وذاك قبع بناء المستشفى 13 عامًا دون إعمار رغم دفع كل الأموال اللازمة لإنجازه.
المستشفى الأسترالي ليس سوى مثال بسيط على طبيعة إهدار الموارد في العراق من خلال المشاريع التي ينطلق بعضها، بينما يبقى بعضها الآخر على الورق، وفي كلتا الحالتَين تستمر خزينة العراق بالنزيف لجيوب الفاسدين.
أولًا: المشاريع الوهمية
تكمن مشكلة المشاريع الوهمية في العراق بغياب الرقابة، حيث يقول النائب في البرلمان العراقي، جمال كوجر: “ارتفعت نسبة المشاريع الوهمية في السنوات السابقة، بعد أن كانت هناك أموال كبيرة في الدولة العراقية، بعض الوزارات أحالت المشاريع إلى الشركات، وقامت هذه الشركات بسحب الأموال دون تنفيذ المشروع، دون وجود رقابة على الإنجاز أو نسب الإنجاز”.
لا يوجد إحصاءات رسمية للمبالغ التي خسرتها البلاد جرّاء المشاريع الوهمية، لكن تقديرات نيابية تشير إلى وصولها مئات مليارات الدولارات، حيث يقول عضو اللجنة المالية في البرلمان، علاء ذيبان: “كان يفترض بالعراق بعد عام 2005 أن يشهد ثورة عمرانية كبيرة في كافة المجالات لوجود موازنات “انفجارية”، لكن للأسف الشديد ذهبت هذه الموازنات إلى جيوب الفاسدين عن طريق المشاريع الوهمية التي أصبحت واحدة من أخطر نوافذ الفساد في العراق، ما أدّى إلى تراجع الخدمات بشكل كبير في كافة المجالات”.
وأضاف: “ما يقارب 300 مليار دولار أنفقتها الحكومات العراقية المتعاقبة منذ عام 2005 ولغاية اللحظة على مشاريع وهمية لا وجود لها على أرض الواقع، استغلّها الفاسدون لبناء إمبراطورياتهم الشخصية والحزبية”، منوّهًا إلى أن بعض الشخصيات أصبحت بفضل هذه المشاريع ذات ثراء فاحش، بعدما كانت تعيش تحت خط الفقر داخل العراق وخارجه.
المشاريع التي لا تزال قيد التنفيذ تزيد عن 7 آلاف مشروع، فيما تبلغ المشاريع المتلكّئة ألفًا و452 مشروعًا
تشير مصادر وزارة التخطيط إلى أن المشاريع التي لا تزال قيد التنفيذ تزيد عن 7 آلاف مشروع، فيما تبلغ المشاريع المتلكّئة ألفًا و452 مشروعًا، ويعد ملف المشاريع الوهمية من أكثر الملفات الشائكة في العراق، وتتحدث مصادر برلمانية عن عدم وجود جدّية في هيئة النزاهة لمعالجة الملف، إذ تقوم بمساومة أصحاب المخالفات مقابل إغلاقه، هذا فضلًا عن الملفات التي لا تصل إلى النزاهة أصلًا.
من أمثلة المشاريع الوهمية بحسب المصادر ذاتها، هدم نحو 1000 مدرسة في مختلف مناطق العراق ما بين عامَي 2010 و2012 على أساس أن يتم بناء مدارس محلها، لكن في الحقيقة لم تنشأ أي مدرسة جديدة، بالإضافة إلى تخصيص أكثر من 800 مليون دولار لبناء 5 مستشفيات لكنها ما زالت على الورق فقط ولا وجود لها على أرض الواقع، إضافة إلى مجمّعات سكنية في كربلاء والبصرة، ومختبرات طبية حديثة، ومراكز طبية للنساء والأطفال، وملاعب رياضية وحدائق، ومراكز محو أمية، ومشاريع نقل مختلفة لم يتم إنجازها.
يقول الخبير في شؤون الفساد، محمد رحيم، إن الأموال المهدورة على المشاريع الوهمية تقدَّر نسبتها بين 25% و45% من الموازنة العامة، وبالإضافة إلى ذلك هناك مبالغ البترودولار التي تصرف للمحافظات المنتِجة للنفط والغاز، حيث تقدّر هذه الأموال بأكثر من تريليون دينار حتى عام 2019، بموجب تقارير الجهات الرقابية في العراق.
