من الفتيات الصغيرات وحتى المسنّات، دفعت الحرب السورية في سنواتها الأخيرة آلاف النساء إلى التسول، حيث لا يكاد يخلو شارع منهن في شمال سوريا، وزادت هذه الظاهرة في الأشهر القليلة الماضية، خاصة مع وصول مستويات الفقر في المنطقة إلى مستويات قياسية تجاوزت 87.34%، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية التي وصلت إلى 150%، وفقًا لإحصائية صادرة عن فريق “منسقو استجابة سوريا”.
كما لعب النزوح المتكرر للسكان من مناطقهم والانتقال إلى مناطق أخرى عاملًا هامًّا، في ظل انعدام فرص التعليم والعمل، وتردي الأوضاع الاقتصادية؛ ما دفع آلاف النساء إلى التسول والتشرد.
عائشة الحسين، عمرها 14 عامًا، إحدى النساء اللواتي أجبرتهن الظروف القاسية على التسول في سوق مدينة معرة مصرين شمالي إدلب، تعيش مع أمها المصابة بمرض الربو وأخيها ذي الـ 6 سنوات في غرفة واحدة في بلدة الفوعة شمالي إدلب، بعد أن أُجبروا على التهجير من بلدة دير شرقي بريف إدلب الشرقي.
تقول عائشة لـ “نون بوست” إن والدها استشهد قبل 5 سنوات بغارة جوية روسية على البلدة، ومعظم أقاربهم هُجّروا إلى مناطق الشمال السوري ولم يبقَ لديهم معيل، ما دفعها إلى التسول للحصول على بعض النقود لسدّ حاجة أسرتها من غذاء ودواء لأمها.
تؤكد اليافعة عائشة أنها تتعرض لكثير من المضايقات أثناء التسول، ومن ضمنها التحرش الجنسي، إذ يحاول البعض لمسها أو يطلب من التحدث بطريقة غير أخلاقية مقابل بعض النقود.
وتقول وهي تدمع: “أعرف أن هذه المهنة معيبة، لكن مع الظروف الصعبة التي أعيشها مع أسرتي أصبحت مصدر رزقنا، فمن حقنا أن نأكل ونحصل على الدفء على أقل تقدير، ولا يوجد عمل يلبّي هذه الأشياء سوى التسول، ريثما يكبر أخي ويصبح قادرًا على العمل وكسب المال”.
يتزايد بشكل شهري عجز القدرة الشرائية للمدنيين في شمال سوريا.
خلال شهر يوليو/ تموز الماضي، ارتفع حد الفقر المعترف به في الشمال السوري إلى قيمة 4 آلاف و162 ليرة تركية، كما ارتفع حد الفقر المدقع إلى قيمة 3 آلاف و61 ليرة تركية، وفق بيان صادر عن فريق “منسقو استجابة سوريا”.
وأكد البيان أن مئات العائلات الجديدة انزلقت إلى ما دون حد الفقر الأساسي، وأن حد الفقر ارتفع إلى مستويات جديدة بنسبة 0.53%، ما يرفع نسبة العائلات الواقعة تحت حد الفقر إلى 86.93%، في حين بلغت نسبة العائلات التي وصلت لحدّ الجوع إلى 38.05%.
ويتزايد بشكل شهري عجز القدرة الشرائية للمدنيين في شمال سوريا، حيث ارتفعت الحدود الدنيا الأساسية لتصل إلى الأرقام الجديدة بناء على أسعار صرف الليرة التركية وارتفاع الأسعار، في ظل انخفاض سعر الليرة التركية إلى مستويات قياسية خلال الأشهر الماضية، حيث خسرت ما يصل إلى 22% من قيمتها منذ مطلع عام 2022.
تقول رهام العبد الله، مرشدة اجتماعية تعمل في مؤسسة “بدائل” في تصريح خاص لـ “نون بوست”، “جاءت أسباب ظاهرة التسول في شمال سوريا نتيجة عدد من العوامل، أهمها عدم توفر فرص العمل بشكل جيد للنساء خاصةً، وعدم وجود عدالة في توزيع المواد الغذائية، إضافة إلى عدم وجود رعاية كافية من السلطات والأشخاص المسؤولين عن مكافحة تلك الظاهرة، فظاهرة التسول لا يكون علاجها عن طريق إصدار القوانين المجحفة بحقّ الناس الذين يسألون بعضهم بغية لقمة عيش يسدون بها رمقهم”.
