ترجمة وتحرير: نون بوست
كان هجوم روسيا الخاطف على العاصمة الأوكرانية، كييف، فاشلاً. فقد انتهت حرب المدفعية الزاحفة للسيطرة على منطقة دونباس الشرقية بشكل دموي. وفقدت روسيا جزءًا من الأراضي المسروقة جنوب مدينة خاركيف، وأعلنت هذا الأسبوع عن انسحابها من خيرسون، العاصمة الإقليمية الوحيدة التي استولت عليها منذ غزوها في شباط/ فبراير.
ومع كل انتكاسة، سعى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إلى ابتكار طرق جديدة لتعذيب أوكرانيا. وعمد مؤخرا إلى شن قصف مستمر يهدف إلى تدمير البنية التحتية لأوكرانيا. وأُعلم سكان العاصمة أنهم قد يضطرون إلى الإخلاء إذا انهارت شبكة الكهرباء، مما أدى إلى توقف خدمات المياه والصرف الصحي.
ومع ذلك، لم يضعف انقطاع التيار الكهربائي إرادة أوكرانيا للقتال. ولكنها كانت تذكيرا بأن بوتين يواصل البحث عن طرق لزيادة المخاطر بعد ثمانية أشهر من غزوه غير المبرر، ويشعر البعض بالقلق من أنه قد يفجر سدًا على نهر دنيبر، كما فعل ستالين في سنة 1941، لإبطاء تقدم خصومه.
يثير الهجوم الروسي المتطور باستمرار سؤالًا غريبًا: إلى متى ستستمر الولايات المتحدة وأوروبا في تزويد أوكرانيا بمساعدات عسكرية واقتصادية بقيمة مليارات الدولارات والتي تحتاجها كل شهر لصد روسيا؟
ورد القادة الغربيون قائلين “مهما طال الأمر”، ولكن العديد من مواطنيهم يرفضون فكرة تمويل صراع غير محدد مع روسيا، ونزل عشرات الآلاف من الأشخاص إلى شوارع روما في الخامس من تشرين الثاني/ نوفمبر، مطالبين بإنهاء الحرب. وهتفوا قائلين “لا نريد الحرب. لا أسلحة ولا عقوبات. أين الدبلوماسية؟”.
واشنطن تشعر بالقلق
وأثيرت تساؤلات أيضًا في الولايات المتحدة، حيث أطلق الديموقراطيون اليساريون المتشددون مؤخرًا دعوة لإجراء مفاوضات، ولكنهم سرعان ما تراجعوا عنها. في الواقع؛ تعتبر المكاسب التي حققها الجمهوريون الأمريكيون في الانتخابات النصفية في الثامن من تشرين الثاني/ نوفمبر، وإن كانت أصغر مما كان متوقعًا، تذكيرا بأن السياسة الأمريكية قد تتغير بشكل كبير بعد الانتخابات الرئاسية المقبلة، في غضون سنتين، وتتغير معها السياسة المتعلقة بأوكرانيا.
وقام جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي لبايدن، برحلة غير معلنة إلى كييف في الرابع من تشرين الثاني/ نوفمبر للتأكيد على دعم بلاده “الثابت” لأوكرانيا، ولكنه حث أوكرانيا على التفكير في شروط السلام المستقبلية، واتضح منذ ذلك الحين أنه على اتصال بنظرائه الروس لتحذيرهم من استخدام الأسلحة النووية. وفي التاسع من تشرين الثاني/ نوفمبر، قال بايدن إن روسيا وأوكرانيا “سوف تداويان جراحهما” بعد معركة خيرسون، وقد تكونا مستعدتين للتسوية بعد ذلك، وأصر على أنه لن يخبر أوكرانيا بما يجب أن تفعله.
في الخفاء، بدأ المسؤولون الغربيون والأوكرانيون في التفكير في الشكل الذي قد تبدو عليه النتيجة المستقرة. هل ستلقى أوكرانيا مصير فنلندا، وتجبر على التنازل عن أراضيها لصالح الغزاة والبقاء على الحياد لعقود؟ أم تصبح مثل ألمانيا الغربية، حيث يتم تقسيم أراضيها الوطنية بسبب الحرب ونصفها الديمقراطي مستوعب في الناتو؟.
