ماذا يحدث بين إيطاليا وفرنسا؟ سؤال تتداوله دوائر سياسية وإعلامية في روما وباريس وعواصم أوروبية أخرى، هل هناك خلل ما يتم التغطية عليه بغية عدم كشفه أم أن مسألة الهجرة واللاجئين سبب التوتر الحاصل بين البلدين الأوروبيين؟
رصدنا مؤخرًا، علامات غضب فرنسي وإيطالي ظهرت إزاء بعض الملفات، غضب عبر عنه في بعض الحالات كبار مسؤولي البلدين صراحة، ويظل بعضه الآخر في الكواليس وقنوات ثنائية ومتعددة الأطراف، في هذا التقرير لنون بوست سنحاول رصد الملفات الخلافية بين البلدين التي من شأنها أن تهدّد تماسك التكتل الأوروبي مستقبلًا.
مسألة الهجرة واللاجئين
مرة أخرى، يكون موضوع الهجرة القطرة التي تفيض الكأس، إذ عاد هذا الموضوع ليطفو مجددًا على سطح العلاقات الفرنسية الإيطالية ويكون سببًا في توتر كبير بين البلدين الأوروبيين وتبادل الاتهامات بين الطرفين.
البداية كانت برفض إيطاليا بقيادة حكومة جديدة يمينية متطرفة استقبال سفينة “أوشن فايكينغ” الإنسانية لإنقاذ المهاجرين يوجد على متنها 234 مهاجرًا من جنسيات مختلفة، وتتبع السفينة المنظمة غير الحكومية “إس أو إس متوسط”.
رفضت إيطاليا استقبال السفينة العالقة في البحر المتوسط، ما دفع بعض المهاجرين إلى الدخول في إضراب عن الطعام، ولم يُسمح بنزول إلا من هم في حالة صحية سيئة بشكل واضح، رغم أن القانون الدولي والاتفاقيات الأوروبية تنص على ضرورة استقبال السفن الإنسانية.
يذكر أنها ليست المرة الأولى التي تمنع فيها إيطاليا سفنًا إنسانيةً من الرسو في موانئها، إذ اضطرت سفن إنسانية عدة لإجراء مفاوضات صعبة في الفترة الأخيرة من أجل إنزال المهاجرين غير النظاميين من على متنها، مع الحكومة الإيطالية اليمينية التي تعهدت بتبني موقف صارم حيال المهاجرين.
هذا المنشور كان قبل الانتخابات الإيطالية ب 10 أيام
و اليوم بعد شهر من تنصيب الحكومة الجديدة، اندلاع أول أزمة مهاجرين بين فرنسا و إيطاليا أدّت إلى غلق الحدود بين البلدين و تشديد الرقابة في سابقة هي الأولى في تاريخ الاتحاد الأوروبي و منطقة شنغن
المهم .. مازال الخير ??? pic.twitter.com/NEH6ghbh5H
— Reda Chouib (@RedaChouib) November 11, 2022
تقول حكومة إيطاليا بقيادة اليمينية المتطرفة جورجا ميلوني إن الدولة التي تحمل السفن الإنسانية علمها هي المسؤولة عن اللاجئين، أي أنها تقصد الدول التي سجلت السفن بها، فإن كانت السفن مسجلة في فرنسا فباريس مسؤولة عن اللاجئين وإن كانت مسجلة في ألمانيا فبرلين هي المسؤولة.
في المقابل يقول المشرفون على سفن الإنقاذ إن القانون الدولي ينص على جلب الأشخاص الذين تم إنقاذهم إلى أقرب ميناء آمن، وإلى الآن توجد عدة سفن وعلى متنها نحو مئات المهاجرين في البحر قبالة سواحل إيطاليا في انتظار تصريح بالرسو من الحكومة الجديدة التي تولت السلطة شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
هذا الرفض الإيطالي لاستقبال السفن الإنسانية وخاصة سفينة “أوشن فايكينغ” التي تحمل العلم النرويجي، اعتبرته باريس أمرًا غير مقبول تخل بموجبه روما بـ”التزاماتها الأوروبية”، لا سيما أنها “في الواقع المستفيد الأول من آلية التضامن المالي الأوروبية”.
