يحظى هذا الموضوع اليوم باهتمام بالغ في العراق، خصوصًا أنه كان أحد أبرز التعهدات الرئيسية التي التزم بها رئيس الوزراء محمد شياع السوداني في برنامجه الحكومي، في أثناء التصويت على كابينته الوزارية في البرلمان العراقي، إلى جانب تعهدات أخرى تتعلق بإعادة الإعمار وإيقاف العمل بالتدقيق الأمني.
ورغم فرصة نجاحه في تحقيق التعهدين الأخيرين، كونهما يتعلقان بإجراءات حكومية بحته، فإن مسألة التعاطي مع موضوع إخراج الفصائل المسلحة المنضوية ضمن الحشد الشعبي من المدن السنية المحررة من سيطرة تنظيم “داعش”، تقف أمامها العديد من العقبات الداخلية والخارجية التي سيجد السوداني نفسه مجبرًا على التعامل معها.
إذ حرصت الفصائل المسلحة في مرحلة ما بعد التحرير، على إعادة تشكيل هذه المدن ديموغرافيًا وسياسيًا واقتصاديًا، كما أنها وفرت كل إمكانات الاستمكان الأمني فيها، ما جعلها تمتلك اليد الطولى فيها، وتنجح بإضعاف دور الحكومات المحلية فيها، فأصبحت تسيطر بصورة رئيسية على الدوائر المحلية، وتمكنت عبر لجانها الاقتصادية من وضع يدها على أغلب المشاريع الاقتصادية والتجارية والاستثمارية.
وفي ظل هذا الواقع، كيف ستتعامل الفصائل المسلحة المنضوية ضمن الحشد الشعبي، التابع إداريًا للقائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء، مع أي قرار يصدره السوداني بهذا الخصوص، باعتباره قائدًا عامًا لها؟
مما لا شك فيه أن هذا الملف سيكون خاضعًا للعديد من المناقشات، ولن يكون السوداني صاحب القرار الوحيد فيه، فعلى الرغم من إلحاح القوى السنية الممثلة بتحالف السيادة، على إنهائه بأقرب فرصة ممكنة وتحويل الملف الأمني للشرطة المحلية، فإن هناك بالمقابل ترددًا كبيرًا من قوى الإطار التنسيقي الشيعي في الحديث عنه، فهي إلى جانب محاولتها الإبقاء على الفصائل المسلحة في داخل المدن السنية، لا تريد فقط الحفاظ على نفوذ حواضنها الاجتماعية هناك، وإنما لما قد ينتجه ذلك من تأثير كبير على دور بعض هذه الفصائل في الساحة السورية، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بمحافظات نينوى والأنبار المتاخمة للحدود السورية، إذ نجحت الفصائل المسلحة، عبر التنسيق مع إيران، في إمداد الكثير من قواتها الموجودة في الساحة السورية، عبر عمليات الدعم اللوجستي والمادي القادمة من هاتين المدينتين.
الاقتصاد الأسود هو الأهم
تتمثل أهم مسارات الدور الاقتصادي للفصائل المسلحة في المدن المحررة، عبر المكاتب واللجان الاقتصادية التي تنتشر فيها، إذ تمارس هذه المكاتب نشاطاتها عبر فرض رسوم جباية وضرائب على أصحاب المتاجر والمحلات وغيرها، فينتشر في نينوى وحدها أكثر من 60 مكتبًا اقتصاديًا، أدت هذه المكاتب دورًا كبيرًا في السيطرة على كل مجالات العمل الاقتصادي والتجاري في هذه المدن، وبالشكل الذي خلق ثروات مالية كبيرة لقيادات هذه الفصائل المسلحة.
يأتي البعد الثقافي بدوره كأحد الأبعاد المهمة في الدور الذي تمارسه الفصائل المسلحة في المدن المحررة من سيطرة “داعش”، الذي جاء مكملًا للأدوار السياسية والاقتصادية والأمنية
ومن أبرز ملامح الهيمنة الاقتصادية والتجارية لهذه الفصائل: القيام بتعاملات تجارية غير مشروعة، عبر عمليات التهريب التي تجري بين المدن المتجاورة، فضلًا عن تجارة الحديد والمعادن، والأكثر من ذلك، التحكم بعمليات التجارة الغذائية والسلعية الداخلة والخارجة لهذه المدن، والقيام بمشاريع تجارية واستثمارية كبيرة، عبر افتتاح العديد من المجمعات والأسواق التجارية، فضلًا عن إجبار التجار ورجال الأعمال في هذه المدن على التعامل معهم حصرًا.
فضلًا عن ذلك، السيطرة على دوائر التسجيل العقاري عبر مجموعة من الموظفين المحسوبين عليها، من خلال التلاعب بجنس الأراضي الزراعية والأملاك، ومصادرة الكثير من الأراضي والممتلكات، خصوصًا تلك العائدة لعوائل تنظيم “داعش” أو العائدة لعوائل مسيحية مهجرة، وفرض السيطرة على المنافذ الحدودية، وتحديدًا في مدن ديالى والأنبار، وفرض إتاوات مالية وضريبة على ساحات تلك المنافذ، وأبرزها منافذ القائم وطريبيل والمنذرية وزرباطية.
