ترجمة وتحرير: نون بوست
في سنة 2005؛ في قرية شمال نابلس تعرف باسم سبسطية، صُدمت عائلة جواد غزال بمقتل والدهم البالغ من العمر 84 سنة، وكان جواد ووالده يقطفون الزيتون عندما هاجمهم خنزير بري، مما أدى إلى مقتل والد جواد وإصابة جواد بجروح بالغة، ويمتلك أبو يوسف، مزارع فلسطيني آخر، يبلغ من العمر 58 سنة من قرية دير إستيا التابعة لمنطقة سلفيت أراضٍ زراعية ضمن حدود محمية وادي قانا الطبيعية، ومعظم أراضيها مملوكة لمزارعين فلسطينيين من القرية، وكان أبو يوسف يزرع أشجار البرتقال والليمون، وكان يزرعها في الماضي بخضار مختلفة، لكن لم يعد يفعل ذلك بسبب انتشار الخنازير البرية في المحمية التي تأكل المحاصيل وتدمر المحاصيل وتهاجم البشر.
في الماضي؛ لم تكن الخنازير البرية تشكل مشكلة في فلسطين، فقد ذكر المؤرخ الفلسطيني الشهير مصطفى مراد الدباغ في موسوعته الرئيسية، “فلسطين..بيتنا“، أنه في سنة 1943 كان هناك حوالي 12.145 خنزير بري في فلسطين توجد في جبل الطور بالقرب من الناصرة، وكذلك في وادي الأردن، الحولة ووادي عربة، وأضاف أن الفلسطينيين قاموا بتربية الخنازير في العصور الوسطى.
ويبدو أن الخنازير البرية، أصبحت سلاحًا إسرائيليًّا لدحر الفلسطينيين من أراضيهم؛ حيث تتسم الخنازير بالبدانة والعضلات البارزة، مغطاة بفراء رقيق باستثناء الشعر الخشن المنتصب على رقبتهم وظهرهم والذي يتصلب ويرتجف عندما تغضب، وهم ينقضون على فريستهم عندما يشعرون بالتهديد، ويضربون عدوهم بأنيابهم البارزة. وعلى عكس الخنازير الداجنة، تعتبر الخنازير البرية من الأنواع ذات النسل الوافر، ويمكن أن تحتوي على ما يصل إلى عشرة خنازير صغيرة في الوقت الذي تسمح الظروف بذلك. في هذا الصدد، يقول كليم تيسديل، الأستاذ في جامعة كوينزلاند، إن “الخنزير البري استعمر أو ينجح في استعمار قارات وجزر جديدة نُقل إليها الإنسان في الآونة الأخيرة نسبيًا. وتعد أستراليا هي إحدى الجزر والقارات التي استعمرتها الخنازير الوحشية في زمن قليل خلال 200 سنة الماضية”.
تتواجد الخنازير البرية عادة في أماكن بها أشجار الفاكهة وغابات ومناطق زراعية منتجة خاصة في مناطق شمال الضفة الغربية، مثل سلفيت التي تعد محاطة بـحوالي 24 مستوطنة و7 بؤر استيطانية جديدة، والمستوطنات كلها محاطة بالأسوار. لكن قضية الخنازير البرية لم تكن معضلة بالنسبة لهم.
في العقود القليلة الماضية، ازداد عدد الخنازير البرية بسرعة في فلسطين نتيجة لعدد من العوامل
وإضافة إلى وجود مكبات عشوائية في سلفيت، مما يشكل إحدى أخطر القضايا البيئية في المحافظة؛ حيث تنتشر هذه المكبات في جميع أنحاء المحافظة، ويتم فيها التخلص من النفايات المنزلية الصلبة، مما ينتج عنها انبعاث روائح كريهة وتكاثر الحشرات والذباب، وزيادة أعداد الخنازير البرية والكلاب الضالة التي تنجذب إليها.
آفة استعمارية
في العقود القليلة الماضية، ازداد عدد الخنازير البرية بسرعة في فلسطين نتيجة لعدد من العوامل، فقد أدى انخفاض عدد السكان في المناطق الريفية إلى شغور مساحات شاسعة من الأرض التي أصبحت ذات كثافة سكانية منخفضة، مما خلق موطنًا للحيوانات البرية مثل الخنازير.
وهناك سبب آخر مهم لانتشار الخنازير البرية في فلسطين؛ وهو الممارسات الاستعمارية الإسرائيلية، فقد أشارت التقارير الأخيرة إلى أن الخنازير المملوكة للمستوطنين يتم إطلاقها عمدًا في القرى الفلسطينية، على الرغم من تعثر عمليات التوثيق الرسمية، ويدعي آخرون أن الجيش الإسرائيلي يطلق الخنازير بغرض تدمير المحاصيل، التي تعد المصدر الرئيسي للدخل للعديد من المجتمعات الريفية.
