قبل أكثر من 8 سنوات، أطلق الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند عملية البرخان في منطقة الساحل والصحراء الإفريقية للتصدّي للإرهاب هناك، عملية أعلن أمس الأربعاء الرئيس إيمانويل ماكرون نهايتها رسميًا، بعد تنامي العداء الشعبي للقوات الفرنسية في القارة الإفريقية ورغبة باريس في العمل بعيدًا عن الأضواء خشية على قواتها العسكرية.
انسحاب رسمي
في خطابه عن الإستراتيجية العسكرية الجديدة لفرنسا، أعلن ماكرون إنهاء مهمة قوة برخان لمكافحة الإرهاب في إفريقيا، المكونة من أكثر من ثلاثة آلاف جندي مع عتاد متنوع من بينه: 200 سيارة رباعية الدفع و200 مدرعة و4 طائرات دون طيار و6 طائرات مقاتلة و10 طائرات نقل و20 مروحية.
إنهاء مهمة برخان تزامن مع كشف الرئيس الفرنسي عن الخطوط العريضة للإستراتيجية العسكرية الجديدة لبلاده، وفي خصوص الإستراتيجية المتعلقة بإفريقيا أكّد ماكرون أنها ستكون جاهزة في غضون ستة أشهر بعد مشاورات باريس مع شركائها في القارة.
يذكر أن عملية “برخان” استلمت المشعل من عمليتي “سرفال” و”إيبرفييه”، في كل من مالي وتشاد، في الأول من أغسطس/آب 2014، لتتخذ حينها بعدًا إقليميًا بررته مصالح فرنسا الإستراتيجية في الساحل الإفريقي والتهديدات التي تواجهها المنطقة، وعلى رأسها محاربة الإرهاب.
السبب الأبرز لإنهاء هذه العملية، هو سعي فرنسا لوضع حدّ لما تتعرض له قواتها العسكرية من استهداف متواصل
ضمت هذه القوة 3500 عسكري فرنسي، موزعين على خمس قواعد متقدمة مؤقتة وثلاث نقاط دعم دائمة ومواقع أخرى، لا سيما بالعاصمة البوركينية واغادوغو وعطار الموريتانية، وفق وزارة الدفاع الفرنسية، خلال هذه العملية لقي العشرات من الجنود الفرنسيين مصرعهم.
صحيح أن فرنسا أنهت عملية برخان، لكن من المستبعد أن يترتب على ذلك أي تبعات فورية على الجهاز العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، فأغلب الجنود سيتمركزون في النيجر بعد اختيارها مركزًا لقيادة العمليات العسكرية المناهضة للإرهاب، عوضًا عن مالي.
ومن المنتظر أن يبقى آلاف الجنود الفرنسيين في المنطقة، لكن هذه المرة لن يتحركوا بمفردهم وإنما بالتنسيق مع الجيوش المحلية، كما لن يكون لهم تسمية رسمية، وبالتالي فإن الوجود الفرنسي لم يعد عملية خارجية كما كان عليه الوضع مع عملية برخان.
سياق القرار
قرار إنهاء عملية البرخان جاء في سياق تنامي موجة الرفض الشعبي للوجود الفرنسي في دول إفريقية عدة، إذ شهدت العديد من المدن الإفريقية احتجاجات شعبية، تنديدًا بالنفوذ الفرنسي في القارة السمراء والمطالبة بإنهاء ما يسموه “الاستعمار الفرنسي المستمر”.
في هذه الاحتجاجات المتتالية، تم إحراق العلم الفرنسي واستهداف العديد من المنشآت الفرنسية، ضمن موجة غضب عام تواجهه باريس في عدد من الدول الإفريقية في الفترة الأخيرة، على غرار مالي وتشاد وليبيا والجزائر على خلفية اتهامات بالتدخل في شؤون البلدان ودعم الأنظمة الاستبدادية.