مخزون الغرب من الأسلحة ليس محدودًا، فقد تآكلت قدرة الجيوش الأوروبية.،وحتى الولايات المتحدة القوية أضحت تخشى تآكل قدرتها على خوض حروب مستقبلية
تعتمد الشروط الدقيقة لأي تسوية تفاوضية على ما يحدث في ساحة المعركة، ومن المحتمل أن يحتدم القتال قبل أن يكون أي من الجانبين جاهزًا لإنهاء الحرب. ووفقًا لأحد التقديرات، خسرت كل من روسيا وأوكرانيا حوالي 100 ألف جندي بين قتلى وجرحى، لكن كلاهما لا يزال يأمل في المناورة للوصول إلى وضع أفضل.
في الحقيقة؛ يعتبر الانسحاب من خيرسون إهانة لبوتين، ولكنه سيمنح القوات الروسية خط دفاع أسهل على طول نهر دنيبر، ولا يظهر بوتين أي علامة على الاستسلام، فقد حشد مئات الآلاف من المجندين الجدد، وقد انضم البعض إلى المعركة دون تدريب يُذكر أو معدات للبقاء للمحاربة؛ ويمكن استخدام الباقي لدفع متجدد السنة المقبلة.
من جانبها؛ تأمل أوكرانيا في الحفاظ على حماسها، ومن المقرر أن يحصل جيشها على تعزيزات هذا الشتاء متمثل في آلاف المجندين الذين دربتهم بريطانيا وغيرها من الدول الغربية، ناهيك عن الأسلحة الغربية. في الرابع من تشرين الثاني/ نوفمبر، أعلن البنتاغون عن حزمة أسلحة أخرى بقيمة 400 مليون دولار، بما في ذلك 45 دبابة تي-72 بي مجددة و1100 طائرة مسيّرة، كما تم نشر أول صواريخ ناسامز الجديدة المضادة للطائرات هذا الأسبوع.
وتجدر الإشارة إلى أن مخزون الغرب من الأسلحة ليس محدودًا، فقد تآكلت قدرة الجيوش الأوروبية، وحتى الولايات المتحدة القوية أضحت تخشى تآكل قدرتها على خوض حروب مستقبلية. ومع ذلك؛ يبدو أن روسيا هي التي تواجه النقص الأكثر إلحاحًا، فلقد استهلكت معظم قنابلها الدقيقة وصواريخها، وتكافح لاستبدالها بسبب العقوبات، وهي تحصل على أسلحة جديدة من دول مثل إيران وربما كوريا الشمالية. (استجابت الصين حتى الآن للتحذيرات الأمريكية بالبقاء بعيدًا عن الحرب).
الحساب البارد
يأمل بوتين أن تؤدي حملته لتدمير شبكة الكهرباء في أوكرانيا إلى تجميد البلاد وإجبارها على الخضوع، أو على الأقل تحويلها إلى دولة ضعيفة وفاشلة. لكن باستقراء تاريخ الصراعات فإن القصف الجوي للمدنيين، في غياب حملة برية فعالة؛ نادرًا ما يضمن النصر. في الواقع؛ أعرب حوالي 90 بالمئة من الأوكرانيين عن رغبتهم في أن تستمر البلاد في القتال.
ووفقًا لمركز “ليفادا” لاستطلاعات الرأي، يريد 36 بالمئة فقط من الروسيين المضي قدمًا في الحرب، بينما يفضل 57 بالمئة بدء محادثات السلام. وفي الوقت نفسه، لا يزال عدد المؤيدين لبوتين يبلغ 79 بالمئة؛ حيث يبدو أن الروس يرغبون في إنهاء الحرب، ولكنهم لا يلومون بوتين على ذلك، بسبب تعطشهم للأخبار الموضوعية. ومع ذلك، كلما حاول بوتين جرهم إلى القتال، زاد خطر فقدانه الدعم الشعبي.
ويعتقد مؤيدو أوكرانيا الغربيون الأكثر حماسًا أنه بمرور الوقت ستصبح أوكرانيا أقوى وروسيا أضعف، ولكن بوتين يأمل أن يُنعش “الشتاء” ثرواته بطريقة ما، إن لم يكن عن طريق إضعاف إرادة أوكرانيا للقتال، من خلال تقويض استعداد الغرب لدعمها، في الوقت الذي تتضخم فيه فواتير التدفئة في أوروبا.
