ترجمة وتحرير: نون بوست
حملت حرب روسيا في أوكرانيا العديد من المفاجآت، وتظل مسألة اندلاعها في المقام الأول أكبر مفاجأة. خلال السنة الماضية، كانت روسيا في حالة سلام وعالقة في اقتصاد عالمي معقّد. وكان من غير المرجّح أن تقطع هذه العلاقات التجارية – مهددةً بحرب نووية – فقط لتوسيع أراضيها الشاسعة بالفعل. ورغم كثرة التحذيرات، بما في ذلك من فلاديمير بوتين نفسه، مثّل غزو أوكرانيا صدمةً.
لكن لم يكن الأمر كذلك بالنسبة للصحفي تيم مارشال. في الصفحة الأولى من كتابه الرائج الصادر سنة 2015 بعنوان “سجناء الجغرافيا“، دعا مارشال القراء إلى التفكير في تضاريس روسيا: تحيط بها حلقة من الجبال والثلوج، وحدودها مع الصين المحمية بسلاسل جبلية، ويفصلها القوقاز عن إيران وتركيا، وتقف بينها وأوروبا الغربية جبال البلقان والكاربات والألب التي تشكل جدارًا فاصلا آخر – أو كادت أن تفعل. في الشمال من تلك الجبال، يربط روسيا بجيرانها الغربيين شديدي التسليح عبر أوكرانيا وبولندا ممر مسطح وهو السهل الأوروبي العظيم الذي يمكنك عبوره راكبًا الدراجة الهوائية من باريس إلى موسكو.
لكن يمكن أيضا قيادة دبابة عبره. وقد لاحظ مارشال كيف أن هذه الفجوة في التحصينات الطبيعية لروسيا قد عرّضتها مرارًا وتكرارًا للهجمات ليخلص إلى أن “بوتين ليس أمام خيار” وأنه “يجب أن يحاول على الأقل السيطرة على الأراضي المسطحة إلى الغرب”. عندما فعل بوتين ذلك بالضبط بغزو أوكرانيا التي لم يعد بإمكانه السيطرة عليها بوسائل أكثر هدوءًا، استقبل مارشال الخبر بفهم مرهق مستنكرًا الحرب دون أن يفاجأ بها. وحيال هذا الشأن، كتب أن الخريطة “تسجن” القادة “مما يمنحهم خيارات محدودة ومجالا أصغر للمناورة مما قد تعتقد”.
يُطلق على نهج مارشال الفكري “الجغرافيا السياسية”. ورغم كثرة استخدام هذا المصطلح للإشارة بشكل فضفاض إلى “العلاقات الدولية”، إلا أنه يشير بشكل أكثر دقة إلى وجهة النظر التي ترى أن الجغرافيا من الجبال والجسور الأرضية والجداول المائية هي التي تحكم الشؤون العالمية. يجادل الجيوسياسيون بأن الأفكار والقوانين والثقافة مثيرة للاهتمام، ولكن لفهم السياسة حقًا، لابد من النظر بجدية إلى الخرائط. عندما تفعل ذلك، يكشف لك العالم عن نفسه في صورة سباق محصلته صفر حيث يكون كل جار منافسًا محتملاً ويعتمد النجاح على السيطرة على الأرض، كما هو الحال في اللعبة اللوحية “ريسك”. وتشبه الجغرافيا السياسية الماركسية في منظورها الساخر للدوافع البشرية، لكن تحل التضاريس محل الصراع الطبقي كمحرك للتاريخ.
يتمثل وجه التشابه الآخر بين الجغرافيا السياسية والماركسية في أن الكثيرين تنبأوا بنهايتها في التسعينيات مع نهاية الحرب الباردة. لقد وعد توسع الأسواق وانفجار التكنولوجيات الجديدة بجعل الجغرافيا أمرًا من الماضي. فمن يهتم بالسيطرة على مضيق ملقا أو ميناء أوديسا في حين تمتلئ البحار بالحاويات وترتد المعلومات من الأقمار الصناعية؟ أعلن الصحفي توماس فريدمان سنة 2005 أن “العالم مسطح”. لقد كانت استعارة مناسبة عن العولمة، حيث تنتقل السلع والأفكار والناس بسلاسة عبر الحدود.
مع ذلك، ربما تشعر أن العالم أقل تسطحًا اليوم، وتبدو تضاريس الكوكب الصخرية أكثر بروزا مع تكسر سلاسل التوريد وتعثر التجارة العالمية. كان العداء تجاه العولمة، الذي وجّهته شخصيات مثل دونالد ترامب ونايجل فاراج، في تصاعد فعلي قبل الجائحة التي عززته. كان عدد الجدران الحدودية في نهاية الحرب الباردة حوالي 10 ولكنه الآن وصل إلى 74 وفي تزايد، ويعتبر العقد الماضي ذروة بناء الجدران الحدودية. كتبت عالمة السياسة إليزابيث فاليه أن الأمل في العولمة بعد الحرب الباردة كان “وهمًا”، ونشهد الآن “إعادة أقلمة العالم”.
