يعد معدن “المنجنيز” أحد العشرة الكبار في قائمة المعادن الإستراتيجية، بعدما بات عنصرًا أساسيًا في العديد من القطاعات خاصة صناعة بطاريات السيارات القابلة لإعادة الشحن والسلاح والبناء وهي التي أكسبته أهمية إضافية بجانب استخداماته التقليدية المعروفة في الفولاذ والسبائك.
وبعد الحرب الروسية الأوكرانية فرض “المنجنيز” نفسه على منصات الاهتمام الدولي لما تعرض له من أزمة كبيرة بسبب زيادة سعره العالمي جراء وقف الإمدادات القادمة من طرفي الحرب، فأوكرانيا وحدها تمتلك ثاني أكبر احتياطي عالمي قدره 140 مليون طن متري بما يمثل 42.8% من الإمداد العالمي من المعدن.
الأهمية المتزايدة لهذا المعدن الذي حجز مقعده في طائرة الصناعات المستقبلية، مع تركيز الحجم الأكبر من احتياطيه في القارة الإفريقية، إذ تحتوي صحراء كالاهاري في جنوب إفريقيا وحدها على أكثر من 70% من احتياطي المنجنيز في العالم، ربما تجيب عن الكثير من التساؤلات بخصوص تكالب القوى العظمى خاصة الولايات المتحدة والصين على إفريقيا كوجهة استعمارية جديدة من خلال عباءة الاستثمار.. فماذا نعرف عن هذا المعدن المرشح بقوة لأن يكون ساحة نزاع كبرى بين الإمبراطوريات الاقتصادية العالمية؟
ما هو المنجنيز؟
يُرمز للمنجنيز بـ(Mn) ويحتل رقم 25 في الجدول الدوري، وهو من العناصر الانتقالية حيث يقع بين الكروميوم والحديد، ويصنف على أنه فلز مُتَقصِّفُ رمادي فضي اللون، ووزنه الذري 54.938، ويوجد في الغالب في القشرة الأرضية إما في صورة منفصلة وإما متحد مع بعض العناصر المعدنية الأخرى.
ويوجد المنجنيز في الغالب مع 10 معادن أخرى تتشارك معه في الخصائص هي: “المنجنيت” وهو عبارة عن معدن أسود اللون وكثافته النوعية 4.3 و”بيرولوسيت” وهو عبارة عن ثاني أكسيد المنجنيز حر، يحتوى عادة على قليل من الماء و”بوليانيت” وهو أكسيد المنجنيز ويتبلور في نظام رباعي الأضلاع و”پسيلوملان” وهو أحد أكاسيد المعدن كذلك ويحتوي على كميات متغيرة من أكاسيد الباريوم والبوتاسيوم والصوديوم والماء و”بيروكرويت” ويعرف بهيدروكسيد المنجنيز و”هيوسمانيت” لونه بني-أسود، ويوجد مع خامات المنجنيز الأخرى في منطقة بحيرة سوپريور، هذا بجانب “رودونيت” و”رودوكروزيت” و”تنجستات المنجنيز” و”منجنوفيليت” و”منجنوزيت” الذى يتبلور شكله في نظام المكعب.
يعود استخدام المنجنيز إلى العصور القديمة، لكنه لم يكن معروفًا بصيغته المستقلة النقية حاليًّا، إذ تم التعرف عليه ضمن المعادن السوداء في مناطق تابعة لليونان وتركيا وفق التقسيم الجغرافي الراهن، وكانت تسمى تلك المعادن بالمغناطسيات، وربما لأجل هذا سمي بـ”المنجنيز”.
في عام 1770 اكتشف الباحثان إگناتيوس گوتفريد كايم و ويوهان گلوبر أن هذا المعدن الذي يدخل في صناعة الزجاج يمكن تحويله إلى پرمنگنات (مركب كيميائي يكون المنجنيز فيه في حالة أكسدة)، وفي منتصف القرن الثامن عشر استطاع العالم السويدي كارل ڤيلهلم شيله استخدام ثاني أكسيد المنجنيز لإنتاج الكلور.
تعددت استخدامات هذا المعدن لكنه كان في صيغته المختلطة مع معادن أخرى، إلا أنه في عام 1774 استطاع العالم الألماني يوهان گوتلب عزل معدن المنجنيز لأول مرة في التاريخ عن طريق اختزال ثاني أكسيد مع الكربون، لتبدأ مرحلة جديدة من استخدامات هذا العنصر في صناعات الصلب وغيرها.
