أعادت تركيا هندسة سياستها تجاه الملف السوري، وغيّرت أولوياتها التكتيكية والاستراتيجية بعد جملة من المتغيرات الداخلية والخارجية التي أثّرت بشكل مباشر على دورها وموقفها في سوريا، إذ جاء التقارب التركي مع روسيا، وتبدُّل أولوياتها في سوريا نحو التركيز على هزيمة تنظيم PYD الإرهابي، ومنع تشكيل دولة كردية على حدودها تهدد أمنها ووحدتها السياسية ووضعه على قائمة أولوياتها.
حيث أفضى كل ذلك إلى تموضع تركي جديد، حجزت به تركيا مكانًا ودورًا مهمَّين ضمن المعادلة السورية، خاصة مع انخراطها عسكريًّا في سوريا عبر عملية “درع الفرات” ومن ثم “غصن الزيتون” بتنسيق مع روسيا، بعد مشاركتها في إطلاق مسار أستانة بالتزامن مع دخول قواتها إدلب وتشكيل نقاط مراقبة ضمن إطار اتفاق خفض التصعيد الذي تمَّ بموجب أستانة، والذي شكّل محطة مهمة ومفصلية في مسار الملف السوري عمومًا وفي دور تركيا تحديدًا.
اتفاق خفض التصعيد والانتشار التركي في إدلب
توصّلت الأطراف الثلاث الراعية لمسار أستانة (روسيا وتركيا وإيران) في 4 مايو/ أيار 2017، خلال الجولة الرابعة من المفاوضات، إلى تفاق ينصّ على خفض التصعيد في 4 مناطق رئيسية في سوريا، تتضمّن المناطق التي تشهد مواجهات بين الفصائل العسكرية ونظام الأسد وحلفائه الإيرانيين والروس في إدلب، وأجزاء من محافظات اللاذقية وحماة وحلب وحمص ودرعا والقنيطرة، إضافة إلى الغوطة الشرقية، لمدة 6 أشهر قابلة للتمديد بموافقة الدول الضامنة، بهدف وقف إطلاق النار ومنع نشوب أي حوادث أو مواجهات عسكرية جديدة، وتأمين دخول المساعدات الإنسانية من دون عوائق بحسب بنود الاتفاق.
وجاء اتفاق إقامة مناطق خفض التصعيد في سياق متصل بفشل الجهود الروسية التركية في تثبيت وقف إطلاق النار بموجب محادثات أستانة الثلاث الأولى، في ظل خروقات متكررة من قبل نظام الأسد للاتفاقيات.
ويبدو أن روسيا أرادت بطرحها مبادرة الاتفاق على طاولة مفاوضاتها مع تركيا في أستانة، حصر مداخل ومخارج الحلّ السياسي في سوريا بيدها وإبعاد أي محاولات للتشويش على هيمنتها على تشعُّبات المعادلة السورية سياسيًّا وميدانيًّا، لا سيما بعد إبداء إدارة ترامب الأمريكية استعدادها للانخراط مجددًا في الملف السوري، بعد استهدافها لعدد من القواعد العسكرية لقوات نظام الأسد، كإجراء عقابي على استهدافه بلدة خان شيخون في ريف إدلب الجنوبي بالكيماوي، وطرح الإدارة فور تسلُّمها السلطة فكرة إقامة مناطق آمنة في سوريا، وطلب ترامب من وزارتَي الدفاع والخارجية وضع خطة لإنشاء مناطق آمنة داخل سوريا في غضون 90 يومًا.
وكنتيجة لجولة أستانة السابعة، توصّلت الأطراف المشاركة إلى اتفاق تفصيلي يقضي بإنشاء منطقة خفض التصعيد في محافظة إدلب، تضمّن رسم خرائط تفصيلية لمواقع انتشار قوات تركية في نقاط داخل المحافظة، في حين تنتشر قوات روسية في نقاط خارجها لمراقبة تنفيذ وقف إطلاق النار.
إذ أعلن الرئيس التركي، أردوغان، عزم بلاده إنشاء منطقة آمنة في إدلب، ليبدأ الانخراط العسكري التركي الثاني في سوريا مع دخول قوات من فصائل المعارضة السورية برفقة قوات عسكرية تركية لإقامة نقاط مراقبة في إدلب، بتنسيق سياسي وعسكري كامل مع روسيا وإيران.