في مواجهة هذه البيئة الحديثة المعادية، يعود القادة ليسحبوا أدلة الاستراتيجيات القديمة من الأرفف. حذر مستشار الأمن القومي الأمريكي إتش آر ماكماستر في سنة 2017 من أن “النهج الفكري للجغرافيا السياسية قد عاد هذه المرة للانتقام، بعد هذه العطلة من التاريخ التي أخذناها في ما يسمي بفترة ما بعد الحرب الباردة”. توجه هذه النظرة التفكير الروسي علانية، حيث استشهد بوتين بمفهوم “الحقائق الجيوسياسية” في شرح غزوه لأوكرانيا. مع تعثر الثقة في نظام دولي مفتوح قائم على التجارة في مختلف البقاع، يتصدر قوائم أكثر الكتب مبيعًا خبراء قراءة الخرائط مثل مارشال وروبرت كابلان وإيان موريس وجورج فريدمان وبيتر زيهان.
إذا اطلعت على مروجي الخرائط وهم يلقون بحجتهم، لتساءلت عما إذا كان أي شيء قد تغير منذ عالم جنكيز خان في القرن الثالث عشر، حين كانت الاستراتيجية مسألة سهول مفتوحة وحواجز جبلية. إن التفكير الجيوسياسي لا تخجله قتامته وهو ينظر بعين الشك إلى آمال السلام والعدالة والحقوق. لكن السؤال الذي ينبغي طرحه ليس عن كونه قاتمًا أم لا، وإنما إذا كان صحيحًا. جلبت العقود الماضية تغييرات تكنولوجية وفكرية ومؤسسية كبيرة. لكن هل ما زلنا كما يقول مارشال “سجناء الجغرافيا”؟
نحن البشر كنا على المدى الطويل مخلوقات تحكمنا بيئاتنا إلى درجة محرجة تقريبًا، ونزدهر حيثما تسمح الظروف ونموت بخلاف ذلك. ذكر لويس دارتنيل في كتابه الرائع الأصول: “إذا نظرت إلى خريطة حدود الصفائح التكتونية التي تطحن بعضها البعض، ثم ركبت فوقها مواقع الحضارات القديمة الكبرى في العالم، فإن علاقة وثيقة مذهلة تكشف عن نفسها”. هذه العلاقة ليست من قبيل الصدفة، تخلق تصادمات الصفائح سلاسل جبال وأنهارًا كبيرة تحمل رواسبها إلى الأراضي المنخفضة مما يثري التربة. كانت حضارات اليونان القديمة ومصر وبلاد فارس وآشور ووادي السند وأمريكا الوسطى وروما بالقرب من حواف الصفائح. والمنطقة الزراعية الغنية الممتدة من مصر إلى إيران المسماة بالهلال الخصيب، حيث ظهرت الزراعة والكتابة والعجلة لأول مرة، تقع فوق تقاطع ثلاثة صفائح تكتونية.
يمكن أن تكون تأثيرات الجغرافيا ثابتة بشكل مثير للإعجاب، كما يظهر من أنماط التصويت في جنوب الولايات المتحدة. فالجنوب العميق جمهوري بشكل كبير، لكن قوسًا من المقاطعات الديمقراطية ينحني خلاله. كتب العالم ستيفن داتش أن هذا الحزام المنشق يصنع شكلاً “يستطيع أي عالم الجيولوجيا أن يتعرف عليه فورًا”. إنه يتطابق مع نتوء الرواسب الذي تشكل من عشرات الملايين من السنين، الذي ترسب خلال العصر الطباشيري الحار عندما كانت معظم أراضي الولايات المتحدة الحالية تحت الماء. مع مرور الوقت، انضغطت الرواسب لتتحول إلى صخور نفطية، ومع مزيد من الوقت، انحسرت المياه وظهرت مع عوامل التعرية.
أوضح داتش كيف أدرك المزارعون في القرن التاسع عشر أن النتوء المسمى بـ “الحزام الأسود” مثالي لزراعة القطن بفضل تربته الغنية الداكنة. وكي يتم جمع القطن، جلب المزارعون العبيد الذين لا يزال أحفادهم يعيشون في المنطقة ويعارضون السياسيين من الاتجاه المحافظ باستمرار. أشار دارتنيل إلى أن مدينة مونتغمري بولاية ألاباما تقع “تمامًا في منتصف” الشريط الطباشيري، وقد كانت أيضًا مركزًا لحركات الحقوق المدنية، وهناك نادي مارتن لوثر كينغ الابن وحيث أثارت روزا باركس حملة مقاطعة الحافلات.
وصف:خرائط توضح العلاقة بين الرواسب الصخرية الطباشيرية (أعلى) والمقاطعات الأمريكية التي صوتت للديمقراطيين في سنة 2016 (أسفل). من كتاب الأصول: كيف شكلت الأرض التاريخ البشري بقلم لويس دارتنيل.