الأهمية الإستراتيجية
ظهرت أهمية المنجنيز كمعدن قوي عام 1816 حين تم توثيق أن سبائك الحديد أكثر صلابة مع المنجنيز وتم تسجيل ذلك كبراءة اختراع، وفي عام 1912 اكتشف تأثير هذا المعدن في الحماية من الصدأ، حيث مُنحت براءة الاختراع الأمريكية لحماية الأسلحة النارية من التآكل باستخدام طلاءات تحويل الكهروكيميائية لفوسفات المنجنيز.
وقبل ذلك وبالتحديد في 1866 لوحظ الدور الذي قام به المنجنيز في تحسين قدرات البطاريات، ومنذ ذلك الحين زاد الطلب على ثاني أكسيد المنجنيز، حيث كان يدخل في صناعة البطاريات مع عناصر أخرى كالنيكل-كادميوم والليثيوم، غير أن هذا الأكسيد كان يحتوي على شوائب بسبب استخدام بطاريات الزنك-كربون، إلا أن الأمر تم تداركه في القرن العشرين حين استخدم هذا العنصر باعتباره المحرك الكاثودي للبطاريات الجافة ومنها تم التخلص من الزنك والكربون والقلوية فتخلصت بشكل كبير من الشوائب.
ومع تطوير الاستخدام بات المنجنيز اليوم أحد المشكلات الرئيسية لصناعة الحديد والصلب وصناعات السبائك بنوعيها، الحديدية والسيليكية، هذا بجانب استخدام ثاني أكسيد المنجنيز كعامل مجفف أو محفز في صناعة الأصباغ والورنيس والزجاج، ثم توالى الأمر حتى أصبح العنصر الأبرز في صناعة البطاريات الجافة، بجانب صناعات مكونات السماد والأغذية الحيوانية.
ومع التحول نحو الصناعات الكهربائية والبطاريات الجافة المتطورة وصناعات الصلب والفولاذ الثقيلة، بزغ فجر المنجنيز كمعدن إستراتيجي له دور كبير في مسار الانتقال نحو الصناعات المستقبلية التي تعول عليها القوى الكبرى لضمان التفوق والنفوذ في ظل الحرب الاقتصادية المستعرة بين القوى الكبرى.
خريطة الإنتاج
يبلغ الإنتاج العالمي للمنجنيز نحو 18.5 مليون طن سنويًا، فيما يشكل الثلاثي: جنوب إفريقيا وأستراليا والصين أكثر من 65.4% من إجمالي الإنتاج عالميًا، حيث تحتل جنوب إفريقيا المرتبة الأولى بإنتاج يبلغ 6.2 مليون طن بنسبة 33.5% من الإنتاج العالمي، وتتركز مناجم المعدن في الدولة الإفريقية في صحراء كالاهاري التي تحتوي على أكثر من 70% من احتياطي المنجنيز في العالم.
ونتيجة لهذا الاحتياطي الغفير للمعدن في جنوب إفريقيا مثلت عائداته المادية المورد الاقتصادي الأبرز في البلاد، كما أنه المصدر الأساسي للعملات الأجنبية، فيما تحول هذا المجال إلى قبلة للاستثمارات الداخلية والخارجية على حد سواء، فهناك عشرات الشركات الوطنية والأجنبية تعمل في قطاع التعدين المربح.
تأتي أستراليا في المرتبة الثانية بإنتاج يبلغ 3 ملايين طن سنويًا، ورابع أكبر احتياطي عالمي، بصادرات سنوية تقدر بأكثر من مليار دولار، ويتركز المعدن في منطقة “Groote Eylandt”، التي تعد قلب التعدين في أستراليا، وتتصدر الشركة الأسترالية “GEMCO” قائمة الشركات العاملة في هذا القطاع وهي واحدة من كبرى شركات إنتاج المنجنيز في العالم.
وفي المركز الثالث يحل العملاق الصيني بإنتاج سنوي يبلغ 2.9 مليون طن، لكنها تحتل المرتبة الأولى في آسيا، ورغم اكتشاف احتياطي كبير للمنجنيز في أحد مناجم مقاطعة قويتشو، بمعدل يصل إلى نحو 0.203 مليار طن من خام المنجنيز، وتُقدر قيمته الإجمالية بأكثر من 10 مليارات دولار، فإن حاجة البلاد من هذا المعدن أكبر من ذلك، لتلبية الطلب المحلي المتزايد بعدما بات هذا المعدن عنصرًا أساسيًا في معظم الصناعات الحيوية.