في الآونة الأخيرة، بدا مؤيدو أوكرانيا أكثر وضوحًا؛ فقد قدم قادة مجموعة الدول الصناعية السبع “دعمهم الكامل لاستقلال أوكرانيا ووحدة أراضيها وسيادتها على حدودها المعترف بها دوليًا”
ويدعي بوتين أنه مستعد للتفاوض (شريطة أن يعترف الغرب أولًا بسرقة الأراضي الأوكرانية)؛ لكن “حلفاء” أوكرانيا الغربيين منعوها من الحديث، وأجرى الجانبان محادثات مطولة بعد أن استولت روسيا على شبه جزيرة القرم وجزءًا من دونباس في سنة 2014. وتحدثا مرة أخرى في الربيع؛ حين حاصرت روسيا كييف.
ولكن أوكرانيا عارضت إجراء مزيد من المفاوضات بعد أن كشف انسحاب روسيا من كييف في نيسان/ أبريل عن ارتكاب فظائع واسعة النطاق ضد المدنيين. واقترح الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، هذا الأسبوع أنه يمكن إحياء المحادثات، ولكن فقط إذا كانت روسيا مستعدة لإعادة الأراضي الأوكرانية، ودفع تعويضات، وتحمل المسؤولية عن جرائم الحرب.
ولا يزال الغرب غامضًا بخصوص أهدافه الخاصة، فقد كان بايدن يتأمل أحيانًا في الإطاحة ببوتين من السلطة، وتحدث في مناسبات أخرى عن إيجاد “ممرات خارجية” للزعيم الروسي، وقد حدد أهدافه بشكل أوضح في مقال نُشر في صحيفة “نيويورك تايمز” في أيار/ مايو، وقال إن “أوكرانيا ديمقراطية ومستقلة وذات سيادة ومزدهرة مع وسائل للدفاع عن نفسها ضد العدوان المتزايد”، والجدير بالذكر أن ذلك ترك مسألة حدود أوكرانيا معلقة؛ حيث يقول القادة الغربيون إن القرار يعود لأوكرانيا، وهدفهم هو تعزيز موقعها في التفاوض.
لكن في الآونة الأخيرة، بدا مؤيدو أوكرانيا أكثر وضوحًا؛ ففي بيان صدر يوم 11 تشرين الأول/ أكتوبر، قدم قادة مجموعة الدول الصناعية السبع “دعمهم الكامل لاستقلال أوكرانيا ووحدة أراضيها وسيادتها على حدودها المعترف بها دوليًا”. وطالبوا روسيا “بالانسحاب الكامل وغير المشروط” من جميع الأراضي التي تم الاستيلاء عليها. ومن بين أمور أخرى؛ تعهدوا بإيجاد طرق لاستخدام الأصول الروسية المصادرة للمساعدة في تمويل إعادة إعمار أوكرانيا.
في حاجة إلى استراحة
يمثّل بيان مجموعة السبع في الأساس مطالبة باستسلام روسي كامل، وهي ليست نتيجة دبلوماسية معقولة؛ حيث تنطوي الدبلوماسية بحكم تعريفها على الأخذ والعطاء. وقال صمويل شاراب، من مؤسسة “راند” الفكرية الأمريكية، في إشارة إلى العقوبات التي فُرضت على ألمانيا في نهاية الحرب العالمية الأولى، إنه “لا ينبغي أن نتوقع إبرام معاهدة فرساي أخرى”، ويجادل بأنه يجب على الغرب وأوكرانيا وروسيا الدخول في محادثات، حتى لو كان ذلك فقط لوضع الأساس لمزيد من المفاوضات الجوهرية في المستقبل، مشيرًا إلى أن “القتال والحديث في نفس الوقت يجب أن يكون هو القاعدة”.
ويختلف الكثيرون حول الأمر، فقد ردَّ دان فريد من مؤسسة “أتلانتك كاونسل” الفكرية الأمريكية، مشيرًا إلى تقسيم ألمانيا النازية والاتحاد السوفيتي لبولندا في سنة 1939، قائلًا: “واصلوا الضغط. لا تتعجلوا في رسم خطوط على الخريطة. سيكون ذلك بمثابة انتحار بيروقراطي، وسيضعها شخص ما على “تويتر” إلى جانب اتفاقية مولوتوف-ريبنتروب”.