بالطبع يهتم الجيوسياسيون بالحروب الدولية أكثر من بعض الانتخابات المحلية. ويعودون في ذلك إلى الاستراتيجي الإنجليزي هالفورد ماكيندر الذي أسس منهجهم الفكري بشكل أساسي. في ورقة بحثية نشرت سنة 1904 بعنوان “المحور الجغرافي للتاريخ” حدق ماكيندر في خريطة إغاثة للعالم وافترض أن التاريخ يمكن أن يُنظر إليه على أنه صراع دام قرونًا بين الشعوب البدوية في سهول أوراسيا والمهاجرين عبر البحار على سواحلها.
ازدهرت بريطانيا وأقرانها كقوى قادرة على فرض نفوذها في كامل المحيطات، ولكن الآن بعد أن تمت المطالبة بجميع المستعمرات القابلة للحياة، تم إغلاق هذا الطريق وسيشمل التوسع المستقبلي صراعات على الأراضي. يعتقد ماكيندر أن السهل الشاسع في “قلب أوراسيا” سيكون مركز الحروب العالمية.
لم يكن ماكيندر على صواب تماما، لكن الخطوط العريضة لتوقعاته – الاشتباكات حول أوروبا الشرقية وتضاؤل القوة البحرية البريطانية وصعود القوى البرية مثل ألمانيا وروسيا – كانت صائبة. وبعيدًا عن التفاصيل، كانت رؤية ماكيندر حول استقلال المستعمرات عن الإمبرياليين وانقلاب بعضهم على بعض، تنم عن تنبؤات صائبة. وعندما حدث ذلك، توقع أن يكون الجزء الداخلي من أوراسيا هو الجائزة. وكتب لاحقًا أن قلب أوراسيا “يقدم جميع المتطلبات الأساسية لفرض أي بلد هيمنته المطلقة على العالم، ومن يحكمه سيقود العالم”.
كانت تنبؤات ماكيندر بمثابة طلقة تحذيرية. لكن جنرال الجيش الألماني كارل هوشوفر، الذي كان يعتقد أن ماكيندر يمتلك “أعظم وجهات النظر الجغرافية للعالم”، اعتبر ما قاله نصيحة. دمج هوشوفر رؤى ماكيندر في مجال الجغرافيا السياسية الناشئ (الذي نحصل منه على “الجغرافيا السياسية” الإنجليزية) ونقل أفكاره إلى أدولف هتلر ورودولف هيس في عشرينيات القرن الماضي. وخلص هتلر إلى أن “الشعب الألماني مسجون داخل منطقة إقليمية مستحيلة”. وللبقاء على قيد الحياة ينبغي أن “يصبحوا قوة عالمية”، وحتى يفعلوا ذلك يجب عليهم التوجه شرقًا – إلى قلب أوراسيا الذي تحدث عنه ماكيندر.
كانت قناعة أدولف هتلر بأن مصير ألمانيا يكمن في الشرق بعيدة كل البعد عن ملاحظة ستيفن دوتش بأن الصخور التي تعود للعصر الطباشيري تتنبأ بمعالم النفوذ العالمي المقبل. ومع ذلك، هناك نظرية قائلة إن ما هو تحت أقدامنا يشكل ما في رؤوسنا. بحلول الحرب العالمية الثانية، عندما اقتحمت الجيوش التي اشتبكت على أرض ذات قيمة استراتيجية الأراضي الأوراسية، بدا من الصعب إنكار ذلك. لم ير ماكيندر، الذي عاش تلك الحرب، سببًا وجيهًا للاعتقاد بأن “الحقائق التي لا يمكن إنكارها” للجغرافيا ستتلاشى.
أصرّ هالفورد ماكيندر على أن خريطة الإغاثة لا تزال مهمة، لكن لم يوافقه الجميع الرأي. على مدار القرن العشرين، بحث الأيديولوجيين عن طرق تضفي طابعا آخر على العلاقات الدولية غير “معركة الجوائز الدائمة”، وذلك حسب الاقتصادي البريطاني جون ماينارد كينز. بالنسبة إلى كينز وأتباعه، من المحتمل أن تساعد التجارة على تحقيق ذلك. إذا تمكنت البلدان من الاعتماد على التجارة المفتوحة، فلن تضطر بعد الآن إلى الاستيلاء على الأراضي لتأمين الموارد الأساسية. بالنسبة لبعض الأيديولوجيين الآخرين، كانت التقنيات الجديدة هي المفتاح. وكانوا يأملون أن تتوقف الدول عن التنازع على المواقع الاستراتيجية على الخريطة من خلال ربط جميع الأماكن عن طريق الجو.
قسمت الحرب الباردة العالم اقتصاديًا وأدت نهايتها إلى انهيار الحواجز التجارية
كانت هذه مجرد آمال دون أن تتحول إلى حقائق. أبقت الحرب الباردة، التي قسمت الكوكب إلى كتل تجارية وتحالفات عسكرية، أعين القادة على الخرائط. تعلم الأطفال قراءة الخرائط أيضًا بفضل لعبة اللوحة الفرنسية التي صدرت سنة 1957 “لا كونكات دي موند” (غزو العالم)) – التي باعتها شركة باركر براذرز الأمريكية على نطاق واسع تحت اسم ريسك. تُصور أجواء اللعبة القرن التاسع عشر مع سلاح الفرسان وقطع المدفعية العتيقة، ولكن بالنظر إلى أن القوى العظمى كانت لا تزال تُقطع الخريطة، فقد كانت ذات صلة بشكل غير مقبول.
