تُنشر هذه المادة بالتعاون مع شبكة أريج للصحافة الاستقصائية
يتجول الإعلامي أحمد أبو سالم (اسم مستعار) في مدينة إدلب دون أن يُظهر كاميرته، خوفاً من أن يسمع كلاماً مسيئاً له من أحد المارة أو خوفاً من اعتداء عليه أو على كاميرته، خاصة بعد أن تم الاعتداء على صديق له وتكسير كاميرته من قبل شبان يعيشون في نفس المنطقة، وكل ذلك بدعوى أن ذلك الإعلامي يصوّر حالات المعاناة الإنسانية من أجل التكسب وربح المال.
أبو سالم بدأ العمل الإعلامي في شهر حزيران من عام 2011، أي بعد أشهر من اندلاع الثورة السورية. ويروي أبو سالم أن بلدته لم يكن لها أي حضور إعلامي مع بدء الثورة السورية، حتى خرجت فيها مظاهرة ضد نظام الحكم، مشيراً إلى أنه صوّر ما حصل وأرسله إلى صديق له، وبعد ساعات، رأى الناس مظاهرة بلدتهم على إحدى القنوات الإخبارية العربية، وبات الناس يحتفلون. ومع الأيام، صاروا ينظرون إلى أبو سالم على أنه هو البطل الذي جعل من قريتهم مشهورة.
يرى أبو سالم أن الناس في بداية الأمر كانوا ينظرون باحترام إلى الإعلامي الذي ينقل صوتهم ومطالبهم للإعلام، عكس ما يحصل الآن من مواقف احتقار وتوبيخ. كما يشير إلى أن الانتفاضة الشعبية في مارس 2011 في سوريا سمحت للكثير من الشباب أن ينخرطوا في النشاط الإعلامي والإغاثي والحقوقي وغيره، ومع طول أمد الحرب، اكتسب هؤلاء الناشطون خبرة كبيرة تؤهلهم لأن يكونوا صحفيين في وكالات مهمة وقنوات لم يكن من السهل سابقاً الوصول إليها.
في بداية الأمر، كانت للناشط الإعلامي أو المواطن الصحفي حظوة لدى المجتمع، إذ إنه كان ينقل صورة عن أوضاعهم لوسائل الإعلام، ومع مرور الوقت، أمسى هذا الناشط من ناقل لخبر إلى خبر بحد ذاته، خصوصاً في غياب أي مرجعية سياسية أو أمنية في معظم المناطق السورية، وتحديداً مناطق سيطرة الفصائل المسلحة على اختلافها.
تحريض علني
قبل أسابيع، اعتدت الشرطة المدنية في مدينة الباب، على متظاهرين كانوا يحتجّون على الأوضاع السيئة للكوادر الطبية السورية، وتركز اعتداء السلطات الأمنية على صحفيين وإعلاميين حاولوا تغطية الاحتجاجات، وصادروا هواتفهم. ومعلوم أن جهاز الشرطة في المدينة تابع لفصائل المعارضة السورية المدعومة من تركيا.
بعد المظاهرة الاحتجاجية والاعتداء الذي طال الإعلاميين، نشر بعض سكان تلك المناطق على وسائل التواصل الاجتماعي منشورات تحتفي بما حصل للإعلاميين من اعتداء وضرب، بل وتدعو إلى اعتقالهم وإيداعهم في السجون. هذا التحريض العلني بات مكرراً، كما يذكر النشطاء، وهو ما يترجم على أرض الواقع اعتداءات وتهديداً، مثل ما حصل في هذه المظاهرة مع الصحفي محمد السباعي الذي تعرض للضرب المبرح على رأسه وصدره.
“الحديث التحريضي” إزاء النشطاء والإعلاميين المنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي في أوساط المستخدمين السوريين يجد مكاناً له أيضاً في المجالس والتجمعات الشعبية، إضافة إلى النقاشات بين عناصر الفصائل العسكرية، وهو ما يجعل الإعلامي في وضع غير آمن في كثير من الأحيان، والأمر هنا سيّان، بين مناطق ريف حلب التي تقع تحت سيطرة المعارضة المدعومة من تركيا، ومناطق إدلب الواقعة تحت إدارة هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة) سابقاً، فالإعلاميون محاطون في هذه المناطق بالمخاطر من كل مكان.
وفي الحديث عن “هيئة تحرير الشام”، فقد أثارت قضية اعتداء عناصرها على ناشطين إعلاميين قرب معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا، غضباً واسعاً، إذ إن الإعلاميين والصحفيين كانوا يغطون مظاهرة نظمها ناشطون بقصد الهجرة إلى أوروبا، وعندما بدأت المظاهرة، هجم عناصر الهيئة واعتدوا على المتظاهرين، ثم بدأوا بالاعتداء على الإعلاميين وصادروا معداتهم وهواتفهم المحمولة، وقد أظهرت بعض المقاطع قيام العناصر بكيل الشتائم إلى هؤلاء الإعلاميين المعتدى عليهم.
في ذات السياق، سجلت رابطة الصحفيين السوريين قتل فصائل المعارضة السورية و”هيئة تحرير الشام” لحوالي 13 صحفيّاً، بالإضافة إلى تسجيلها عشرات الانتهاكات ضد صحفيين خلال السنوات الماضية، لكن جانباً إيجابيّاً أظهرته الرابطة عندما ذكرت أن مناطق المعارضة لم تشهد انتهاكات ضد الإعلاميين في عام 2021، فيما سجلت 6 اعتداءات فقط في مناطق سيطرة قوات “تحرير الشام” في العام نفسه.