ترى السلطات الإيطالية أن فرنسا السبب الأبرز في تأزم الوضع في ليبيا وفي تفقير إفريقيا ونهب ثروات القارة السمراء
إلى جانب انتقادها التصرف الإيطالي، سمحت فرنسا برسو السفينة بميناء مدينة تولون جنوب البلاد، بعد ثلاثة أسابيع من التجوال دون جدوى بحثًا عن ميناء آمن في إيطاليا، لتنتهي بذلك معاناة مئات المهاجرين العالقين في السفينة.
وأوضح رئيس الهيئة الحكومية الفرنسية المعنية بالتعامل مع الأجانب أن تسع دول من الاتحاد الأوروبي وافقت على استقبال ثلثي المهاجرين وهم: ألمانيا ولوكسمبورغ وبلغاريا ورومانيا وكرواتيا وليتوانيا ومالطا والبرتغال وأيرلندا، على أن يتم إعادة الأشخاص غير المؤهلين للبقاء في التكتل إلى بلدانهم الأصلية.
بالتوازي مع ذلك، قررت فرنسا التعليق الفوري لمشروع كان مقررًا الصيف القادم، وهو استقبال 3500 لاجئ موجودين حاليًّا في إيطاليا، وأكد وزير الداخلية الفرنسي جيرار دارمانان قائلًا: “ستكون هناك عواقب وخيمة جراء الموقف الإيطالي على علاقاتنا الثنائية”.
استنكار إيطالي وخوف على تعويضات كورونا
رأت سلطات روما التهديدات الفرنسية الأخيرة استهدافًا مباشرًا لها، إذ استنكر وزير الداخلية الإيطالي ماتيو بيانتيدوسي القرار الفرنسي باتخاذ اجراءات انتقامية بحق روما لرفضها السماح لسفينة تقل مهاجرين بالرسو في موانئها، ما أجبر باريس على استقبالها.
ماتيو بيانتيدوسي، اعتبر القرار الفرنسي “غير مفهوم تمامًا”، وقال في بيان “رد فعل فرنسا على طلب استقبال 234 مهاجرًا، بينما استقبلت إيطاليا 90 ألفًا هذا العام، غير مفهوم على الإطلاق”، وساندت رئيسة الحكومة وزير داخليتها.
شاهد صراخ #مهاجرين يستغيثون في #البحر
هتاف وصراخ ونوبات هلع هكذا كان حال #المهاجرين الذين تم إنقاذهم ولم يُسمح لهم بالنزول في ميناء آمن. سفينة واحدة من أصل أربعة غادرت سواحل #إيطاليا واتجهت نحو فرنسا .ما هي هذه السفينة وكم عدد المهاجرين على متنها المزيد في التقرير التالي pic.twitter.com/BftBmVKKGo
— InfoMigrants / مهاجر نيوز (@InfoMigrants_ar) November 9, 2022
أدانت اليمينية المتطرفة جورجيا ميلوني ما أسمته “رد فعل عدائي وغير مفهوم وغير مبرر” من السلطات الفرنسية.
تخشى السلطات الإيطالية أن تكون العواقب التي تحدثت عنها فرنسا تتعلق بأموال كورونا، وهو ما دفع جوفان باتيستا فاتزولاري، الذي يعد أحد أقرب مساعدي ميلوني، إلى تحذير باريس من تقييد قدرة بلاده على الحصول على أموال الاتحاد الأوروبي المخصصة للتعافي من وباء كورونا.
وتعد إيطاليا المستفيد الأبرز من بين دول الاتحاد الأوروبي، مما يسمى الصندوق الأوروبي للتعافي والمرونة، حيث تم تخصيص 191.5 مليار يورو لروما، وهو فرصة لروما لإنقاذ اقتصادها المتهالك وأي مس به سيزيد من متاعب الحكومة.
خلافات خارجية
الخلافات بين روما وباريس لا تقتصر على مسألة الهجرة فقط، إنما تمتد أيضًا إلى العديد من الملفات الخارجية، أبرزها الملفات الليبية، فلكل دولة موقف معين بالنسبة للأزمات الإفريقية، ما جعلها تتصادم في العديد من المرات.