وتمحورت دوافع تركيا في انخراطها العسكري في إدلب في إطار محادثات أستانة حول جملة من الأهداف، دفعتها إلى اتخاذ قرار سياسي رغم ما اكتنف العملية حينها من مخاطر وعقبات أمنية عديدة، ولعلّ منع تشكيل دولة كردية على حدودها الجنوبية لا سيما في عفرين، وإيقاف تمدد نفوذ حزب الاتحاد الديمقراطي “PYD”؛ شكّل هدف تركيا الرئيسي من تحركاتها العسكرية في إدلب.
وهذا ما أشار إليه صراحة الرئيس التركي عندما حدد هدف العملية التركية آنذاك، بقوله: “لن نسمح بإقامة ممرّ إرهابي يبدأ من عفرين إلى البحر المتوسط”، ويبدو أنه كان هناك توجُّس وقلق تركيَّين من تمدّدٍ محتمَل للتنظيمات الكردية الانفصالية بدعم أمريكي للسيطرة على إدلب، بذريعة محاربة هيئة تحرير الشام التي بسطت سيطرتها على كامل إدلب بعد إقصائها فصائل قوى الثورة والمعارضة، والوصول إلى منفذ على البحر المتوسط.
جاء التدخل العسكري التركي في إدلب، إلى جانب التحركات الميدانية والسياسية التركية لاحقًا، ليحدَّ من احتمالية السيطرة العسكرية لقوات النظام عليها.
في السياق ذاته، رسّخت تركيا دورها في الشمال السوري عبر دخولها عسكريًّا إلى إدلب، وحظيت بتأثير سياسي واقتصادي وأمني في كامل منطقة الشمال الممتدة من مناطق درع الفرات إلى إدلب والعمق السوري المحاذي لمحافظة حماة والساحل السوري، ما أكسب تركيا ورقة قوّة مهمة ومؤثرة في سياق جهودها في الحفاظ على دورها في مجمل المعادلة السورية، وتحديدًا في العملية السياسية، وذلك بالنظر إلى أن زيادة مساحة سيطرتها ونفوذها الميداني سينعكس طردًا على طاولة المفاوضات في جنيف وأستانة وسوتشي مع الأطراف الفاعلة.
ويمثل ملف اللجوء السوري إلى تركيا دافعًا استراتيجيًّا إضافيًّا وراء انخراطها عسكريًّا في إدلب، ومنعها لاحقًا محاولات نظام الأسد وحلفائه المتكررة للسيطرة على آخر قلاع المعارضة السورية في إدلب، التي تشكّل تجمعًا سكانيًّا ضخمًا، حيث يبلغ تعداد سكان مناطق الشمال (إدلب وأرياف حلب الغربية والشمالية) ما يقارب 2.2 مليون، وأُضيف لهم ما يزيد على 1.5 مليون مهجّر قسري من مختلف المناطق السورية.
إذ خشيت تركيا حقيقةً من أن عدم انخراطها في إدلب قد يفسح المجال أمام النظام وحلفائه لمهاجمتها، وإحداث أزمة أمنية وكارثة إنسانية خطيرة على حدودها، ما قد يدفع آلاف السكان إلى البحث عن الأمان والاستقرار، لا سيما في ظل التدفق الهائل للاجئين السوريين المهجّرين من مناطقهم على شكل موجات متلاحقة مستمرة إلى تركيا بحثًا عن الأمان، حيث استقبلتهم تركيا بدورها مقدِّمة تسهيلات ضمن سياسة “الباب المفتوح”، لتصبح أكبر محتضن للوجود السوري اللاجئ.
وقد أدّى ذلك تدريجيًّا إلى تغيُّر شكل العلاقة الناظم بين المجتمع التركي المضيف مع اللاجئين السوريين باتجاه سلبي، ما لبث أن تحول إلى مواقف كراهية للسوريين ومن ثم إلى حالات استهداف مباشر، خاصة مع تزايد أعداد اللاجئين السوريين وطول مدة إقامتهم، وتغيُّر الأوضاع السياسية والاقتصادية في تركيا، ما جعل من مسألة تهيئة الظروف المناسبة لعودة اللاجئين وتشجيعهم على العودة إلى أماكن إقامتهم في سوريا هدفًا تركيًّا استراتيجيًّا.