مع صمت الفكر الجيوسياسي منذ ارتباطه بالنازيين، إلا أنه ترك بصماته على الحرب الباردة. قلل الخبير الاستراتيجي الأمريكي جورج ف. كينان من أهمية المكون الأيديولوجي للصراع، وأصر على أن الماركسية كانت “ورقة توت”. كان التفسير الحقيقي للسلوك السوفييتي هو “الشعور الروسي التقليدي والفطري بانعدام الأمن” الذي ولّدته قرون من “محاولة العيش في سهل شاسع مكشوف في جوار شعوب بدوية شرسة”. بالنسبة لمعضلة ماكيندر المشوبة، اقترح كينان مبدأ “الاحتواء” حلًا لها، والذي لا يسعى إلى القضاء على الشيوعية بل تطويقها. استلزم هذا في نهاية المطاف تدخل الولايات المتحدة في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك إرسال 2.7 مليون جندي لخوض حرب فيتنام. بالنسبة للعديد من الذين خدموا، كانت تلك الحرب الفاشلة مثل “المستنقع” الذي يجرك إلى القاع. لم يبدُ أن الكثير من المعالم الجغرافية قد تبددت مع سقوط جدار برلين في سنة 1989.
لقد قسمت الحرب الباردة العالم اقتصاديًا وأدت نهايتها إلى انهيار الحواجز التجارية. شهدت فترة التسعينات موجة من الاتفاقيات التجارية وبناء المؤسسات: الاتحاد الأوروبي، اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (نافتا)، ميركوسور في أمريكا اللاتينية، ناهيك عن تأسيس منظمة التجارة العالمية. وتضاعف عدد اتفاقيات التجارة الإقليمية أكثر من أربع مرات ما بين 1988 و2008، كما أنها اتخذت طابعا أكثر عمقا وتنسيقا أكثر شمولاً. في تلك الفترة، تضاعف حجم المبادلات التجارية ثلاث مرات، حيث ارتفع من أقل من سدس الناتج المحلي الإجمالي العالمي إلى أكثر من الربع.
كلما تمكنت الدول من تأمين الموارد الحيوية بالنسبة لها عن طريق التجارة، تضاءل سبب اضطرارها لخوض حروب بهدف الاستيلاء على الأراضي. ويعتقد المتفائلون مثل توماس فريدمان أن البلدان التي كانت تنخرط في شبكة اقتصادية محكمة ستتخلى عن خيار شن الحروب خوفًا من فقدان الوصول إلى هذه الشبكة الفعالة. عبّر فريدمان عن ذلك بمرارة في سنة 1996، وحسب نظرية الأقواس الذهبية لمنع الصراعات: لن تخوض دولتان تضم أراضيهما ماكدونالدز حربًا مع بعضهما البعض. وعلى الرغم من وجود عدد قليل من النزاعات بين البلدان التي لديها ماكدونالدز، فإن فرصة تعرّض الأفراد للموت جراء الحرب بين الدول قد تضاءلت بشكل ملحوظ منذ الحرب الباردة.
في الوقت ذاته الذي كانت فيه التجارة تقلل من احتمالية نشوب حرب، تغيّرت أشكال التقنيات العسكرية. بعد أشهر قليلة من سقوط جدار برلين، قاد صدام حسين غزوًا على الكويت. كانت هذه مسألة جيوسياسية قديمة: كان العراق قد حشد رابع أكبر جيش في العالم، ومن خلال الاستيلاء على الكويت فإنه سيسيطر على خمسيْ احتياطي النفط في العالم. علاوة على ذلك، كانت قواته البرية الهائلة محمية بصحراء كبيرة غير مطروقة كان من المستحيل تقريبًا التنقل فيها. كان ماكيندر يُقدّر هذه الاستراتيجية.
لكن التسعينيات لم تعد عصر ماكيندر. اكتشف صدام ذلك عندما أرسل تحالف تقوده الولايات المتحدة قاذفات قنابل من لويزيانا وإنجلترا وإسبانيا والمملكة العربية السعودية وجزيرة دييغو غارسيا لإسقاط حمولاتهم فوق العراق، مما أدى إلى تعطيل الكثير من بنيته التحتية في غضون ساعات. تبع ذلك أكثر من شهر من الغارات الجوية، ثم استخدمت قوات التحالف تقنية الأقمار الصناعية الجديدة لنظام تحديد المواقع العالمي لعبور الصحراء بسرعة بخلاف اعتقاد العراقيين أنها حاجز لا يمكن اختراقه. كانت مائة ساعة من القتال البري كافية لهزيمة الجيش العراقي المنهك، على الرغم من أن كبار الضباط العراقيين لاحظوا بعد ذلك أن هذا لم يكن ضروريا. وبعد أسابيع قليلة من الضربات الجوية، سحب العراق قواته من الكويت دون مواجهة أي خصم في ساحة المعركة.