وسبق أن سحبت باريس سفيرها في روما سنة 2019، احتجاجًا على تصريحات مسؤولين إيطاليين اعتبرتها “متجاوزة لكل الحدود”، انتقدت السياسة الفرنسية في إفريقيا وليبيا، واتهمت الحكومة الإيطالية حينها فرنسا بالعمل على إبقاء الوضع عما هو عليه في ليبيا، كما اتهمتها بتفقير القارة الإفريقية بسبب استغلال ثرواتها منذ عقود طويلة.
توتر العلاقات بين البلدين من شأنه أن يؤدي إلى “زلزال” داخل الاتحاد الأوروبي الذي يشهد بدوره أزمات كبرى بين العديد من أعضائه
ترى السلطات الإيطالية أن فرنسا السبب الأبرز في تأزم الوضع في ليبيا وفي تفقير إفريقيا ونهب ثروات القارة السمراء، وهي السبب في ارتفاع عدد الهاجرين غير النظاميين المتجهين نحو السواحل الإيطالية.
ودعا زعيم حزب “رابطة الشمال” المتطرف ماتيو سالفيني الاتحاد الأوروبي لفرض عقوبات على دول منها فرنسا، بتهمة “إفقار إفريقيا” ودفع المهاجرين للجوء إلى أوروبا من خلال سياساتها الاستعمارية.
التدخل في الشؤون الداخلية
في مقابل ذلك، تتهم باريس مسؤولين إيطاليين بالتدخل في شؤونها الداخلية ومساندة الاحتجاجات المناوئة لحكومة ماكرون، وسبق أن عبّر زعيم حركة “خمس نجوم” لويجي دي مايو المشارك في الحكومة اليمينية المتطرفة عن دعمه لمتظاهري “السترات الصفراء” في فرنسا.
لم يكتف دي مايو بالدعم الشفوي بل أرسل رسالة في الغرض، وهي المرة الأولى التي يرسل فيها مسؤول رسمي داخل إحدى الدول الأوروبية رسالة يعبر فيها بصراحة عن دعمه لحركة احتجاجية تطالب بإسقاط الحكومة في دولة أوروبية أخرى.
وهو نفس موقف لويجي دي مايو الذي شغل منصب وزير خارجية إيطاليا في الحكومة الماضية، حيث التقى في ضواحي باريس بمسؤولين عن حراك “السترات الصفراء”، وهي رسالة لماكرون تفيد دعم ساسة إيطاليا للحراك الاحتجاجي ضده.
رأت فرنسا في هذه التحركات والتصريحات الإيطالية “تدخلات وهجمات غير مسبوقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية”، إلا أن روما لم تتراجع عن موقفها وأصرّت عليه، وجددت التدخل في مرات عديدة.
تهديد “تماسك” الاتحاد الأوروبي
من المرتقب أن يزداد التوتر بين البلدين أكثر، خاصة مع وصول حكومة تحالف يمينية إلى السلطة في إيطاليا، ومن المنتظر أن يعقد اليمين المتطرف العلاقات بين روما وباريس التي خسرت حليفًا داخل البرلمان الأوروبي.
?Rescues completed
After the longest blockage in SOS MEDITERRANEE’s history, the #OceanViking could finally disembark all 234 persons rescued. As per maritime law, rescue operations end when all survivors disembark in a place of safety. pic.twitter.com/meFwctYm88
— SOS MEDITERRANEE (@SOSMedIntl) November 11, 2022
توتر العلاقات بين البلدين من شأنه أن يؤدي إلى “زلزال” داخل الاتحاد الأوروبي الذي يشهد بدوره أزمات كبرى بين العديد من أعضائه، نتيجة الخلافات الكبيرة وتباين زوايا النظر بخصوص قضايا إقليمية عديدة.
فقدت فرنسا حليفها في إيطاليا، رئيس الوزراء السابق ماريو دراغي، ووصلت ميلوني التي لم تكن المرشح الأبرز لماكرون والأوروبيين، فميلوني لا تخفي عداءها للاتحاد القاري ودائمًا ما تنتقده وتشكك في جدوى وجوده.
يعني هذا أن الاتحاد الأوروبي سيشهد فترة حرجة، خاصة في ظل صعود تيار اليمين المتطرف إلى الحكم في العديد من الدول الأوروبية على غرار إيطاليا وقبلها المجر، ما سيثقل كاهل الفرنسيين والألمان الساعين إلى تطوير آليات عمل الاتحاد القاري.