وعليه، جاء التدخل العسكري التركي في إدلب، إلى جانب التحركات الميدانية والسياسية التركية لاحقًا، ليحدَّ من احتمالية السيطرة العسكرية لقوات النظام عليها، خاصة أن النظام لا يؤمن إلا بالحل العسكري الصفري، وبالتالي سيطرته على إدلب تعني انتفاء أية حظوظ لأي حلّ سياسي في سوريا، وإحداث أزمة إنسانية سيكون من الصعب التعامل معها والتحكم بها، وهو ما ترفضه تركيا التي تولي بدورها أهمية قصوى للعملية السياسية.
الانخراط التركي وتطورات الوضع في إدلب
رسمت السياسة التركية مصالحها الاستراتيجية في إدلب وحددتها عبر عدة نقاط، لعلّ أهمها تجنيب المنطقة كارثة إنسانية من شأنها أن تنعكس مباشرة على تركيا، التي قد يعرّضها التصعيد العسكري لموجات لجوء جديدة في ظل تأزُّم الوضع السياسي الاقتصادي الداخلي التركي، وذلك بربطها مسألة إدلب بالأمن القومي التركي، والذي تكرر على لسان مسؤولين أتراك، ورفضها أي عملية عسكرية لنظام الأسد وحلفائه، متمسّكة بتثبيت وقف إطلاق النار.
وكذلك تمسّكت تركيا بالبقاء في إدلب والدفاع عنها رغم ما شهدته المنطقة على مدار السنوات الأخيرة من حملات عسكرية متتالية ومتكررة للنظام وحلفائه الإيرانيين والروس، وسيطرته على مساحات واسعة (حوالي 2345 كيلومترًا مربعًا من إدلب) ونقاط متقدمة في أرياف إدلب وحلب وحماة، بما في ذلك مدينة سراقب والطريق الاستراتيجي السريع M5 الذي يربط بين محافظتَي حلب ودمشق، حيث لطالما تذرّعت روسيا بمسألة التنظيمات الراديكالية المتمثلة بهيئة تحرير الشام كشمّاعة، لقضم المناطق المحررة والتفلُّت من التزاماتها التي أثبتتها الاتفاقيات والتفاهمات.
وتمثل خسارة إدلب بالنسبة إلى تركيا تهديدًا من ناحية احتمالية فقدانها التأثير على مسار الحل السياسي، وإضعاف دورها ونفوذها في الملف السوري، إلى جانب اعتبارها أن وجودها في إدلب يحافظ فعليًّا على المكتسبات التي حققتها ميدانيًّا في عملية “درع الفرات” و”غصن الزيتون”.
ولهذا استقدمت تركيا تعزيزات عسكرية ضخمة على دفعات متتالية، ودفعت بعتاد عسكري هجومي ودفاعي يتضمّن آليات عسكرية من دبابات ومدافع وراجمات صواريخ إلى نقاطها الموزّعة على امتداد منطقة الشمال، وزادت من انخراطها العسكري لمنع تقدم قوات النظام التي تبادلت القصف في كثير من الأحيان معها.
أثبت انخراط تركيا العسكري ودخولها في مواجهات مباشرة مع النظام في إدلب أهمية المنطقة الاستراتيجية بالنسبة إلى تركيا، من ناحية ما تعنيه خسارة المنطقة من تهديد مباشر للأمن القومي التركي وللوجود التركي في سوريا.
ورغم تمسُّك تركيا بالبقاء في إدلب ومحاولاتها الحؤول دون وقوعها بيد نظام الأسد وحلفائه، إلا أن الموقف التركي بدا في بعض الأحيان مترددًا ومتأخرًا تجاه التطورات الميدانية، وذلك نظرًا إلى رغبتها في إبقاء تفاهماتها مع روسيا وإيران في سياقها المتقدم وتجنُّب انهيارها أو توقفها، في سياق تقاربها الاستراتيجي مع روسيا مقابل توتر علاقاتها مع الغرب، وتحديدًا مع تدهور العلاقات التركية مع الولايات المتحدة إلى درجة غير مسبوقة منذ عام 2018، وفرض الطرفَين عقوبات متبادلة.
