أصدقاؤنا العرب المعجبون بالمجتمع المدني التونسي، وخاصة بعلامته الفارقة الاتحاد العام التونسي للشغل، يمكنكم تصحيح الصورة السائدة كذبًا وبهتانًا، ثم غسل أيديكم على قبر النقابة الأشهر عربيًّا، لقد وقعت في شرّ أفعالها واُفتضحت، ولكم أن تتابعوا أخبار التطبيع الجاري في تونس لتسمعوا صمت النقابة الفاضح.
لقد لحسَت تاريخًا طويلًا من الصراخ “يا قدس إنّا قادمون”، وتتوارى عن الأنظار والتطبيع جارٍ على قدم وساق، ما من مكرمة في ذلك للنقابة وللبلد خاصة سوى أن حبل النفاق والكذب انقطع، ليقف الناس على الحقيقة عارية وليعتمدوا غير النقابة سبيلًا للنضال إن كانت فيهم بعد بقية من عزيمة، وسيكذب على الناس من سيردد إن النقابة بريئة إنما هم النقابيون، وهذا وهْم آخر يسقط قريبًا.
حشر الشعب في حاجته الغريزية
تحت أنظار النقابة التي كانت توقف العمل الدراسي من أجل فقدان الطباشير في مدرسة ريفية، وكانت توقف حركة النقل العمومي من أجل خروف العيد، يقوم التونسيون كل صباح يلهثون خلف علبة حليب ووزنة سكّر وزجاجة زيت، وهي الحدود الدنيا للمعيشة، فلم يعد كثير منهم ينظر إلى الغلال المعروضة أو يمرّ أمام القصّابين لينظر أسعار اللحمة.
وضع بائس ويزداد بؤسًا والنقابة خرساء بل تبرر للسلطة ما تفعل، ونقابيون كثر يعبّرون عن مساندة غير مشروطة للسلطة التي دفعت الناس إلى حدود الغريزي، وفي الأثناء فُتحت بوابات التطبيع ورئيسة الوزراء في مؤتمر المناخ توشك أن تأخذ رئيس الكيان الغاصب بالأحضان، هل بقيَ للتونسي العادي الذي كان يخرج للشارع من أجل فلسطين وقت وجهد ليخرج مرة أخيرة ضد مسار التطبيع؟
خطة محكمة سُبكت من وراء ظهور الناس، وكانت النقابة أداة فاعلة في التنفيذ، لقد أركعت الحكومات وأفرغت المدّخرات في زيادات مجحفة في الرواتب لم يقابلها أي نمو اقتصادي، وكأنما أعدّت الطريق لحكومة تطبّع مقابل الغذاء.
التطبيع مقابل الغذاء
هذا هو الطريق المسطّر خارج البلد، والذي هيّأت النقابة له الظروف ليكون، كل عقلاء البلد كانوا يصرخون بأن طريق المطلبية دون مقابل من نماء اقتصادي ستؤدي بالبلد إلى الإفلاس، ولكن كلما اتضحت الصورة غالت النقابة في الطلب بحقّ ومن دونه، بل اختلقت من المطالب ما لم يخطر على بال نقابات العالم منذ تأسّس العمل النقابي، مثل التوريث المهني خارج المناظرة العمومية.
كل الحكومات وُضعت أمام خيارَين: الحرب الأهلية أو الاستجابة للنقابات، وكانت تخضع وتصرف من المال المدخر ثم من القروض الجارية، حتى وصل البلد إلى حالة العجز عن الدفع وصار يستجدي قوته ويقبل الصدقات.
ينكشف مسار التطبيع المطلوب دوليًّا بشكل صريح غالبًا ومواربًا مرّات، حيث إذا كنتم تريدون النجدة الاقتصادية فسيروا على الطريق المصري والأردني، التطبيع مقابل الغذاء الذي يضمن للحكومة وللرئيس وللنقابة من ورائهما البقاء في مراكزهم ومواصلة الصراخ “يا قدس إنّا قادمون”.
الجوقة التي تبرر للنقابة ما فعلت وما تفعل دومًا بدأت ألسنتها تتفاصح في منابر كثيرة، ما دام الفلسطيني مطبّعًا فما جدوى أن نعاند المسار، بل ذهبت إلى حدّ مطالبتنا بالاطّلاع على السيرة الذاتية لحمامة السلام نتنياهو.