من هذا المنطلق، لسائل أن يسأل ما هو المفهوم الذي اكتسبته “ساحة المعركة” بحلول التسعينيات؟ أنذرت حرب الخليج بـ “ثورة في الشؤون العسكرية” أثارت جدلا كبيرا، ووعدت باستبدال الفرق المدرعة والمدفعية الثقيلة والمشاة الضخمة بضربات جوية دقيقة. أشار المنظر العسكري الروسي فلاديمير سليبشينكو إلى أن المفاهيم المكانية المألوفة لدى الاستراتيجيين مثل الحقول والجبهات والأجنحة الخلفية والجانبية فقدت أهميتها. وفي ظل وجود الأقمار الصناعية والطائرات ونظام تحديد المواقع العالمي والآن الطائرات بدون طيار، فإن “ساحة المعركة” – كما يسميها الاستراتيجيون اليوم – ليست سطح أرض مليئة بالتضاريس وإنما ورقة مسطحة عليها رسم بياني.
السماء المليئة بالطائرات دون طيار لا تدلّ على السلام العالمي، لكن أبطال التقنيات الجديدة وعدوا على الأقل بأن القتال سيكون أقل بشاعة، مع عدد أقل من القتلى المدنيين والأسرى، وتقليل نشر القوات، حيث تسمح الثورة في الشؤون العسكرية للدول القوية، خاصة الولايات المتحدة وحلفائها، باستهداف الأفراد والشبكات بدلا من البلدان بأكملها وهو ما يشير إلى تحول من الحرب الدولية إلى الشرطة العالمية، ومن الاضطرابات الجيوسياسية الملطخة بالدماء نحو العولمة الأكثر سلاسة، التي لا تزال فتاكة في بعض الأحيان.
هل حلت العولمة بالفعل محل الجغرافيا السياسية؟ يقر الجيواستراتيجي روبرت كابلان بأن “الخريطة قد اختُزلت إلى بعدين فقط بسبب القوة الجوية في التسعينيات”. وكتب كابلان أنه مع ذلك، تمت استعادة “الخريطة ثلاثية الأبعاد” في “جبال أفغانستان وفي أزقة العراق الغادرة”. يظهر التناقض بين حرب الخليج في سنة 1991 وحرب العراق 2003 -2011 بوضوح. في كلتا الحربين، قادت القوة العظمى العالمية تحالفا ضد العراق تحت حكم صدام، ومع ذلك استخدمت الأولى القوة الجوية لتحقيق نصر سريع، في حين بدت الثانية للعين غير المدربة وكأنها مأزق آخر أمريكي الصنع.
استقرت الصادرات العالمية التي كانت تنمو بسرعة منذ التسعينيات في سنة 2008 تقريبا. ويبدو أن “تراجع العولمة” الحالي، وهو تراجع كبير في التجارة، أمر ممكن التحقق في المستقبل القريب، وكذلك واجه التكامل الأوروبي انتكاسة هائلة مع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ومثلما كان متوقعًا، تجري الآن أيضًا حرب برية في أوروبا التي هي في الواقع “حرب ماكدونالدز” – سلسلة مطاعم الوجبات السريعة التي تملك مئات المواقع في روسيا وأوكرانيا.
ورغم مختلف الفوائد الاقتصادية التي جنتها روسيا من التجارة السلمية، يعتقد بوتين أنها تخسر أمام موانئ أوكرانيا التي لا تتجمد والموارد الطبيعية والعازل الاستراتيجي لغرب روسيا الضعيف، وهو ما وصفه كابلان بعبارات لا تُنسى “انتقام الجغرافيا”. تزامن انتقام الجغرافيا مع عودة المنظرين الجيوسياسيين المرتبطين غالبًا بـ “مؤسسة الاستخبارات العالمية الخاصة” ستراتفور. تستغل “وكالة المخابرات المركزية السرية” – كما تسميها مجلة بارون – إخفاقات الفكر المثالي في ما بعد الحرب الباردة، كما تقدّم أيضا العديد من الخرائط الأكثر مبيعًا مؤخرا التي تشرح التاريخ.
عمل روبرت كابلان لفترة من الوقت كمحلل جيوسياسي رئيسي في المؤسسة، وشغل إيان موريس، مؤلف كتاب هذا العام “الجغرافيا هي القدر“، منصبا في مجلس المساهمين الخاص بها أيضا. وكان المؤلفان الجيوسياسيان جورج فريدمان وبيتر زيان يشغلان منصب المؤسس ونائب الرئيس على التوالي.
في سنة 2014، تبلورت لدى الناس فكرة أوضح حول أعمال ستراتفور بفضل الخمسة ملايين رسالة إلكترونية الخاصة بالشركة التي سرّبها المخترقون لويكيليكس، حيث اتضح أن دور هذه المؤسسة لم يقتصر فقط على مجال رسم الخرائط، فقد كانت طرفا في المعركة، وبدا أنها تتمتع بعلاقة وطيدة مع بعض القوى. كشف المخترقون أن ستراتفور كانت تراقب النشطاء نيابة عن الشركات، كما اقترحت في مرحلة ما التحقيق حول الصحفي غلين غرينوالد لفائدة بنك أمريكا.