هذا بالإضافة إلى تركيز تركيا جهودها على التهديدات الأمنية المتعلقة بالمشروع الكردي الانفصالي المدعوم أمريكيًّا، وحذرها في التعامل مع روسيا التي تنسّق معها على مختلف الأصعدة في الملف السوري، والذي أثمر عن تفاهم تركي مع روسيا يقضي بدخول تركيا مدينة عفرين وطرد التنظيمات الكردية الانفصالية منها، بعد عملية عسكرية تركية موسّعة بالتعاون مع الجيش الوطني السوري.
وأسهم الموقف الأمريكي-الأوروبي المتراخي نسبيًا مع الخطوات التصعيدية الروسية، واكتفاء الولايات المتحدة بتأكيد دعمها للجهود التركية ووقوفها إلى جانب تركيا في مواجهات خروقات النظام وحلفائه في مناسبات عديدة، إضافة إلى الانسحابات الأمريكية الجزئية من شمال شرق سوريا لصالح روسيا؛ في تعزيز موقف موسكو في سوريا وتعنّتها حيال ملف إدلب للحصول على مكاسب جديدة (قضم مناطق جديدة في إدلب وحسم الصراع عسكريًّا لصالح النظام)، عبر الضغط على تركيا التي وجدت نفسها وحيدة في مواجهة الضغوط الروسية.
فقد بذلت تركيا جهودًا لإيقاف حملات النظام العسكرية على إدلب دبلوماسيًّا، عبر اللجوء إلى توقيع عدد من الاتفاقيات والتفاهمات مع روسيا فيما يتعلق بمنطقة إدلب، والتهديد بإنهاء مسارَي أستانة وسوتشي، وعسكريًّا عبر دعم قوات المعارضة السورية بالسلاح والذخائر، وتعزيز نقاط المراقبة وإنشاء نقاط عسكرية جديدة لمنع تقدم النظام.
وقد مثّل التدخل العسكري المباشر للقوات التركية ضد قوات النظام متغيّرًا مهمًّا واستراتيجيًّا في مسار التصعيد العسكري بين الطرفَين، بعد أسابيع من تقدُّم قوات النظام والميليشيات الإيرانية المرتبطة بها، وبعد يومَين من استهداف قوات النظام تجمع لوحدة من الجيش التركي في بلدة بليون بمحافظة إدلب في 27 فبراير/ شباط 2020، مخلفة 36 قتيلًا وعشرات الجرحى في صفوف الجيش التركي.
إذ ردّت تركيا بإطلاق معركة “درع الربيع”، بهدف تأمين نقاط المراقبة التركية وتأمين الحدود وإجبار النظام على احترام اتفاق سوتشي وإعادة قواته إلى ما خلف خطوط منطقة عدم التصعيد، إذ استهدفت مواقع وآليات ومعسكرات قوات النظام برًّا وجوًّا بالمدفعية الثقيلة والصواريخ والطائرات المسيّرة والحربية، مكبّدة النظام والميليشيات الشيعية المرتبطة به خسائر فادحة في العتاد والأرواح.
في العموم، أثبت انخراط تركيا العسكري ودخولها في مواجهات مباشرة مع النظام في إدلب أهمية المنطقة الاستراتيجية بالنسبة إلى تركيا، من ناحية ما تعنيه خسارة المنطقة من تهديد مباشر للأمن القومي التركي وللوجود التركي في سوريا، وبالتالي ما يعتبَر إضعافًا لدور تركيا في المسار السياسي لحلّ الأزمة السورية، وتقويضًا لجهودها ودورها الإقليمي الأشمل.
وكذلك، تشكّلت قناعة لدى صانع القرار التركي بأن أهم ورقة استراتيجية تمتلكها تركيا في سوريا تتمثّل في تحالفها الاستراتيحي مع قوى الثورة والمعارضة وليس في تقاربها فقط مع روسيا، رغم أهمية هذا التقارب في التنسيق والتعاون بين الجانبَين، لا سيما بعد مرور العلاقة بينهما بمرحلة من التوتر عقب الاستهداف الجوّي للجنود الأتراك، واستمرار روسيا في دعم النظام في إدلب ضد المصالح التركية الحيوية والتفلُّت من التفاهمات المبرمة، فضلًا عن استثمارها في علاقتها مع التنظيمات الكردية الانفصالية في مناكفة تركيا، إلى جانب الخصومة الإقليمية بين الطرفَين التي رافقتهما في تلك المرحلة في ليبيا والبحر المتوسط وصراع قره باغ بين أذربيجان وأرمينيا.