وبحسب رحيم: “تتراوح الأموال المهدورة بين 6 و10 أضعاف المبالغ المقررة، لأن المسؤول الفاسد عندما يريد أن يسرق مبلغ 10 ملايين دينار، يقوم بإبرام عقد أو صفقة بمبلغ 100 مليون دينار لكي يغطّي على صفقة الفساد التي أبرمها للحصول على المنفعة الخاصة، والمشروع المتعاقد عليه قد لا يكون البلد أو الجهة التي ينتمي إليها بحاجة ماسّة إليه، بينما هناك مشاريع تلبّي حاجات أهم قام بتركها”.
الأموال المهدورة على المشاريع الوهمية تقدَّر نسبتها بين 25% و45% من الموازنة العامة
النائب السابق فلاح الخفاجي تحدّث أيضًا عن مشاريع انطلقت منذ أعوام 2008 و2009 و2011 دون إتمامها حتى الآن، إذ قال: “أغلب المحافظات كبابل ومثنى وذي قار فقيرة جدًّا ومع أية زخة مطر تغرق شوارعها، وهذا الموضوع يتحمله المحافظون الذين لم ينصفوا المحافظات، الكثير من المبالغ المسروقة تمّ تسريبها خارج العراق وإيداعها في البنوك الأجنبية عبر فاسدين منهم وزراء وشخصيات، وإذا تم تفعيل الإنتربول بشكل جيد وكان للعراق علاقات جيدة مع دول العالم، سيتمكن من إعادة تلك الأموال التي قيمتها من الممكن أن تساهم في إعماره شريطة إنهاء الفساد في المشاريع”.
ثانيًا: المشاريع غير المنجزة
في بلد مثل العراق، حيث المركزية الحكومية تتحكم بكل شيء، تتحكم الجهات الحكومية بأغلب المشاريع باعتبار أن الموازنة العامة هي مصدر التمويل الرئيسي للبلاد، ولذلك تخصّص الحكومة سنويًّا جزءًا من الموازنة العامة لغرض الاستثمار، وهو ما يُعرَف بالموازنة الاستثمارية التي تختلف قيمتها حسب الموازنة كل عام، لكنها عادةً تتراوح ما بين ربع إلى ثلث الموازنة.
يهدف إقرار الموازنة الاستثمارية إلى تنويع المشاريع وتوزيعها على المؤسسات والمحافظات المختلفة، لتحقيق أمرَين في وقت واحد: تطوير البنى التحتية وتحريك الاقتصاد، واحتواء اليد العاملة؛ وتقوم الجهات المعنية بإحالة هذه المشاريع إلى جهات أخرى، كما أشرنا في مقدمة المقال، لكنها تقوم أيضًا بتنفيذ المشاريع بواسطة دوائرها والشركات التابعة لها، وهنا قصة فساد جديدة.
لا تقدّم الحكومة العراقية إحصاءات دورية دقيقة حول نِسَب الإنجاز في دوائر الحكومة الرسمية، لكن أحد التقارير التي نشرها ديوان الرقابة المالية عام 2019 لمنجزات الدوائر الرسمية لذلك العام، يعطي نظرة حول طبيعة عمل الحكومة العراقية ونِسَب الإنجاز المتدنية، رغم توفر الموارد اللازمة.
ويشير التقرير إلى معدل نسبة لا يتعدى 28% كمعدل للداوئر كافة، بينما تشير الأرقام إلى وصول نِسَب الإنجاز في بعض الدوائر إلى 0%.