ثم تأتي في المرتبة الرابعة الغابون بـ 1.8مليون طن، تليها البرازيل خامسة بمليون طن، ثم الهند بـ 0.9 مليون طن، وفي المرتبة السابعة ماليزيا بـ 0.4 مليون طن، أما المراكز الثلاثة الأخيرة فكانت من نصيب أوكرانيا وكازاخستان وغانا بـ 0.39 مليون طن لكل منهم.
وتزايد الطلب على المنجنيز في الأعوام الأخيرة لعدة أسباب أبرزها الطفرة الهائلة في مشروعات البنية التحتية في معظم الدول لا سيما الكبرى منها اقتصاديًا، حيث يساهم بدور كبير في صناعات الصلب والفولاذ والبناء وهي العصب الأساسي لمشروعات البنية التحتية، هذا بجانب الأزمة التي تعرض لها منذ الحرب الروسية الأوكرانية ووقف الإمدادات الأوكرانية التي تمثل أكبر من 40% من الاحتياطي.
إفريقيا.. ساحة النزاع القادمة
خريطة الإنتاج تشير إلى أن إنتاج الصين من المنجنيز لا يكفي تطلعاتها واحتياجاتها المستقبلية، الوضع كذلك في أستراليا التي تتعامل مع المعدن كأحد الموارد الاقتصادية المهمة في ظل رغبة الدولة في تعزيز بنيتها الصناعية الأساسية في محاولة منها للحاق بركب القوى الاقتصادية الصناعية الكبرى، لتبقى دول إفريقيا الساحة المتوقعة للتنافس، فالمنجنيز بالنسبة لها لا يعدو كونه مصدرًا للتربح في ضوء ثنائية غياب الاهتمام بالتنمية الصناعية والأوضاع الاقتصادية المتردية.
تحتل القارة السمراء المرتبة الأولى عالميًا في معدلات الاحتياطي، فالأمر لا يقتصر على جنوب إفريقيا فقط التي تنتج 33.5% من الإنتاج العالمي، فهناك بلاد أخرى لا تقل أهمية في معدلات الإنتاج حتى إن كانت بمستويات أقل نسبيًا، كما هو الحال في الغابون التي يصفها البعض بأنها قابعة فوق كنز ثري من المعادن النفيسة.
وفي أحد مناجم منطقة مواندا بهذا البلد الإفريقي، يتمركز المعدن الإستراتيجي بصورة كبيرة، حيث يتم إنتاج 36 طنًا يوميًا، بجانب معادن أخرى ذات أهمية محورية كالنيكل والليثيوم والكوبالت، ومما يميز هذا المنجم عدم الحاجة للحفر مستويات عميقة إذ يتم استخراجه من على بعد أمتار قليلة، كما أشار المسؤول عن الحفر في هذا المنجم، أوليفيه كاسيبي: “نحن محظوظون في مواندا، لأننا نجد المنجنيز على عمق خمسة إلى ستة أمتار تحت سطح الأرض”، وفق تصريحاته لـ”الفرنسية”
وتذهب تقديرات شركة نهر أوجوي للتعدين التابعة لمجموعة “إيراميت” الفرنسية التي تستغل الموقع وتديره إلى أن مدينة مواندا الغابونية والمدن الملاصقة لها تحتوي على 25% من احتياطي المنجنيز في العالم، وهو ما دفع الكثير من الشركات العالمية للتوجه إليها بحثًا عن نصيب من تلك الثروة التعدينية الإستراتيجية.
التنافس بين القوى الكبرى
الأعوام الخمس الماضية شهدت هرولة صينية أمريكية صوب القارة الإفريقية، لا سيما الوسط والجنوب الغني بالثروات المعدنية، استغلالًا لأوضاع تلك الدول الاقتصادية والأمنية والسياسية الهشة، ما يجعل من استعمارهم اقتصاديًا مسألة ليست صعبة خاصة أن تلك البلدان ليس لدىها الطموح الاقتصادي الذي يدفعها للتمسك بكنوزها وثرواتها الطبيعية.
