توصل باحثون في جامعة نيو ساوث ويلز الأسترالية خلال دراسة أجروها عن تقييم الطلب المستقبلي على البولي سيليكون، إلى ضرورة زيادة الإنتاج الفعلي من السيليكون من 10 – 12 ضعفًا من أجل التحول الطاقوي العالمي في 2050 وذلك بافتراض أن العالم سيحتاج إلى 36.4 تيراوات من القدرة المركبة للطاقة الشمسية الكهروضوئية بحلول هذا العام.
وفرض السيليكون نفسه كأحد أهم المعادن الإستراتيجية عالميًا منذ أواخر القرن العشرين وحتى أوائل الحادي والعشرين، حتى إن بعض العلماء وصفوا تلك الفترة بأنها “العصر السيليكوني”، وذلك بعد اكتشاف قيمة هذا العنصر المحوري في صناعة أشباه الموصلات، المكون الأساسي لمعظم الصناعات المستقبلية، هذا بجانب تشعب الاستخدامات الأخرى التي تشمل كل المجالات المطلوبة للعبور نحو مستقبل أكثر أمنًا وتطورًا.
الطلب المتزايد على المعدن من القوى الاقتصادية العملاقة التي تسير بسرعة الصاروخ نحو تحقيق طفرات تنموية هائلة في الصناعات التقنية عالية الدقة، زاد من قيمته وأهميته بالنسبة لتلك الكيانات الكبيرة، ما يمكن أن يكون ساحة تنافس جديدة وميدان معركة اقتصادية أخرى في ظل صراع النفوذ بين تلك الإمبراطوريات على أدوات المستقبل وعناصره الأساسية.. فماذا نعرف عن هذا الكنز الجديد؟
ما هو السيليكون؟
السيليكون عنصر كيميائي لا فلزي، ويرمز له في الجدول الدوري بالرمز (SI) ورقمه الذري 14، ووزنه الذري 28.08، ويعتبر ثاني أكثر العناصر وفرة في القشرة الأرضية بعد الأكسجين، كما أنه يكثر في الصخور النارية وفي الكوارتز والرمل وغيرهم.
كان أول من تنبأ به الكيميائي الفرنسي أنطوان-لوران دو لافوازييه عام 1787 غير أن فضل فصله بشكل مستقل ونقي يعود إلى العالم السويدي جونز جاكوب برزيليوس، وكان ذلك عام 1823، حين حصل عليه من خلال اتحاد سليكات البوتاسيوم الفلورية مع البوتاسيوم.
يعد السيليكون من أكثر العناصر المعدنية انتشارًا، كما أنه يؤدي دورًا مهمًا في عالم المركبات غير العضوية، والبعض يشبهه بالكربون في العالم العضوي، وتتعدد أشكال وجوده ما بين شكل زيوت أو شحوم أو لدائن، كما يستخدم في صنع المواد اللاصقة وزيوت التزليق والمطاط الصناعي.
يدخل هذا العنصر في صناعة الكثير من الصناعات، ففي السبائك على سبيل المثال يساهم بشكل كبير في سبائك الألومنيوم والسيليكون، وسبائك السيليكون الحديدي المصنوعة من الحديد والسيليكون، وفي صناعة لوحات الدينامو والمحولات وكتل المحركات ورؤوس الأسطوانات وأجزاء الآلات، كما يستخدم لإزالة الأكسدة من الفولاذ.
كذلك يستخدم في صناعة بوليمارات من خلال الامتزاج بين السيليكون والأكسجين المرتبطين مع مجموعات الميثيل، وأيضًا في صناعة زيوت السيليكون، كمادة تشحيم تضاف إلى بعض مستحضرات التجميل ومكيفات الشعر، بجانب استخدام البعض لها كمادة مانعة للتسريب في الحمامات وحول النوافذ والأنابيب والأسقف.
وله استخدامات هندسية أخرى خاصة في مجال البناء، فيعد عنصرًا مهمًا في مشاريع الهندسة المدنية والجرانيت، كما يستخدم كل الرمل الذي يحتوي على أكسيد السيليكون في صناعة الخرسانة والأسمنت، وهو المكون الرئيسي للزجاج، وبعض مركباته تدخل في صناعة الفخار والمينا والسيراميك عالي الحرارة.