تؤكد العبد الله أنه لا وجود لدور المنظمات الدولية والإقليمية في الحد من ظاهرة التسول، فقد انحصر دور المنظمات بالإغاثة، فيما مساهمتهم في التعليم لا تكاد تذكر أيضًا، والأسوأ من ذلك أنه ما من دور لهم في مشاريع التنمية، و”نحن في أشد حاجة إلى تقديم الدعم لخلق فرص عمل ومشاريع صغيرة، ولسنا في حاجة إلى إعطاء سلة إغاثية كي لا يعتاد المواطن أن تصله احتياجاته بالمجان”.
وأشارت إلى أن الأموال التي أُنفقت في مجال الإغاثة والقطاع الطبي وما شابه، كان يمكن أن تساهم كثيرًا في تحسين الواقع الاقتصادي لكثير من السكان، ولكن للأسف ما من رؤية لذلك، ولا يوجد قرار دولي لتغيير توجهات المنظمات.
مكملة المرشدة الاجتماعية لـ “نون بوست”: “لذلك، لا أعتقد أنه سيكون هناك أي تغيير لدور المنظمات في المدى المنظور”، منوهةً إلى أن “ظاهرة التسول في حاجة إلى تكافل اجتماعي في الداخل والخارج، وهذه مسؤولية أممية، نناشد كل المنظمات الدولية إعداد برامج متكاملة للتخلص من التسول”.
معظم المتسولين من النساء والأطفال نتيجة الواقع والعوز واستشهاد الأب لتكون الأمّ هي المعيل.
يقول الحاج يوسف الأسود (أبو محمد)، ابن مدينة معرة مصرين شمالي إدلب: “كلمت ذهبت إلى السوق، أجد عشرات المتسولين من جميع الفئات العمرية وخاصة النساء، وقد تحول التسول لدى البعض منهن إلى مهنة، وأنا شخصيًّا أعرف أن البعض يقف في نقاط محددة في المدينة من الصباح وحتى المساء، وكأنه دوام رسمي، وهي مآساة مستمرة منذ سنوات”، لافتًا إلى أن هناك الكثير من المتسولين يحتاجون إلى المال ولا يمتهنون هذه الظاهرة.
السيدة أم عبد الله لجأت قبل أشهر إلى مخيم كفرناصح غربي حلب مع ابنها ووالدها الكفيف، الذي فقد عينَيه بقصف سابق نتيجة العمليات العسكرية للنظام على حي الشعار في مدينة حلب عام 2015. وذلك بعد أن فقدت زوجها منذ 3 سنوات إثر حادث سير، لتجد نفسها في الشارع برفقة ابنها الصغير تتسول دون أن تدرك حجم المخاطر المحيطة بها، حيث تقديم البسكويت للمارّة مقابل الحصول على بعض النقود لتعود في نهاية اليوم إلى خيمتهم المهترئة ومعها مبلغ يسير لمساعدتهم على متطلبات الحياة.
يقول الصحفي والمحلل الاقتصادي، أحمد مظهر سعدو لـ “نون بوست”: “إن ظاهرة المتسولين تزداد اضطرادًا في شمال سوريا، وهي ظاهرة اجتماعية بامتياز لكنها مرتبطة بالضرورة بعوامل ومسببات نابعة مع الواقع المعيشي المتدهور وقلة وجود فرص العمل المنتجة”.
وأضاف: “من يتابع الواقع المجتمعي في الشمال السوري، يلاحظ بما لا يقبل الشك انعدام فرص العمل وقلة الموارد المالية فيما لو وجدت، وانقطاع الدعم والمساعدات الغذائية والمشابهة لها، خاصة بعد وقف الدعم عن العديد من المنظمات السورية التي كانت تخدم السوريين المعوزين، كان آخرها توقف الدعم عن منظمة “شفق” التي كانت تخدم وتدعم ما ينوف عن نصف مليون سوري غذائيًّا وغير ذلك”.
وتابع قائلًا: “علاوة على حالة التضخم الكبرى التي فاقت نسبتها 85% مع الليرة التركية السائدة تداولًا وصرفًا في الشمال السوري، بالإضافة الى التهجير القسري المستمر نحو الشمال، وازدياد الاستهدافات بالصواريخ والقنابل العنقودية للسوريين المهجرين أصلًا، ما ينعكس عوزًا وقهرًا يؤديان إلى ازدياد حالات وجود الأيتام، نتيجة المقتلة الأسدية المتواصلة دون وجود بديل اقتصادي لهؤلاء السوريين، ومعظم المتسولين من النساء والأطفال نتيجة الواقع والعوز واستشهاد الأب لتكون الأمّ هي المعيل”.
ويؤكد سعدو على أن الحل لتنامي ظاهرة التسول وإنهائها، هو وجود إدارة ناجحة للمنظمات الداعمة، من خلال تقديم الدعم الذي يتناسب مع مثل هذه الحالات، ومحاولة تأمين فرص عمل أو مشاريع منتجة لهم.