وبعد ابتعاد مرحلي خلال العقد الماضي عاود الكبيران الاهتمام بإفريقيا مرة أخرى، بعد الاكتشافات التعدينية الأخيرة التي أسالت لعابهما الذي زاد جريانه بعد الأزمة الاقتصادية العالمية منذ جائحة كورونا (كوفيد 19) والسنوات العجاف التي خيمت على الاقتصاد العالمي، فضلًا عن ارتفاع درجة حرارة الحرب الاقتصادية بين بكين وواشنطن التي كانت محفزًا للسيطرة على الثروات التعدينية في شتى بقاع العالم بما يضمن لهما النفوذ المستقبلي.
التقرير السنوي للعلاقات التجارية بين الصين وإفريقيا الصادر في 25 سبتمبر/أيلول 2021 كشف أن حجم التجارة الثنائية بين الطرفين ارتفع ليصل إلى 187 مليار دولار عام 2020، وفي الأشهر السبع الأولى فقط من هذا العام زاد بنسبة 405%، لتحتل الصين المرتبة الأولى كأفضل شريك تجاري لإفريقيا للعام الـ12 على التوالي.
كما ارتفعت الاستثمارات الصينية في إفريقيا بصورة غير مسبوقة، حيث بلغت 2.9 مليار دولار عام 2020 بزيادة قدرها 9.5% عن العام الذي يسبقه، فيما تركزت قطاعات الاستثمار في مجالات التعدين والتكنولوجيا والزراعة، وبحسب التقرير تم بناء 25 منطقة صينية تجارية في 16 دولة إفريقية جذبت 623 شركة باستثمارات إجمالية بلغت 7.3 مليار دولار ووفرت أكثر من 46 ألف فرصة عمل لأبناء القارة الإفريقية.
ووفق التقديرات الأمريكية كالدراسة التي أجرتها وكالة “ماكنزي” الأمريكية فإن هناك أكثر من 1000 شركة صينية تعمل حاليًّا في إفريقيا، في مقابل تقديرات أخرى تشير إلى أن العدد يتجاوز 2500 شركة، 90% منها شركات خاصة، وهو ما أثار قلق السلطات الأمريكية التي بدأت تتخوف من تعاظم هذا النفوذ على حساب مصالحها وبما يميل كفة التفوق الاقتصادي باتجاه الصين، خاصة أن الدراسة توقعت وصول الأرباح الصينية جراء استثماراتها في إفريقيا إلى 440 مليار دولار بحلول 2025 أي بزيادة قدرها 144%، لافتة إلى أن جنوب إفريقيا وإثيوبيا تتصدران قائمة الاستثمارات الصينية، تليها زامبيا وأنغولا والغابون، وهي الدول التي تمتلك ثروات تعدينية كبيرة لا سيما المعادن الإستراتيجية التي أشارت التقارير إلى أنها ستكون من أسباب الصراعات المستقبلية بين القوى الكبرى.
هذا التغول الصيني داخل القارة السمراء دفع الولايات المتحدة إلى التراجع عن سياسة الابتعاد عن القارة ومحاولة النهل قدر الإمكان من هذا الكنز الإستراتيجي لتلبية احتياجات قطارها الصناعي نحو المستقبل، ففي عام 2019 أبرمت واشنطن مع بلدان إفريقيا 107 صفقات في مجال الطاقة و75 نشاطًا تجاريًا زراعيًا و54 صفقة في الرعاية الصحية، و43 في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بجميع أنحاء إفريقيا بقيمة إجمالية بلغت 50 مليار دولار.
وخلال مائدة مستديرة عن “الاستثمار في إفريقيا” عقدت في العاصمة الأمريكية في فبراير/شباط الماضي أكد المشاركون دعم إدارة الرئيس جو بايدن، توجيه الاستثمارات إلى القارة السمراء، فيما بات الاستثمار في إفريقيا أولوية ضمن الاهتمام الأمريكي بالاستثمار في جميع أنحاء العالم، حسبما نقل البنك الإفريقي للتنمية في بيان له – عن نائبة مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الإفريقية أكونا كوك، التي أضافت “جعلنا الحد من المخاطر المتوقعة والمخاطر الفعلية لممارسة الأعمال التجارية في إفريقيا أولوية قصوى، لدعم الاستثمار اللازم للنمو الاقتصادي في القارة”.
المعطيات السابقة تشير إلى أنه من المتوقع خلال الفترة المقبلة زيادة حجم الاستثمارات الأمريكية والصينية في دول إفريقيا التي تمتلك احتياطيًا كبيرًا من المنجنيز كجنوب إفريقيا والغابون وزامبيا، في إطار صراع النفوذ بين القوتين على امتلاك أدوات المستقبل والعناصر الحيوية اللازمة لذلك.