قلة من القادة الغربيين يشككون في طموح أوكرانيا لاستعادة الأراضي التي فقدتها منذ الغزو الروسي في شباط/ فبراير، ويدعم الكثيرون الجهود المبذولة لاستعادة الأجزاء التي تم الاستيلاء عليها من دونباس في سنة 2014، لكن تنقسم الآراء عندما يتعلق الأمر بإعادة السيطرة على شبه جزيرة القرم؛ حيث يشعر الكثيرون بالقلق من أن احتمالية خسارة شبه الجزيرة قد تدفع بوتين إلى تصعيد خطير.
بالنسبة للبعض في إدارة بايدن، فإن الحرب مسألة مبدأ: لا ينبغي أبدًا الاستيلاء على الأراضي بالقوة، ولذلك يجب عكس جميع المكاسب الروسية، في حين يعتقد آخرون أن وقت الدبلوماسية قد حان، وذلك لتشكيكهم في قدرة أوكرانيا على استعادة المزيد من أراضيها. في كلتا الحالتين؛ فإن أمريكا ليست في حاجة إلى الاستعجال في تحديد موقف دبلوماسي قد يتسبب في انقسامات بين الموالين لأوكرانيا.
وتمثل طبيعة الضمانات الأمنية الغربية المستقبلية لأوكرانيا قضية ملحة أخرى، والتي يجب أن تكون قوية بما يكفي نظرًا إلى الاعتقاد المرجح بأن روسيا ستظل تشكل تهديدًا لأوكرانيا طالما بقى بوتين في السلطة إن لم يكن لفترة أطول. وتفضل العديد من دول وسط وشرق أوروبا سرعة ضم أوكرانيا إلى الناتو، على أساس أن التزام الحلف بالدفاع المتبادل من شأنه أن يكون رادعًا لروسيا، التي امتنعت حتى الآن عن ضرب أراضي الناتو بشكل علني رغم كل تهديداتها النووية.
يتساءل البعض كمثال ما هي التعهدات الإصلاحية التي ستلتزم بها أوكرانيا بهدف تعزيز الديمقراطية أو من أجل محاربة الفساد
ومع ذلك؛ تقلق إدارة بايدن من الاضطرار إلى تمديد مظلتها النووية إلى دولة في حالة صراع كامن أو فعلي مع روسيا، فقد كان بايدن دائم الحرص على تقليل خطر نشوب صراع مباشر بين الناتو وروسيا خوفًا من أن يؤدي ذلك إلى “الحرب العالمية الثالثة”، ويشاركه في هذا القلق العديد من أعضاء الناتو في أوروبا الغربية.
لذلك تحول الاهتمام إلى اجراءات مؤقتة أو بديلة؛ ففي أيلول/ سبتمبر قدم أندرس فوغ راسموسن الأمين العام السابق لحلف الناتو، وأندري يرماك رئيس مكتب زيلينسكي اقتراح “ميثاق كييف الأمني” الذي سيقدم مساعدة أمنية أقل من اتفاقية الدفاع المشترك، وهو ما اعتبره البعض في أوكرانيا على أنه خيانة، ولكن وفقًا للرئيس زيلنسكي سيعمل الاتفاق على تعزيز القوات المسلحة الأوكرانية على غرار الدعم الغربي لـ “إسرائيل”، مما يحول حالة الدعم الخاص الحالي إلى التزام منهجي طويل الأمد.
بناء عليه؛ سوف يعد حلفاء أوكرانيا بتقديم استثمارات في الصناعات الدفاعية في البلاد وعمليات نقل أسلحة ضخمة وتقديم التدريب بالإضافة إلى التدريبات المشتركة والدعم الاستخباراتي “لعدة عقود”، ولن يتطلب الاتفاق موافقة روسيا ولا حياد أوكرانيا، كما لن يعوق الانضمام إلى الناتو، وفي بعض الظروف؛ قد يحدث تدخل عسكري لمساعدة أوكرانيا. وفي حال تم مهاجمتها؛ فإن الموقعين على الميثاق “سيستخدمون جميع عناصر القوة الوطنية والمشتركة ويتخذون التدابير المناسبة، والتي قد تشمل الوسائل الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية”، كما ستعمل مجموعة أكبر من الدول، بما في ذلك الحلفاء الآسيويين، على تعزيز هذه المساعدة العسكرية عن طريق فرض عقوبات على روسيا، بما في ذلك “إعادة فرض” أي عقوبات كان قد تم رفعها كجزء من صفقة من قبل.