تعلم باريس أنها في مأزق كبير، نظرًا إلى سياستها الاستعمارية الهادفة إلى التحكم في قرار الدول الإفريقية السيادي ونهب ثرواتها الباطنية ومواردها المالية، لذلك سارعت إلى إنهاء عملية برخان في منطقة الساحل والصحراء.
ماكرون ينهي عملية برخان في أفريقيا بشكلٍ علني , في وقتٍ لا يمكن فيه لفرنسا أن تستغني عن مرتزقتها ولصوصيتها ودورها الوضيع في أفريقيا…
إن عادت فرنسا إلى فرنسا لن يبقى منها سوى أجبانها المتعفنة على مقعد الرئاسة
ماكرون ينسحب في العلن وسيبقى تحت عناوين أخرى
— [email protected] (@MichelKalaghas2) November 9, 2022
من أسباب هذا القرار أيضًا، سعي قادة العديد من الدول الإفريقية للابتعاد عن فرنسا، واتجاههم نحو تحالفات جديدة على غرار تركيا وروسيا التي تسعى لتعزيز نفوذها ومكانتها السياسية في منطقة الساحل والصحراء لعدة أسباب، منها السياسي والاقتصادي والعسكري والأمني.
وتتطلع العديد من الدول الإفريقية التي سبق أن وقعت اتفاقيات دفاعية مع فرنسا، كالكاميرون والنيجر ونيجيريا ومالي وموريتانيا، إلى توقيع اتفاقيات دفاعية – أو وقعت فعليًّا – مع كل من روسيا وتركيا، خاصة أن هاتين الدولتَين تُعرفان بإنتاجهما لأسلحة متطورة بأثمان رخيصة مقارنة بالأسلحة الفرنسية.
ومؤخرًا، فقدت فرنسا نفوذها في دول عدة، على غرار تشاد ومالي وبوركينافاسو وليبيا لصالح روسيا، التي أفلحت في إحكام سيطرتها على هذه الدول بفضل سياستها التي تعتمد على دعم الأنظمة بالسلاح ومرتزقة فاغنر.
ليس هذا فحسب، حيث اتهم المجلس العسكري الحاكم في باماكو، فرنسا ، بالتجسس وارتكاب أعمال تخريب والوقوف وراء تدريب من وصفهم بـ”الجماعات الإرهابية” الناشطة في البلاد، وتغذية الإرهاب في مالي ومنطقة الساحل والصحراء ككل.
صحيح أن أهداف فرنسا المعلنة لم تتحقق، لكن يبدو أن أهدافها غير المعلنة تحققت
كما أن للحرب الروسية ضد أوكرانيا دخل في القرار، فهذه الحرب غيرت ترتيب الأولويات بالنسبة لباريس، وجعلتها تقرر مراجعة خياراتها وإستراتيجياتها وتوجيه مواردها العسكرية إلى منطقة أخرى بدل إنفاقها على حرب خاسرة في إفريقيا.
فضلًا عن ذلك، أثر التصدّع الداخلي والأزمات الاقتصادية التي تشهدها حكومة ماكرون على سياسات البلاد الخارجية، ففرنسا ترى أنها لا تستطيع التكفل بمفردها بتمويل عملية برخان العسكرية، خاصة أن شركاءها الأوروبيين والولايات المتحدة رفضوا تمويل العملية في وقت سابق.
مخاوف فرنسية
لكن السبب الأبرز لإنهاء هذه العملية، هو سعي فرنسا لوضع حد لما تتعرض له قواتها العسكرية من استهداف متواصل، من خلال الحد من ظهورها العلني والتركيز على الدعم اللوجستي والاستخباراتي للدول التي ترغب في ذلك، وفق الإليزيه.
خلال هذه العملية، سقط العديد من القتلى في صفوف الجيش الفرنسي، فقد فقدت باريس أكثر من 58 جنديًا منذ بداية عملياتها العسكرية في منطقة الساحل والصحراء، ما أدى إلى نفاد صبر الفرنسيين من هذه العملية العسكرية.