نرى ونتابع المجموعات السياسية الساكنة في مفاصل النقابة، والتي كانت تعقد المنابر وتسيّر المسيرات بنجدة القدس، والتي تقف الآن مع الانقلاب وحكومته المطبّعة صامتةً تبرر خلسة في انتظار ظهور نتيجة اقتصادية توفّر الخبز السهل للجمهور الغريزي.
لقد لحست هذه المجموعات (القوميون والبعث بشقوقه واليسار الثوري والماركسيون العرب وكل ملّة زعمت الدفاع عن القضية القومية) كل خطابها، ومسحت تراثها الثوري فجأة، لينكشف جوهر نضالها من أجل فلسطين.
لقد كانت فلسطين ذريعة ليس أكثر، لقد بنت هذه التيارات تصنيفًا للأنظمة التقدمية والرجعية بناء على الموقف من القضية، وكانت تصنّف النظام التونسي من بورقيبة إلى بن علي في الرجعية العربية، وتزايد عليه بالموقف القومي التقدمي وجوهره الدفاع عن فلسطين، وها هي تسبق الجميع إلى التطبيع.
فالنظام الحالي نظامها، وهي سنده وقاعدته الشعبية، وتراه يطبّع وتنصره ولا تخجل بعد من وصف غيرها بالرجعية، لقد صارت التقدمية هي التطبيع وصارت القومية تمرّ عبر الاطّلاع على السيرة الملائكية لنتنياهو، هؤلاء هم القوميون العرب واليسار العربي اللذين يملكان الاتحاد العام التونسي للشغل والمجتمع المدني التونسي.
التاريخ يخزي الخونة
نسجّل للتاريخ ومرحبًا بالكلفة، فهي في هذا الموضع شرف أخلاقي، في حكومة الترويكا سيّرت الحكومة التي يسيطر عليها الإسلام السياسي المنعوت منذ قرن بالرجعية والخيانة وفودًا حكومية إلى غزة، ورفعت الراية الوطنية في غزة إلى جانب الراية الفلسطينية، وكانت سابقة في تاريخ الدبلوماسية التونسي.
حينها كانت النقابة تنعت الحكومة بالرجعية، فهي سليلة الربيع العبري (المؤامرة الدولية على الأمة العربية ذات الرسالة الخالدة)، لم يمضِ وقت طويل على تلك الزيارات (والتي كانت فاتحة لزيارات من وفود شعبية ومتطوعين عانقوا المقاومة في عرينها) حتى تكلمت النقابة بضرورة الاطّلاع على سيرة نتنياهو حمامة السلام.
تلك النقابة نفسها كانت قد سعت إلى طرد وزير الخارجية من مكتبه بدعوى الفساد، وعملت على توريط وزير أملاك الدولة الذي رافقه في قضية فساد، برّأهما القضاء من كل التهم ولا تزال النقابة وجهازها الإعلامي يصرّان على توريطهما.
نختصر
هذه لحظات وأيام للخسارة، ولكن في كل خسارة أرباح، نحن نخسر وضعًا اقتصاديًّا كان قادرًا على السير بنفسه دون عكاز من دعم خارجي إلا قليلًا قابلًا للاحتمال، ونخسر وضعًا ديمقراطيًّا وحريات ثبّتت بالدم، ولكننا نربح غربلة للساحة من كل سفيه وكذّاب.
الآن يمكن لكل عاقل أن يقف خارج معارك الاستئصال السياسي، ويفكر أن يقيّم صدق النقابة ويتخذ الموقف الملائم لعقله وقلبه، ويمكنه أن يمحّص طبيعة التنظيمات القومية واليسارية وأدوارها، فهي الواقفة دومًا ضد شعبها تخدم السلطة وتزايد على الناس بالنضالية والثورية، ومعاداة الاستعمار والصهيونية.
عامان من حكم الانقلاب كانا كافيين لغربلة الجميع ونخلهم، مثلما تمّت غربلة صاحب شعار “التطبيع خيانة عظمى”، والذي انكشف عن عميل مطبّع يمسك عرشه المهتز بالزحف على بطنه نحو الكيان الغاصب.
كانت هذه مرحلة ضرورية لتتضح طُرق المستقبل ورفاق الطريق إليه، وجب أن نشكر التاريخ على هديته، لقد أخرج الكَذَبة من المستقبل وركنهم في الماضي، وستسير الأمة العربية إلى تحقيق رسالتها الخالدة دون الكَذَبة القوميين ونقاباتهم، وستنفّذ ولو بعد زمن شعار “الشعب يريد تحرير فلسطين”.