ولكن حتى هذا الإجراء قد يكون شديد الطموح بالنسبة لإدارة بايدن؛ حيث يتساءل البعض كمثال ما هي التعهدات الإصلاحية التي ستلتزم بها أوكرانيا بهدف تعزيز الديمقراطية أو من أجل محاربة الفساد، كما تبقى المقارنة مع “إسرائيل” غير دقيقة، وذلك للعديد من الأسباب من بينها أن “إسرائيل” قوة نووية تحتل أراضٍ عربية. وبالنسبة لميكولا بيليسكوف من المعهد الوطني للدراسات الإستراتيجية، وهو مركز فكري في كييف، فإن النموذج الإسرائيلي “لا يتعلق فقط بحشد حلفائنا في الخارج، إنما يتعلق أيضًا بشرح ما يعنيه أن تعيش بجوار جار مجنون، والتهديدات الوجودية المرادفة لذلك”.
يجب أن تكون السماء هي الحدود
مهما كان النموذج الدبلوماسي المتبع؛ فقد أثبتت الحرب الروسية الخاطفة أن الغرب في حاجة إلى مساعدة أوكرانيا في إنشاء نظام دفاع جوي متكامل ومتعدد المراحل، يجمع بين الطائرات المقاتلة وأسلحة أرض جو والأسلحة المحمولة. وفي الوقت الحالي تصل الأسلحة بشكل مجزأ ولا يمكن في كثير من الأحيان تبادل البيانات، وهناك أيضًا مخاوف بشأن نفاد أنواع معينة من ذخائر الدفاع الجوي في أوكرانيا، وإذا حدث ذلك ستتمكن روسيا من نشر المزيد من التغطية الجوية لدعم القوات البرية.
يتسبب خليط الأسلحة في أوكرانيا بالعديد من المشاكل، على سبيل المثال، لديها ما لا يقل عن 14 نوعًا مختلفًا من قطع المدفعية، وتتعامل الكتيبة المتوسطة مع أربعة أنواع مختلفة في نفس الوقت؛ حيث يقول نيك رينولدز من مؤسسة فكرية بريطانية: “هذا كابوس لوجستي بالنسبة لهم، خاصة عندما يتعلق الأمر بالذخيرة”. بعض الأسلحة تتآكل بشكل سيء، والوضع الحالي للصناعات العسكرية في أوروبا التي استنزفتها عقود من الإنفاق المنخفض، لا يسمح بتوفير قطع الغيار بشكل جيد، ويضيف رينولدز: “نحن في خطر توقف هذا الدعم”.
تعتمد المدة التي تستغرقها الحرب بشكل أساسي على بوتين الذي يواجه المآزق سواء في أوكرانيا أو من الداخل، حيث يعرب التكنوقراطيين المعتدلين عن قلقهم بشأن الضغوط على الاقتصاد، أما “الوطنيون القوميون” مثل يفغيني بريغوجين والذي يقود جماعة فاغنر المرتزقة، فهم يدعون إلى تطهير الخونة المزعومين من بين صفوف الجنرالات.
ويُعتقد أن توقفًا مؤقتَا في لعبة الدبلوماسية قد يناسب بوتين، خاصة إذا سمح ذلك له بترسيخ بعض المكاسب الإقليمية، وقد يفسر ذلك تخفيف حدة خطابه النووي في الآونة الأخيرة وتصويره المفاجئ للأوكرانيين كضحايا للعدوان الغربي؛ حيث قال بوتين في الرابع من تشرين الثاني/ نوفمبر أن “الغرب قام برمي الأوكرانيين في الفرن” وفي المقابل فإن روسيا “تعاملت دائمًا مع الشعب الأوكراني باحترام”. وعلى الرغم من ذلك؛ لا يزال إعلامييه ومسؤوليه يتحدثون عن “طرد الشيطان” من أوكرانيا، و يتناسب هذا التحول مع وجه آخر من مظاهر بوتين باعتباره بطل الحركة العالمية المناهضة لهيمنة الغرب.
في ذلك يسعى بوتين إلى جذب المترددين، خاصة في جنوب الكرة الأرضية، كما يهدف إلى طمأنة الأصدقاء مثل الصين والهند، اللتين أوضحتا رفضهما لتهوره النووي. وقبل كل شيء؛ يهتم بوتين بالوصول إلى مستمع واحد من أغنياء العالم وهو دونالد ترامب والذي أعرب حلفاؤه في الكونجرس عن تشكيكهم في المساعدات الأمريكية إلى أوكرانيا، كما قد يعلن قريبًا عن ترشحه مجددًا للرئاسة.