ينظرون بريبة
الإعلامي غياث أبو أحمد لا يتفق كثيراً مع ما قاله أبو سالم، قائلاً إن “الناس والمجتمع كانوا ينظرون بريبة لمن يصور المظاهرات والفعاليات الثورية، وكان بعض الناس يظنون أن بعض هؤلاء المصورين يرسلون ما بجعبتهم يوميّاً إلى أفرع الأمن السورية، ما يعني أن هذا الإعلامي هو مخبر”، وهذا الأمر بحد ذاته يعتبر تحريضاً علنيّاً ضد الناشطين، وفقاً لما ذكر.
“يظن البعض أن كل صورة يلتقطها الإعلامي يقبض ثمنها مالاً من جهة معينة”، وفقاً لما يقوله الإعلامي أبو أحمد، وهذه النظرة المجتمعية أثرت بشكل كبير على النشطاء والإعلاميين، ويفيد أبو أحمد أنه “لا يستطيع السير في الطريق حاملاً كاميرته أو معدات تظهر أنه إعلامي، لأنه ربما يتعرض لسخرية أو مضايقات أو اعتداء”.
تثير نظرة المجتمع للإعلاميين في سوريا ردة فعل من عدّة شرائح، خاصة منتسبي الفصائل العسكرية وفقاً لما يقوله أبو أحمد، وذلك نتيجة للنظرة التي يأخذونها عن الإعلامي “بأنه متسلق على أكتافهم أو أنه مستفيد ماديّاً من معاناتهم، وهذا الأمر غير صحيح نهائيّاً”.
تهديد بالسلاح
الإعلامي أحمد الرفاعي يرى أن “الضغوط المجتمعية تساهم بزيادة العنف ضد الإعلاميين بشكل مباشر أو غير مباشر، حيث بات الناشط يشعر أن الناس في الشوارع يقولون له أنت غير مرغوب بك”، مضيفاً: “ينظرون إلي أنني أستغلهم من خلال تصويري لهم، وبتّ أشعر أني مندرج تحت إطار معين بشكل غير مباشر، لمجرد أنني أحمل الكاميرا في الشارع”.
يبين الرفاعي أن الضغوط المجتمعية تمنعه من إكمال العمل في هذا المجال، لافتاً إلى أن “المصور يجب أن يملك الحرية المطلقة مع كاميرته حتى يبدع، والشمال السوري ليس مكاناً للإبداع”.
تشويه المهنة
يرى الرفاعي أن “النظرة المجتمعية تساهم بزيادة العنف ضد النشطاء والإعلاميين، ويوجد الكثير من الأسباب لهذا الأمر. بداية، إن المجتمع عبارة عن شرائح كبيرة وكثيرة، وتتشكل الآراء والأفكار والانطباعات فيها لأسباب معينة، ربما تكون من الناشطين أنفسهم بشكل مباشر أو غير مقصود، أو قد يكون بسبب بعض الأشخاص الاستغلاليين أو ممن مارسوا المهنة بشكل سيئ، والناس تتذكر المواقف السيئة دون أن تنظر إلى المواقف الجيدة. والمجتمع يعمم للأسف، ففي حال كان هناك ناشط أو إعلامي سيئ، فمن وجهة نظرهم، يصبح الجميع سيئاً”.
ومن حيث انتهى الرفاعي، يكمل الناشط والإعلامي بدر طالب، حيث يشير إلى أن “المجتمع اليوم لديه نظرة سلبية تجاه الإعلاميين الذين يشوهون المهنة، فمثلاً، بعض الإعلاميين باتوا ينظرون بفوقية تجاه أقرانهم، لأن رواتبهم مرتفعة”، ويرى طالب أن الإعلاميين “ينقسمون إلى عدة أقسام، منهم المرتبطون بوكالات ومواقع خارجية، وإعلاميو الوسائل الداخلية، بالإضافة طبعاً إلى إعلاميي الفصائل العسكرية، وهم بنظر طالب المشكلة الأكبر على المهنة، إذ إنهم يساهمون في كثير من الأحيان بالاعتداءات والانتهاكات التي تقوم بها التشكيلات المسلحة التي يتبعون لها، وهو ما يجعل نظرة المجتمع تتغير تجاهنا”.
تسلط قصص الشباب المذكورة آنفاً الضوء على الاعتداءات التي تطال النشطاء العاملين في مجال الإعلام بتحريض من بعض فئات المجتمع، كما يقول النشطاء، حيث باتت النظرة المجتمعية تؤثر سلباً في الشمال السوري على العاملين في هذه المجالات، “كون هذه الشريحة تعمل في منظمات دولية وتستلم رواتب عالية نسبيّاً بالمقارنة مع دخل الفرد في الشمال السوري في ظل الحالة الاقتصادية السيئة التي تضرب المنطقة”، وهو ما يُشعر الناس أن هؤلاء ربما يكسبون المال من خلال “المتاجرة بهم”.
بالمحصلة، فإن النشطاء أوضحوا خلال حديثهم أنهم باتوا يواجهون أخطاراً متعددة في مناطقهم، لعل أشدها خطورة “النظرة المجتمعية التي ترى أن هذه الشريحة مستغلة ومتسلقة”، موضحين أنهم من المجتمع وينقلون أوجاعه، ولا يريدون أن تكون نظرة محيطهم إليهم بهذا الشكل. يقول الإعلامي أحمد أبو سالم: “نحن من المجتمع، ونحن بحاجة إليه ليكون حاضنتنا وحاميتنا”.