من بين متابعي وعملاء هذه المؤسسة داو كيميكال، ورايثيون، وغولدمان ساكس، وميريل لينش، وبكتل، وكوكا كولا ومشاة البحرية الأمريكية. لا يتضح ما إذا كانت ستراتفور، التي اشترتها شركة استخبارات أخرى في سنة 2020، تمثل أي شيء أكثر من مجرد طرف متوسط النفوذ في جهاز الأمن الأمريكي. في المقابل، تضمنت رسائل البريد الإلكتروني المسربة معلومات استخبارية مباشرة من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حول البرنامج النووي الإيراني، واستعداد إسرائيل لاغتيال زعيم حزب الله، ومشاعر رئيس وزرائها تجاه نظيره في واشنطن.
كانت ستراتفور تبيع الأسرار، لكن عملاءها أصبحوا يعتمدون عليها في النهاية لتمدّهم بالتنبؤات التي لم يخجل الجيوسياسيون من تقديمها بكل ثقة. فهل ستصبح تركيا “النقطة المحورية” لأوروبا وآسيا وأفريقيا، وفقا لما أكده مؤسس ستراتفور جورج فريدمان؟ أو ربما ستصبح الهند “الدولة المحورية العالمية” بناء على اعتقاد كابلان (مضيفًا أن إيران هي “الجغرافيا الأكثر محورية” في الشرق الأوسط، وأن تايوان “محورية” في آسيا البحرية، وأن كوريا الشمالية هي “المحور الحقيقي لشرق آسيا”).
سيكون من السهل أخذ مثل هذا الحديث على محمل الجد لو كان لدى هؤلاء الجيوسياسيين سجل موثّق، لكننا ما زلنا ننتظر “الحرب القادمة مع اليابان” التي ألّف عنها جورج فريدمان كتابا في سنة 1991. وإلى جانب ذلك، فإن أي تقييم لتوقعات كابلان يجب أن يشير إلى دعمه لحرب العراق، بما في ذلك انضمامه إلى لجنة سرية تدعو إلى الحرب على البيت الأبيض، لكنه اعترف بأخطائه وكتب: “عندما دعمت أنا وبعض الآخرين الحرب لتحرير العراق، لم نفكر مطلقًا في الثمن الذي سندفعه في المقابل”.
سيستغرق اكتشاف ما إذا كان داعمو فكر ماكندر الحديثون يفكرون بشكل كامل أو دقيق في جميع العوامل ذات الصلة عقودًا، لكن نظرتهم إلى الحاضر واضحة بما فيه الكفاية وهي إلى حد كبير نظرة محافظة وساخرة وتشكك فيما إذا كان هناك أي جديد يذكر. في هذا الشأن، يعتقد مارشال أن “قبائل” البلقان ستبقى عالقة دائمًا في “الشكوك القديمة”، وأن جمهورية الكونغو الديمقراطية “ستبقى مكانًا يكتنفه ظلام الحرب”، وأن اليونانيين والأتراك عالقون في “عداء متبادل” منذ حرب طروادة.
يشاطره كابلان نفس وجهة النظر، إذ كتب أن روسيا لطالما كانت “قوة برية مترامية الأطراف وغير آمنة”، وأن شعبها ظل “عبر التاريخ” يعيش في “خوف ورهبة” من جبال القوقاز. إلى جانب ذلك، يستشهد كابلان بنظرية مؤرخ متقاعد مفادها أن الروس الذين يواجهون فصول الشتاء الباردة يمتلكون “قدرة أكبر على تحمّل المعاناة”.
وجد الجغرافي الأكاديمي هارم دي بلي أثناء مراجعته لكتاب كابلان “انتقام الجغرافيا” أن الكتاب كان في بعض الأحيان “مؤلمًا”، وكتب أن العلماء سيتفاجئون برؤية الحتمية البيئية الخام “التي ظلت مهمّشة لفترة طويلة” وهي تعود للحياة من جديد. يعترف كابلان بأن التفكير الجيوسياسي يتطلب عودة “مفكرين غير عصريين” مثل ماكندر، الذين يعرفون بعلاقاتهم بالإمبريالية والنازية، كما يصر كابلان على أن “إساءة استخدام أفكاره” لا تعني أن ماكندر كان مخطئًا، وهو ما يعيدنا إلى الروس الذين يعانون من انعدام الأمن اللانهائي، ويرتعبون خوفًا ورهبة من سلسلة الجبال.
وفقًا للجيوسياسيين، لا يستطيع حتى أقوى القادة فعل الكثير لتحدي الخريطة. كتب مارشال أنه بعد الاحتجاجات التي أطاحت بالرئيس الأوكراني الصديق لروسيا فيكتور يانوكوفيتش في سنة 2014، توجّب على بوتين “ضم شبه جزيرة القرم”. ورغم من إدانة مارشال للعدوان الروسي، إلا أن لهجته كانت شبيهة باللهجة التي استخدمها بوتين لتبرير ما فعله.