خريطة الإنتاج
يبلغ إنتاج العالم من السيليكون سنويًا قرابة 7.2 مليون طن، تحتل الصين النصيب الأكبر منه بإنتاج وصل إلى 4.6 مليون طن، فهي الدولة الأكثر إنتاجًا واستهلاكًا في آن واحد في ظل تزايد الحاجة لهذا العنصر الإستراتيجي بالنسبة لصناعاتها المتشعبة التي تتعامل معها كأنها “أمن قومي” في ظل خطتها نحو التربع على عرش الاقتصاد العالمي.
وتأتي روسيا في المرتبة الثانية بإجمالي إنتاج يبلغ 747 ألف طن من السيليكون وهو الرقم الذي يعد متواضعًا نسبيًا إذا قورن بحجم الإنتاج من المعادن المهمة الأخرى، وتحل الولايات المتحدة الأمريكية في المركز الثالث بحجم إنتاج 396 ألف طن، تليها النرويج رابعة بإنتاج بلغ 380 ألف طن، وهي المعدلات التي لا تتناسب وحجم الثورة الصناعية لدى البلدين.
وفي المرتبة الخامسة تأتي فرنسا، ذات البنية الاقتصادية الهائلة، وأحد قلاع أوروبا الصناعية، بمعدل إنتاج سنوي يبلغ 121 ألف طن، وهو ما لا يتواءم بلا شك مع طموح الدولة الفرنسية، تليها ثامنة البرازيل، بإنتاج وصل إلى 100 ألف طن، وهو ما يعد معدلًا جيدًا بالنسبة للدولة الأمريكية الجنوبية قياسًا بمعدلات إنتاجها من الصناعات التي تعتمد على السيليكون.
ومن أوروبا إلى أمريكا الجنوبية وصولًا إلى القارة الإفريقية، حيث تحتل جنوب إفريقيا المرتبة السابعة في قائمة العشرة الكبار في إنتاج السيليكون بمعدل إنتاج سنوي يبلغ 84 ألف طن، تليها إسبانيا بـ81 ألف طن، ومن بعدها بوتان بـ78 ألف طن، فيما تتذيل أيسلندا القائمة بإنتاج سنوي قارب على 75 ألف طن من المعدن الإستراتيجي.
ثورة السيليكون.. الأهمية الإستراتيجية
الاستخدامات المحورية لهذا المعدن النفيس دفعت العلماء لنعته بـ”الثورة”، فهو الذي قلب المنظومة الحياتية والصناعية رأسًا على عقب، فالأمر لم يقتصر على الوظائف الإلكترونية للسيليكون فقط، بل تجاوز ذلك لكل مجالات الحياة، إذ أعاد هذا المعدن النظر مرة أخرى في أهمية الرمال للاقتصاد العالمي.
الباحثون يرون أن هناك ثورات تكنولوجية هائلة قامت على الرمال، وأن السيليكون سيكون أكثرها نضجًا وتأثيرًا، فهو المكون الرئيسي لهذه المادة، وبدأت إرهاصاته الأولى في صناعة الزجاج منذ أكثر من مليون ونصف عام عند اكتشاف الزجاج البركاني المكون من الحمم البركانية، وكان مادة جيدة لصناعة الأسلحة والآلات الحادة، إلا أن صناعة الزجاج بالشكل العلمي الممنهج لم تظهر إلا مع ظهور حضارة بلاد الرافدين.
ويشير أستاذ الكيمياء بجامعة كلية لندن، أندريه سيلا، إلى أن ثورة السيليكون المقبلة سيكون لها شكلًا مختلفًا عن تلك الخاصة بصناعة الزجاج، حيث استخدام شرائح السيليكون التي تستخدم في الأجهزة الإلكترونية، كونها مادة شبه موصلة يمكن التحكم في درجة توصيلها، والهدف من شرائح الكمبيوتر في الأساس هو توصيل الإلكترونات، حسبما نقلت عنه “بي بي سي“.
وعن فلسفة صناعة المواد شبه الموصلة يقول سيلا إنها “قائمة على إضافة شوائب للسيليكون، بشكل يكون عوائق للإلكترونات للتحكم بها، ويمكن إغلاق وتشغيل هذه العوائق بشكل يسمح بالتحكم في الإلكترونات وبالتالي، إجراء العمليات المتعلقة ببرمجة الحواسب”.