وبناءً على المقابلات الميدانية التي أجريتها مع مواطنين ومزارعين فلسطينيين في سنة 2021 تأثروا بهجمات الخنازير البرية والأضرار التي لحقت بهم في قرية دير إستيا وعبود ومنطقة وادي قانا< فقد شكّل غزو الخنازير البرية مشكلة حديثة للفلسطينيين.
وفي هذا السياق، أوضح محمد حسن من سلفيت في حديثه إلى مركز أبحاث الأراضي؛ أنه رأى بنفسه مستعمرين إسرائيليين يفرغون خنازير برية في منطقة العشارة الواقعة بين مدينة سلفيت وقرية إسكاكا، وقال بعض من قابلتهم في قرية عبود بالقرب من رام الله إنهم شاهدوا شاحنات مستوطنين تفرغ خنازير برية في الجبال القريبة من القرية. علاوة على ذلك؛ وثقت سلطة الطبيعة والحدائق الإسرائيلية جمع الخنازير البرية من داخل الخط الأخضر ونشرها في جبال الضفة الغربية؛ حيث يمكنهم التجول بحرية بعيدًا عن التجمعات السكانية الإسرائيلية.
وكان لشبكة “إسرائيل” المعقدة من الممارسات الاستعمارية في الأرض الفلسطينية المحتلة ولا سيما مستوطناتها غير القانونية والجدار الفاصل والطرق الالتفافية، عواقب بيئية وخيمة من خلال تقسيم المواطن الطبيعية، وعرقلة الهجرة الموسمية للحيوانات البرية وحياتهم. ففي بعض المناطق؛ توجد كميات كبيرة من أنواع الحيوانات (مثل الخنازير البرية) عالقة على جانب واحد من الجدار الفاصل، مما يؤدي إلى زيادة أعدادها في تلك المنطقة. وأدى إنشاء المستوطنات الإسرائيلية إلى تدمير مئات الآلاف من الدونمات من الأراضي الزراعية، فضلاً عن تدمير الموائل الطبيعية للحيوانات الأخرى.
الصراع الفلسطيني مع الخنازير البرية
تنص لائحة هيئة الطبيعة والحدائق التابعة للاحتلال على أنه لا يجوز لأي شخص إيذاء أي حيوان أو نبات أو كائن غير حي داخل المناطق المحددة كمحميات طبيعية في الضفة الغربية، وهو ما أدى إلى ارتفاع أعداد الخنازير البرية في هذه المحميات، وغالبا ما تمتد إلى الأراضي الفلسطينية المجاورة، لذلك يتجنب الفلسطينيون هذه المحميات الطبيعية، وهو ما أخبرني به العديد من الأشخاص، الذين قابلتهم، مبينين أن الخنازير البرية أثرت على علاقتها بأراضيهم.
وقال أبو وضاح، 69 عامًا، الذي يعيش في قرية دير إستيا بالقرب من سلفيت ويمتلك عقارات في محمية وادي قانا الطبيعية، إنه قبل إعلان المنطقة محمية طبيعية في عام 1983، كان عدد الخنازير البرية في وادي قانا ضئيلًا، ولكن اليوم يراهم الناس يتعدون على الأحياء السكنية.
تشكل الخنازير البرية أيضًا تهديدًا للحيوانات الأخرى، وخاصة الماشية
وتحدث كفاح زيدان، وهو راعٍ من وادي قانا، أن الخنازير البرية دمرت الحُفر التي أنشأها المزارعون للري؛ حيث يستخدمون أنوفهم للحفر تحت الأشجار بحثًا عن طعامهم المفضل “الديدان”، معتبرًا هذا السلوك “القوي” مهدرًا للغاية، ويدمر أكثر مما يستهلك.
وقال كفاح: “إن أصحاب هذه الأراضي الزراعية يزرعونها بالقمح والشعير والبقوليات والخضروات المختلفة”، مضيفًا: “لكن نمو أعداد الخنازير تسبب في أضرار كبيرة للمزارع، وأصبح إنتاج هذه المحاصيل مشقة وخسارة مالية للمزارعين الفلسطينيين، الذين لم يعودوا يزرعون أراضيهم، بسبب الأضرار الناجمة عن الخنازير”.
ولم يكن تدمير الأراضي الزراعية الأسوأ على الإطلاق؛ حيث هاجمت الخنازير البرية أيضا الناس، ما أدى إلى مقتل البعض، وهو ما أكده ضياء قاضي، من سكان دير إستيا التي كانت عائلتها ضحية لمثل هذا الهجوم؛ حيث ذكر أن أنثى خنزير بري عضت ساق عمته، البالغة من العمر 50 عامًا، وأصابتها بجروح خطيرة.
وأوضح عماد الأطرش، مدير جمعية الحياة البرية في فلسطين، أن “إناث الخنازير البرية تكون أكثر عنفًا عندما تلد، وتصبح مدافعة عن صغارها؛ ولذلك تهاجم أي شخص يقترب منها”.