في سنة 2014، قال بوتين إن منافسي روسيا: “يحاولون باستمرار حشرنا في الزاوية. لكن إذا ضغطت على نابض إلى أقصى حد، فسوف يرتدّ بقوة”. قد يعترض المرء على أن أفكار بوتين ومواقفه، وليس خريطته، هي التي تحرك العداء الروسي، لكن الجغرافيا السياسية لا تتيح مجالًا لمثل هذه العوامل. وقد كتب مارشال في سياق آخر: “كل ما يمكن القيام به هو الرد على الحقائق”.
يكمن تقدير القيود التي تفرضها “الطبيعة الجغرافية الثابتة” في قلب النظرة الجيوسياسية للعالم، وذلك حسب نائب رئيس موقع ستراتفور السابق زيهان. يشرح مارشال إعادة رسم بعض الخطوط الحدودية وكيف أن “الخريطة التي واجهها إيفان الرهيب هي نفسها التي يواجهها فلاديمير بوتين حتى يومنا هذا”. نظرًا لعدم تغير الخريطة ولا الحسابات المحيطة بها كثيرًا، فإن الإجراء الحكيم ينطوي بشكل أساسي على قبول الحقائق المتشددة. كتب مارشال في ما يمكن أن يكون شعار الحركة بأكملها: “كانت هناك مشاكل في شينجيانغ وستظل هناك دائمًا”.
كتب إيان موريس: “الجغرافيا غير عادلة، وإذا كانت “الجغرافيا هي القدر” – كما يدعي أيضًا – فهذه وصفة لعالم يبقى فيه القوي قويًا والضعيف ضعيفًا. وفي حين يتميز الجيوسياسيون في شرح سبب عدم تغير الأشياء فإنهم أقل مهارة في شرح كيف تسير الأمور.
قد يفسر هذا اللامبالاة الجيوسياسية الملحوظة فيما يتعلق بالتاريخ. تساءل مارشال هل جاء توحيد ألمانيا لأن “الدول الجرمانية سئمت أخيرًا من محاربة بعضها البعض”؟ ويفترض فريدمان مؤسس موقع ستراتفور هل كانت حرب فيتنام والعراق “مجرد حلقات معزولة في تاريخ الولايات المتحدة ذات أهمية قليلة دائمة”؟ هل صحيح، كما يدعي زيهان، أنه “على عكس أي شخص آخر في أوروبا، لم يكن الإنجليز بحاجة أبدًا للقلق بشأن شعور الجيش بالملل وشق الطريق”؟ ويصر كابلان أن “أمريكا مقدر لها أن تكون في موقع القيادة”؟ في الواقع، تقع الروايات التاريخية للجيوسياسيين في مكان ما بين “النسيم اللطيف” و”المرشد القلق الذي يدفع بأطفال المدارس عبر القلعة قبل وصول الحافلة السياحية التالية”.
هذه ليست الطريقة التي يكتب بها الجغرافيون الفعليون – أولئك الذين ينتجون الخرائط والأبحاث التي استعرضها الأقران. يؤمن الجغرافيون، مثل المنظرين الجيوسياسيين، بقوة المكان لكنهم أصروا منذ فترة طويلة على أنها تشكلت بفعل التاريخ. يتسبب القانون والثقافة والاقتصاد بتشكيل المناظر الطبيعية بقدر ما تتسبب به الصفائح التكتونية. وتتغير تلك المناظر الطبيعية مع مرور الوقت.
حسب الجغرافيين فإنه حتى التضاريس ليست ثابتة كما يفترض الجيوسياسيون. أصر زيهان، نائب رئيس موقع ستراتفور لمدة 12 عامًا (كما يتحسر في كتاب صدر مؤخراً: “يمكنك التحدث فقط في لانجلي لعدة مرات”) منذ فترة طويلة على أن القوة الهائلة للولايات المتحدة يمكن أن تُعزى إلى “الجغرافيا المثالية للنجاح”. وصل المستوطنون إلى نيو إنغلاند، وواجهوا ظروفًا زراعية متدنية حيث “كان من الصعب الحصول على القمح”، ولحسن الحظ تم تحفيزهم للمطالبة بأراضي أفضل في الغرب. مع هذه الأراضي الزراعية الوفيرة جاءت “الصفقة الحقيقية”: نظام نهري واسع يسمح بالتجارة الداخلية بتكلفة “منخفضة بشكل مثير للضحك”. كتب زيهان أن هذه السمات جعلت الولايات المتحدة “أقوى دولة في التاريخ” وستبقى كذلك لأجيال. وأضاف: “لا يمكن للأمريكيين العبث بهذا الأمر”.
لكن مثل هذه العوامل ليست ثوابت. كان القمح يُزرع بشكل شائع في نيو إنغلاند، على الرغم من إصرار زيهان على أنه كان نشاطا “صعبًا” هناك. لقد كانت الأحداث التاريخية – مثل وصول آفات على غرار ذبابة الخيش (يعتقد أنها انتقلت مع القوات الألمانية التي قالت في حرب الاستقلال)، واستنفاد التربة بسبب الممارسات الزراعية المدمرة – هي التي أدت إلى انخفاض إنتاجها من الحبوب. كانت الأنهار الطبيعية حسب زيهان تحمل كثيرًا من المتغيرات أيضًا. للعمل، كان لا بد من رفدها بنظام قناة اصطناعي باهظ التكلفة، وبعد ذلك تم استبدالها بتقنيات جديدة في غضون عقود. اليوم، تسافر المزيد من الشحنات الأمريكية، من حيث القيمة، برًا عبر السكك الحديدية وجوًا وحتى عبر الأنابيب أكثر من السفر عبر الماء. وتتجاوز الشاحنات 45 ضعف قيمة القوارب أو السفن.