وفيما يلي جدول بنِسَب إنجاز كل دائرة كما وردت في تقرير ديوان الرقابة المالية:
نتائج تنفيذ الموازنة العامة حتى 30 سبتمبر/ أيلول 2019
أسماء الجهات |
الموازنة الجارية |
الموازنة الاستثمارية |
إجمالي الموازنة العامة |
نسبة التنفيذ |
نسبة التنفيذ |
نسبة التنفيذ |
|
مجلس النواب |
0.707 |
0.004 |
0.678 |
رئاسة الجمهورية |
0.474 |
0 |
0.454 |
مجلس الوزراء |
0.661 |
0.23 |
0.569 |
وزارة الخارجية |
0.267 |
0 |
0.257 |
وزارة المالية |
0.612 |
0.047 |
0.609 |
وزارة الداخلية |
0.733 |
0.002 |
0.704 |
وزارة العمل والشؤون الاجتماعية |
0.553 |
0 |
0.536 |
وزارة الصحة والبيئة |
0.455 |
0.029 |
0.409 |
وزارة الدفاع |
0.618 |
0.002 |
0.469 |
وزارة العدل |
0.544 |
0.089 |
0.517 |
وزارة التربية |
0.683 |
0.084 |
0.644 |
وزارة الشباب والرياضة |
0.61 |
0.685 |
0.65 |
وزارة التجارة |
0.487 |
0 |
0.479 |
وزارة الثقافة |
0.567 |
0.432 |
0.566 |
وزارة النقل |
0.445 |
0.012 |
0.084 |
وزارة الإعمار والإسكان والبلديات العامة |
0.523 |
0.041 |
0.125 |
وزارة الزراعة |
0.187 |
0.013 |
0.153 |
وزارة الموارد المائية |
0.527 |
0.252 |
0.373 |
وزارة النفط |
0.009 |
0.504 |
0.404 |
وزارة التخطيط |
0.279 |
0.052 |
0.207 |
وزارة الصناعة والمعادن |
0.665 |
0.483 |
0.652 |
وزارة التعليم العالي والبحث العلمي |
0.634 |
0.036 |
0.606 |
وزارة الكهرباء |
0.177 |
0.037 |
0.111 |
وزارة الاتصالات |
0.456 |
0.405 |
0.437 |
وزارة المهجّرين والمهاجرين |
0.13 |
0 |
0.13 |
حكومة إقليم كردستان |
0.498 |
0 |
0.417 |
دوائر غير مرتبطة بوزارة |
0.401 |
0.648 |
0.453 |
محافظة البصرة |
0.708 |
0.481 |
0.596 |
محافظة نينوى |
4.163 |
0.006 |
0.266 |
محافظة بغداد |
0.721 |
0.331 |
0.659 |
محافظة ذي قار |
0.741 |
0.241 |
0.653 |
محافظة ديالى |
0.737 |
0.065 |
0.661 |
محافظة بابل |
0.738 |
0 |
0.578 |
محافظة الأنبار |
5.447 |
0.732 |
1.767 |
محافظة ميسان |
0.687 |
0 |
0.462 |
محافظة واسط |
0.727 |
0.215 |
0.623 |
محافظة النجف الأشرف |
0.735 |
0.418 |
0.691 |
محافظة الديوانية |
0.775 |
0.114 |
0.686 |
محافظة المثنى |
0.7 |
0.134 |
0.61 |
محافظة كربلاء |
0.707 |
0.565 |
0.688 |
محافظة صلاح الدين |
3.665 |
0 |
0.655 |
مجلس الدولة |
0.559 |
– |
0.559 |
مجلس القضاء الأعلى |
0.741 |
0.209 |
0.74 |
المحكمة الاتحادية العليا |
0.165 |
– |
0.165 |
المجموع العام |
0.57 |
0.284 |
0.499 |
بيّن التقرير أن مجموع ما أُنفق من الموازنة الاستثمارية بلغ 7.8 مليارات دولار من أصل 27.8 مليارًا (28% فقط منها)، بينما تكشف أرقام الوزارات الخدمية ذات الاحتكاك المباشر مع حاجة المواطن حجم التقاعس الذي تشهده السلطة التنفيذية، فلم تنفق وزارة الكهرباء إلا 3.7% من مخصّصاتها الاستثمارية، ووزارة الإسكان اكتفت بـ 4.1%، ووزارة الزراعة بـ 1.4%، ووزارة التعليم بـ 3.6%، ووزارة الصحة بـ 2.9%.
أما المحافظات فلم تكن أفضل حالًا: محافظة بغداد 33.1%، البصرة 48.1%، كربلاء 56%، ذي قار 24.1%، الديوانية 11.4%، بابل 0%.
تترجم هذه الإحصاءات مدى التلكُّؤ الحكومي الحاصل في الدولة، وهو انعكاس لحالة المحاصصة وغياب الرقابة على الأداء الحكومي، وكانت النتيجة النهائية لهذا التلكُّؤ اندلاع مظاهرات كبيرة في تشرين من العام 2019، والتي استمرت حتى انتشار جائحة كورونا في العراق منتصف العام 2020.