وقد كثرت الأمثلة على هذه الهجمات خلال المقابلات التي أجريتها مع سكان المناطق المتضررة، إذ روى إبراهيم سعيد، من قرية عبود ، حادثة هاجم فيها خنزير بري شابًا، ما أدى إلى تشويه وجهه، بينما تحدث عصام أبو يعقوب، رئيس المجلس القروي في بلدة كفل حارس، عن مواطن أصيب قبل عدة سنوات من قبل خنزير، حيث مزق اللحم من فخذه.
وتشكل الخنازير البرية أيضًا تهديدًا للحيوانات الأخرى، وخاصة الماشية؛ حيث وصف كفاح كيف أن الصوت العالي للخنزير تخيف خرافه، وكيف أدت الخنازير أيضا إلى انقراض حيوانات أخرى ، مثل الغزلان والثعالب.
منع السيطرة على أعداد الخنازير البرية
لا يُترك للفلسطينيين مساحة للتحرك من أجل التعامل مع أعداد الخنازير البرية، فهُم يستخدمون الأدوات الصغيرة الموجودة تحت تصرفهم، مثل المبارزة ووضع الفخاخ الضخمة في المناطق التي يرتادها الخنازير، بالإضافة إلى استخدام السموم مثل مبيد الحشرات الكربامات، ورغم ذلك يعاني المزارعون، الذين يمتلكون أراضي داخل المحميات الطبيعية، من قوانين سلطة الطبيعة والحدائق، التي وضعتها سلطات الاحتلال، حيث تمنعهم من حماية أنفسهم ومحاصيلهم من الخنازير البرية.
والجدير بالذكر أن صيد الخنازير البرية أمر غير وارد بالنسبة للفلسطينيين، حيث إن استخدام المدنيين الفلسطينيين للأسلحة النارية ممنوع منعًا باتًا من قبل الاحتلال، هذا إلى جانب عدم فعالية بناء السياج أو الجدار في منع الخنازير، حيث هدمتها أو قفزت فوقها.
أصبح الخنزير البري أداة للمحو الاستعماري، هذا إلى جانب القضاء على النباتات والحيوانات المحلية، ومهاجمة سبل العيش الفلسطينية
أما السموم المذكورة أعلاه، فعلى الرغم من استخدامها في بعض الأحيان، إلا أنه يصعب الحصول عليها من السوق، وإذا وجدها المزارعون، فإنهم يواجهون خطر السجن لخرقهم لوائح سلطة الطبيعة والمتنزهات.
وفي المقابل تجد مستوطنات دولة الاحتلال، حماية من خطر الخنازير، وذلك لأنها توجد في حصون على قمم الجبال، وهو الأمر الذي يدفعنا إلى استخلاص أمر واحد، وهو أنه بغض النظر عن الوضع الذي أصبح عليه الخنازير البرية في الضفة الغربية، الاحتلال يستخدمها بالتأكيد كشكل من أشكال الهيمنة الاستعمارية والهجوم، وهو ما يوضح ذلك التناقض الواقع بين القرى الفلسطينية الضعيفة والمستعمرات المحتلة المحاطة بالأسوار.
ويُعتبر استخدام الخنازير البرية جزءًا من سياسة صهيونية قديمة لاستعمار الطبيعة؛ حيث مارست هذه السياسة على مدار القرن العشرين، من خلال احتلال الصندوق القومي التابع للسلطات المحتلة أراضي ماديًا وقانونيًا تحت زريعة زراعة الأشجار فوق القرى الفلسطينية المدمرة في عام 1948، أو في تلال الضفة الغربية اليوم؛ حيث قام هذا الصندوق بزراعة أكثر من 240 مليون شجرة، معظمها من أشجار الصنوبر، في جميع أنحاء فلسطين، وهو ما أدى إلى اقتلاع النباتات الموجودة لإفساح المجال لأشجار جديدة تحت شعار كاذب هو “مجتمع صديق للبيئة”، إلا أن السبب الحقيقي وراء ذلك هو استخدام أشجار الصنوبر كأسلحة حرب، حيث أنها سوف تقتل جميع النباتات المجاورة في الأراضي الفلسطينية بسبب حموضتها، ما يجعل الأراضي غير صالحة للاستعمال للرعاة الفلسطينيين.
الأمر نفسه ينطبق على “سلاح” الخنازير البرية في ريف الضفة الغربية، حيث أصبح الخنزير البري أداة للمحو الاستعماري، هذا إلى جانب القضاء على النباتات والحيوانات المحلية، ومهاجمة سبل العيش الفلسطينية، والأهم من ذلك، أن هذه الممارسات الاستعمارية تهدف إلى تفكيك صلة الفلسطينيين بأرضهم وبيئتهم، حتى أصبح النضال الفلسطيني ضد الخنازير البرية جزءًا من النضال ضد الاستعمار الاستيطاني.
المصدر: موندويس