وتخشى سلطات فرنسا، تزايد العمليات العسكرية ضدها وخسارة جنود آخرين في المنطقة، وهو ما سيؤثر على مستقبل ماكرون السياسي ويساهم في تراجع شعبيته، بعد الخسارة الكبيرة التي لحقت بحزبه في الانتخابات التشريعية الأخيرة.
هل تحققت أهداف برخان؟
الهدف الأصلي من وراء إطلاق عملية برخان سنة 2014، كان وقف انتشار الجماعات المسلحة وتعزيز الشراكة مع الجيوش المحلية، لكن بالنظر إلى واقع الميدان نرى أن هذه الأهداف لم يتحقق منها أي شيء يذكر، بل العكس ما حصل.
الشراكة الإستراتيجية التي ركزت عليها فرنسا لم تتحقق، بل تبددت وننظر إلى علاقات فرنسا بالسلطات المالية، حيث تتهم هذه الأخيرة باريس بالتجسس وانتهاك سيادة البلاد وطردت قواتها العسكرية من أراضيها، وسمحت لروسيا أن تحل محلها.
الوضع لا يختلف كثيرًا في تشاد التي تعتبر بالنسبة لفرنسا أحد أهم مفاصل العمود الفقري الفرنسي في إفريقيا، فهناك تراجع نفوذ فرنسا كثيرًا حيث يعتقد التشاديون أن باريس سبب رئيس في انهيار المشروع الوطني لبلادهم.
الرئيس ماكرون يعلن رسميا نهاية عملية برخان العسكرية في دول الساحل الأفريقي#ماكرون #برخان #أفريقيا pic.twitter.com/kNF6UKfU9f
— فرانس بالعربي (@Franeenarabe) November 9, 2022
كذلك إفريقيا الوسطى التي سيطرت عليها روسيا وتراجع نفوذ فرنسا كثيرًا، ما أدى إلى تراجع النفوذ الفرنسي في إفريقيا بأكملها، ما يعني أن الشراكة الإستراتيجية التي كان تبحث عنها باريس لم تتحقق وما حصل هو عكس ذلك.
أما الهدف الثاني من عملية برخان العسكرية وهو القضاء على الإرهاب في هذه المنطقة الحيوية، فهذا لم يتحقق ولن يتحقق في القريب، وتظهر العديد من المؤشرات ذلك، فشمال مالي لم يسترجع بعد، ومناطق بكاملها لا تزال خارجة عن سيطرة القوات المالية والأجنبية التي تتعرض بشكل متواصل لهجمات دامية.
كما انتشرت الجماعات المسلحة في العديد من مناطق الصحراء والساحل وأصبحت مناطق عدة غير خاضعة للحكم، ذلك أن القوات الفرنسية والجيوش المحلية لم تستطع احتواء انتشار انعدام الأمن واتساع رقعة نشاط الجماعات المسلحة.
ما نفهمه من التطورات الحاصلة في منطقة الساحل والصحراء أن الجماعات المسلحة زادت قوتها من خلال دفع ملايين الدولارات لها، مقابل الإفراج عن بعض الرهائن لديها، رغم تجريم الأمم المتحدة الفدية وحتى المقايضة بالإرهابيين والتنازلات السياسية وتأمين إطلاق سراح الرهائن.
الآن، أصبحت هذه الجماعات تُنَوِّع طرق تنفيذ عملياتها، فهي تعتمد على الضربة القوية والسريعة وفي نفس الوقت نجد هذه الجماعات تُحوِّل ميدان نشاطها وتضرب في قلب عواصم دول الساحل الإفريقية، ما يعني أنها ازدادت قوة.
صحيح أن أهداف فرنسا المعلنة لم تتحقق لكن يبدو أن أهدافها غير المعلنة تحققت، إذ تتهم باريس بنهب ثروات دول المنطقة والسيطرة على مواردها المالية، ما جعل هذه الدول تزداد فقرًا وشعوبها تزداد معاناة.