لا يعتمد مصير أوكرانيا على شجاعة جنودها أو مرونة شعبها فحسب، بل يعتمد أيضًا على عوامل خارجية لا يمكنها السيطرة عليها مثل الدهاء الغامض لحاكم روسيا المستبد وثبات أصدقائها
على الرغم من كل النكسات التي تعرض لها، لم تنفد بعد الخيارات المتاحة أمام بوتين في سبيل إخضاع أوكرانيا ومحاولة تقسيم الغرب، ومن الناحية العسكرية يمكنه استخدام المزيد من قواته الجوية وحشد المزيد من القوات، ويمكنه في “المنطقة الرمادية” السرية تخريب خطوط أنابيب الغاز تحت البحر ووصلات الإنترنت إلى الغرب وشن هجمات إلكترونية أكبر بالإضافة إلى التدخل في أقمار الاتصالات وتكثيف حملات التضليل، ويمكنه أيضًا إغراق السفن التي تحمل الحبوب من أوكرانيا، وفي النهاية، يمكنه استخدام أسلحة نووية تكتيكية. ولكن سيكون لذلك ثمنًا باهظًا، حيث سيجعل روسيا منبوذة أكثر من ذي قبل كما سيضعفها في الداخل، وقد يؤدي ذلك إلى ردٍّ انتقاميِّ قاسٍ.
إن المخاطر بالنسبة لبوتين أكبر منها بالنسبة للغرب، لكنها أعلى بالنسبة للأوكرانيين الذين لا يثق الكثير منهم في فكرة المحادثات مع روسيا، ويرون أن النصر العسكري هو الخيار الوحيد حتى لو استغرق الأمر سنوات لتحقيقه. وتعتقد أوكرانيا أنه كلما تمكنت من استعادة المزيد من الأراضي، زادت فرصة التخلص من بوتين، ومع ذلك فإن هذا الاحتمال نفسه ما يثير القلق في الغرب، فقد تكون هزيمة الجيش الروسي هي الدافع إلي تحول بوتين إلى السلاح النووي. وهذه هي إحدى الأسباب وراء توقف فريق بايدن منذ فترة طويلة عن الحديث عن مساعدة أوكرانيا على تحقيق “الفوز”.
قد تحاول أمريكا في مرحلة ما الحد من طموحات أوكرانيا كما فعلت في كثير من الأحيان مع “إسرائيل”، وهي لا تحتاج إلى القيام بذلك صراحة، فيمكنها ببساطة حجب الأسلحة التي تحتاجها أوكرانيا، كما يحدث بالفعل، فقد رفضت تزويد الطائرات الغربية وصواريخ باتريوت للدفاع الجوي والصواريخ الهجومية بعيدة المدى خشية أن تدفع روسيا لاستخدام الأسلحة النووية.
كل هذا يفسر سبب قيام بعض الأوكرانيين بنشر رسالة حلوة ومرة صدرت إلى القوات الفنلندية في سنة 1940 في نهاية “حرب الشتاء” مع الاتحاد السوفيتي من قبل قائدهم كارل غوستاف مانرهايم؛ حيث كتب مانرهايم أن الفنلنديين الذين فاقهم السوفييت عددًا قد تسببوا في خسائر فادحة للقوات السوفيتية، لكنهم مع ذلك اضطروا إلى التنازل عن الأراضي بسبب توقف المساعدات من أصدقائهم، موقعًا بعبارة “نحن ندرك بفخر الواجب التاريخي الذي سنواصل الوفاء به المتمثل في الدفاع عن تلك الحضارة الغربية التي كانت تراثنا لقرون، لكننا نعلم أيضًا أننا وفينا أي دين قد نكون مدينين به للغرب”.
لا يعتمد مصير أوكرانيا على شجاعة جنودها أو مرونة شعبها فحسب، بل يعتمد أيضًا على عوامل خارجية لا يمكنها السيطرة عليها مثل الدهاء الغامض لحاكم روسيا المستبد وثبات أصدقائها، فيما تعود الفوائد على الجانب الغربي من الحرب واضحة بالفعل، فلقد ضعفت روسيا بشكل كبير، مما يسهل كثيرًا من الدفاع عن الجناح الأوروبي، لكن بالنسبة لأوكرانيا التي عانت من خسائر مروعة لا تبدو النتائج مؤكدة.
الموقع: الإيكونوميست