إلى جانب القيام بعمليات تهريب النفط، من خلال السيطرة على العديد من الحقول النفطية في نينوى وصلاح الدين، فضلًا عن حقول علاس وعجيل على امتداد جبال حمرين، والسيطرة على ملف إعادة إعمار المدن المحررة، من خلال الدفع بالشركات المحسوبة عليها، للسيطرة على عقود ومقاولات البناء، وعدم السماح لأي مشروع بالاكتمال دون أخذ نسبة محددة من الأرباح، وكذلك السيطرة على كراجات السيارات في أغلب هذه المدن، والاستثمار فيها، ووضع اليد على العديد من المزارع الكبرى في العوجة والعوينات وقرى البيات في سليمان بك، إلى جانب الاستثمار في أحواض السمك في سامراء.
النفوذ الثقافي يدخل على الخط
يأتي البعد الثقافي بدوره كأحد الأبعاد المهمة في الدور الذي تمارسه الفصائل المسلحة في المدن المحررة من سيطرة “داعش”، الذي جاء مكملًا للأدوار السياسية والاقتصادية والأمنية، وقد أنتجت أدوار الفصائل المسلحة في هذا المجال تأثيرات كبيرة، بدأت تفرض نفسها على واقع هذه المدن وسكانها، ومن أبرز هذه الأدوار: ترويج النموذج الديني والاجتماعي الإيراني في هذه المدن، عن طريق افتتاح العديد من المراكز الثقافية والدينية، فضلًا عن افتتاح معاهد تعليم اللغة الفارسية، بدعم من الملحقية الثقافية الإيرانية في بغداد.
كما تم افتتاح العديد من المدارس في مدن نينوى وديالى، بدعم من القنصلية الإيرانية في بغداد، فضلًا عن إعلان السفارة الإيرانية في بغداد، رغبتها في افتتاح قنصلية إيرانية في مناطق سهل نينوى، وذلك رغبة منها في الإشراف المباشر على التحركات السياسية والعسكرية الإيرانية في محيط محافظة نينوى، فضلًا عن دورها في تحديد خطط انتشار الفصائل المسلحة في المحافظة وأطرافها، وسعيها لخلق نسبة سكانية “شيعية” وازنة داخل الهيكل السياسي في محافظات نينوى وديالى وصلاح الدين، من أجل ضمان حصول أحزابٍ مواليةٍ لإيران، على نسبة جيدة من أصوات سكان هذه المدن، للتأثير على الواقع السياسي فيها مستقبلًا.
قد تنعكس أدوار هذه الفصائل سلبًا على انضباط هذه المدن سياسيًا وأمنيًا
إذ تم تحويل أغلب المجتمعات الشيعية الموجودة في مناطق سهل نينوى إلى مليشيات مجتمعية مرتبطة بالمشروع السياسي الإيراني، وذلك عن طريق بروباغندا الدعاية الإيرانية، التي تؤكد دائمًا على مسألة التهديد الوجودي للشيعة في هذه المناطق، واقتطاع العديد من الأراضي والممتلكات التابعة للوقف السُني وتحويلها لملكية الوقف الشيعي، كما حصل في الأراضي المحيطة بالنبي يونس والنبي شيت ومركز مدينة الموصل.
كما نجحت هذه الفصائل في إقامة العديد من الدورات والندوات والفعاليات الثقافية التي ترسخ فكرها ووجهة نظرها في هذه المدن، فضلًا عن المشاركة في المؤتمرات العلمية التي تقيمها الجامعات والكليات هناك، وإنشاء تجمعات دينية تخدم مشروعها السياسي في هذه المدن، من أبرزها جماعة الرباط المحمدي، التي تضطلع بدور كبير اليوم في نينوى والأنبار وأصبحت تمارس دورًا يوازي دور الوقف السُني في هذه المدن، بدعم من الملحقية الثقافية الإيرانية في بغداد.
من خلال ما تقدم لا بد من القول إن حكومة السوداني مطالبة اليوم بإعادة النظر في وضع الفصائل المسلحة في المدن المحررة من سيطرة داعش، ولا بد أن تتناول الجهود الحكومية إصلاح وضع الحشد الشعبي عبر العديد من الأوامر الديوانية المرقمة (237 -331-328) الصادرة عام 2019، التي أكدت ضرورة إجراء مراجعة هيكلية ووظيفية لدور الحشد الشعبي، وتحديدًا دور الفصائل المسلحة في هذه المدن، التي تمكنت من خلال سطوتها الأمنية والاقتصادية والسياسية والثقافية على واقع هذه المدن، من أن تتحول إلى دولة موازية في العراق، قد تهدد مستقبلًا النظام السياسي العراقي، إلى جانب التداعيات الإقليمية التي أنتجتها أدوار هذه الفصائل، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بوجودها على الحدود السورية.
فوضع هذه الفصائل لم يعد يتوافق مع واقع هذه المدن التي أصبحت تعاني من أدوارها وممارساتها، فضلًا عن ذلك قد تنعكس أدوار هذه الفصائل سلبًا على انضباط هذه المدن سياسيًا وأمنيًا، فالانتهاكات الجسيمة التي ارتكبتها منذ تحرير هذه المدن من سيطرة داعش، قد تشكل بدورها فرصة لاختراق عناصر داعش هذه المدن من جديد، مستغلة حالة التذمر الشعبي من أدوار هذه الفصائل، فنشاطات التنظيم نشطت في الآونة الأخيرة على تخوم نينوى والأنبار وصلاح الدين، فضلًا عن شنه هجمات عديدة في مناطق حزام بغداد، وهذه المناطق بمجملها تشهد انتشارًا كثيفًا للفصائل المسلحة.