وتمثل أشباه الموصلات المعتمدة في الأساس على السيليكون اللبنة الأساسية في صناعة جميع أجهزة الكمبيوتر الحديثة، كما تستخدم في تصنيع المفاتيح الإلكترونية التي تسمى الترانزستور، وهي التي تقوم بتكبير وتضخيم الإشارات الإلكترونية والكهربائية وتجري العمليات الحسابية داخل الكمبيوتر، وبفضلها أصبح من الممكن تصغير حجم الترانزستور إلى حد يسمح بإدخاله في الشرائح الإلكترونية الدقيقة، ما مهد الطريق نحو الثورة التكنولوجية الهائلة التي يحياها العالم خلال السنوات الأخيرة والمتوقع أن تزداد توهجًا وتقدمًا خلال المرحلة المقبلة.
وتتدرج خطوات استخراج السيليكون من العثور عليه صلبًا في صورة حجارة ثم يوضع في كسارات تقوم بفصل حصى الكوارتز، ثم يتم وضعها في محطة معالجة لتحويلها إلى رمل ناعم، ثم يضاف إليها الماء والكيماويات لفصل السيليكون عن المعادن الأخرى، وبعد ذلك يُطحن السيليكون ويُعبأ ويشحن في صورة مسحوق إلى معمل التكرير، ويباع السيليكون الآن بنحو 10 آلاف دولار للطن، ويحقق أرباحًا بالمليارات.
وهكذا تحول السيليكون إلى ثورة هائلة امتد تأثيرها ليشمل سكان الأرض كافة، من سكان القرى الريفية النائية إلى أهالي المدن والعواصم التي لا تنام، الكل ينعم في خيرات تلك الثورة، فجميع الأجهزة الإلكترونية من هواتف ودراجات وكمبيوتر وأجهزة ألعاب، وصولًا إلى الطائرات والصواريخ والأسلحة الدفاعية المتطورة، كلها تعتمد على أشباه الموصلات المصنوعة من هذا العنصر الإستراتيجي.
ساحة صراع محتملة
الإنتاجية المحدودة للسيليكون مع تعدد استخداماته وزيادة أهميته الإستراتيجية في الصناعات المستقبلية دفعه لأن يكون ساحة تنافس وصراع جديد بين القوى الاقتصادية الكبرى التي تبحث عن تأمين مواطئ أقدامها في خريطة ما هو قادم وذلك عبر توفير الاحتياجات الضرورية لها للعبور بشكل آمن ودون أي صدمات.
فالصين رغم أنها أكبر منتج لهذا المعدن، فإنها في الوقت ذاته على رأس أكثر دول العالم استيرادًا له، فالدولة التي تتخذ من صناعة الإلكترونيات عصبًا لاقتصادها القومي ما عاد يكفيها إنتاجها السنوي من السيليكون، ومن ذلك بدأت تتجه نحو الخارج، وفي عام 2017 فقط استوردت بكين شرائح إلكترونية بقيمة 260 مليار دولار، وتأمل في تلبية 70% من احتياجاتها من هذا العنصر بحلول 2025.
ولعل هذا يفسر وبشكل كبير الهرولة الصينية نحو تعزيز الاستثمارات في كل من الدول الإفريقية ذات الثروات التعدينية الكبيرة بجانب بعض دول أمريكا الجنوبية كالبرازيل، في محاولة لتأمين احتياجاتها المستقبلية من المعادن الإستراتيجية التي تعتمد عليها بشكل أساسي في حربها الاقتصادية مع أمريكا في الوقت الراهن وصراع النفوذ مستقبلًا.
الأمر كذلك مع الولايات المتحدة التي غيرت بشكل واضح من سياستها الخارجية بعد الأزمة الاقتصادية التي تعرضت لها حين منعت عنها بكين إمداداتها من الشرائح الإلكترونية وأشباه الموصلات، وهو ما أصاب السوق الإلكتروني الأمريكي بحالة من الشلل، وعليه بدأت هي الأخرى تعزز من علاقاتها مع دول إفريقيا رغم الجفاء الذي خيم خلال ولاية دونالد ترامب، كذلك فتحت واشنطن خطوط اتصالات مكثفة مع دول الجوار الجنوبي التي تستحوذ على كميات كبيرة من الاحتياطي التعديني.
ومن المتوقع أن النزاع على هذا المعدن سيتصاعد عامًا بعد الآخر خاصة إذا استمرت حالة السيولة السياسية والاقتصادية التي يعاني منها العالم خلال السنوات الماضية، هذا النزاع الذي ربما يمتد لمناطق جغرافية غير متوقعة ويحولها إلى ساحات معارك مباشرة وغير مباشرة.