هذه طريقة أخرى للقول بأننا لا نقبل دائمًا التضاريس التي نرثها. يرتفع برج خليفة، أطول ناطحة سحاب في العالم، من دبي التي كانت لقرون قرية تعتمد على الصيد محاطة بالصحراء والمسطحات المالحة. وقليلة هي العوامل على خريطة تضاريسها التي تنبأت باتجاهها نحو العظمة. إن مناخها شديد الحرارة ومبيعاتها النفطية، على الرغم من كونها مهمة في السابق، تمثل الآن أقل من 1 في المائة من اقتصاد الإمارة. إذا كان هناك شيء مميز عن دبي، فهو مشهدها القانوني وليس مشهدها المادي.
لا يحكم الإمارة قانون واحد بل هي مقسمة إلى مناطق حرة – من بينها مدينة دبي للإنترنت، ومدينة دبي للمعرفة، والمدينة الإنسانية الدولية – المصممة لجذب مختلف المصالح الأجنبية. إن صحراء دبي هي في الأساس “لوحة دائرة كهربائية ضخمة”، على حد تعبير الباحث العمراني مايك ديفيس، والتي يمكن لرأس المال العالمي الاتصال بها بسهولة.
إحجام الجيوسياسيين عن التعامل مع أزمة المناخ ينبع من شعورهم بوجود خيارين فقط: تجاوز المشهد الطبيعي أو التعايش معه
لقد كان تحويل دبي إلى مركز تجاري يعني إعادة تشكيلها فعليًا بطرق تتحدى أي فكرة عن أن الخريطة هي القدر. يمر جزء كبير من التجارة في دبي عبر ميناء جبل علي، أكبر ميناء في الشرق الأوسط. يبدو أن وجود ميناء عميق هائل يمثل جزءًا مهمًا من الحظ الجغرافي، حتى تدرك أن دبي حفرته بتكلفة كبيرة من أراضي صحراوية. بواسطة جرف الرمال، قام مهندسو دبي أيضًا بإنشاء الجزر، بما في ذلك أرخبيل يضم أكثر من 100 جزيرة مرتبة على شكل خريطة للعالم. وتكمّل المتنزهات الخضراء ومنحدرات التزلج الداخلية المشهد الذي يتحدى الطبيعة.
إن إعادة استصلاح دبي هو أقل ما يمكننا القيام به للأسف. يؤدي الاحترار العالمي إلى اختفاء المناظر الطبيعية، مما يهدد بإغراق الجزر وتحويل الأراضي العشبية إلى صحاري وتحويل الأنهار إلى غبار. من الغريب مدى ضآلة الأطروحات الجيوسياسية لهذا الأمر. يعترف فريدمان في نهاية كتابه “المائة عام القادمة” بأنه “سوف يلاحظ أي قارئ أنني لا أتعامل مع هذه المسألة”. باستثناء التعليقات الصغيرة والجانبية، يمكن قول الشيء نفسه عن كتاب “الجغرافيا هي القدر” لإيان موريس، و كتاب “سجناء الجغرافيا” لتيم مارشال، وكتاب “انتقام الجغرافيا” لروبرت كابلان، وكتاب “القوة الخارقة العرضية” لبيتر زيهان.
إن إحجام الجيوسياسيين عن التعامل مع أزمة المناخ ينبع من شعورهم بوجود خيارين فقط: تجاوز المشهد الطبيعي أو التعايش معه. فإما أن تحررنا العولمة من القيود المادية أو سنبقى محاصرين بها. ونظرًا لأن التقنيات والمؤسسات الجديدة لم تلغ بوضوح أهمية المكان، يجب علينا إعادة النظر في الجغرافيا السياسية.
ولكن هل هذه هي الخيارات الوحيدة؟ يبدو على الأرجح أن تداعي العولمة لن يعيدنا إلى القرن التاسع عشر، بل إلى مستقبل مليء بالمخاطر غير المسبوقة. سنواجه قيودًا بيئية عميقة في ذلك المستقبل، ولكن ليس بالطريقة التي يتوقعها الجيوسياسيون. بدلاً من ذلك، فإن المناظر الطبيعية التي يصنعها الإنسان، وليس الطبيعة، هي التي ستشكل أفعالنا – بما في ذلك الطرق التي أعدنا بها تشكيل البيئة المادية. الجغرافيا ليست “ثابتة”، كما كتب كابلان، ولكنها متقلبة ولن تفيدنا الخرائط القديمة في الإجابة عن سؤال إلى أين نحن ذاهبون؟
المصدر: صحيفة الغارديان