تدخل الحرب الروسية الأوكرانية نفقًا جديدًا من التصعيد بعد سقوط صاروخ داخل الحدود البولندية (عضو حلف شمال الأطلسي) مساء الثلاثاء 15 نوفمبر/تشرين الثاني الحاليّ، أسفرا عن سقوط قتيلين وبعض الأضرار المادية، وسط مخاوف من جرجرة حلف الناتو إلى مستنقع الحرب بشكل مباشر خاصة بعد توجيه أصابع الاتهام الأولية لموسكو التي تنفي بشكل قاطع علاقتها بما حدث.
وفي أول ردة فعل له، قال الرئيس البولندي أندجي دودا، إن بلاده ليس لديها الأدلة الملموسة الكافية عن هوية من أطلق الصاروخ الذي على الأرجح صناعة روسية حسبما نقلت “رويترز” عنه، فيما سارع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي باتهام روسيا بالوقوف وراء استهداف الأراضي البولندية، لافتًا أنها ليست المرة الأولى، فقد سبق وأن سقطت صواريخ روسية على مولدوفا، فيما أكد مستشاره تيموفي ميلوفانوف أن لديهم الأدلة على أن الصواريخ التي سقطت على بولندا روسية.
وعلى الجانب الأمريكي، استبعد الرئيس جو بايدن أن تكون روسيا وراء إطلاق الصاروخ، مضيفًا في رده على سؤال على هامش مشاركته في قمة العشرين في بالي: “هناك معلومات أولية تُعارض ذلك، لا أريد أن أقول ذلك حتى نحقق في الأمر بالكامل، لكن من غير المرجح أنه أُطلق من روسيا نظرًا لمساره، لكننا سنرى”.
وقد أعلنت بولندا حالة التأهب القصوى، فيما دعا بايدن إلى اجتماع “طارئ” لقادة مجموعة السبع وحلف شمال الأطلسي في إندونيسيا، صباح اليوم للتشاور، وسط حالة من الترقب لما ستسفر عنه نتائج التحقيقات بشأن الواقعة التي من المرجح أن يكون لها تداعياتها الكبيرة على مسار الحرب في أوكرانيا، فإثبات ضلوع روسيا في إطلاق الصاروخين يعني بوضوح جرجرة الناتو كطرف مشارك في الحرب وهو التصعيد الذي سيقلب الموازين كافة.
3 سيناريوهات
وفق نظرية الاحتمالات فهناك 3 سيناريوهات رئيسية لتفسير سقوط الصاروخ داخل الحدود البولندية، كلها تمتلك من المؤشرات والدوافع ما يدفعها للنقاش، وإن كانت بنسب متفاوتة، الأول: أن تكون روسيا هي من تقف وراء ذلك، فالخسائر التي تكبدها الروس في أوكرانيا والانسحاب الأخير من مدينة خيرسون الإستراتيجية وضع الرئيس فلاديمير بوتين ونظامه في مأزق كبير، أمام الشارع الروسي الداخلي والعالمي على حد سواء.
وفي ظل المشهد الحاليّ وأمام الهزائم والخسائر التي يتكبدها جيش بوتين في الميدان الأوكراني، فإن الانتقام والبحث عن انتصار زائف قد يكون أمرًا متوقعًا، وعليه جاء استهداف بولندا كردة فعل انتقامية على تطورات المشهد الميداني، في محاولة للفت الأنظار إلى قوة الروس من جانب، وغض الطرف عن الانسحاب من خيرسون من جانب آخر، فضلًا عن محاولة بوتين استطلاع رد فعل الغرب حال القيام بهجمات من هذا القبيل.
غير أن هذا السيناريو ربما لا يروق للبعض، وعلى رأسهم الرئيس الأمريكي الذي استبعده بشكل كبير، فموسكو مهما واجهت من خسائر لا يمكنها بأي حال من الأحوال استعداء حلف الناتو باستهداف أحد أعضائه، خاصة أن الروس يعلمون جيدًا أن تصعيد كهذا من شأنه أن يقلب الطاولة فوق رؤوسهم ويدفع بجيوش 30 دولة لمحاربة روسيا وفق المادة الخامسة من ميثاق الحلف.
أما السيناريو الثاني فيتعلق بسقوط الصاروخين عن طريق الخطأ، سواء عبر روسيا أم أوكرانيا، ففي ظل تصعيد المواجهات مؤخرًا في المنطقة الجنوبية والشرقية، فإنه من المحتمل ورود بعض الأخطاء كأن يحيد صاروخ عن أهدافه في ظل ما تمطره سماء الحدود الأوكرانية البولندية من مئات الصواريخ المتبادلة بين القوات الروسية والأوكرانية.
فيما يذهب السيناريو الثالث إلى وقوف القوات الأوكرانية وراء تلك الواقعة، في محاولة لاستفزاز دول الناتو وحثهم على التصعيد ضد موسكو، وهو المطلب الأبرز الذي يعزف عليه الرئيس الأوكراني طيلة الأشهر الثماني الماضية، فلطالما حذر من تجاوز المواجهة مع الروس حاجز أوكرانيا فقط وأن أوروبا كلها ستكون مستهدفة إن لم يتم التحرك العاجل لوقف التغول الروسي وتقليم أظافر بوتين.
التريث في الاتهام.. انتظار نتائج التحقيقات
حرص قادة الغرب على التريث قبل توجيه أصابع الاتهام، حتى لغة الخطاب المستخدمة والتي وصفت الواقعة بـ “الحادثة” وليس “الهجوم”، نظرًا لما قد يترتب على الحكم النهائي من قرارات وإجراءات سيكون لها تبعاتها الخطيرة على المنطقة والعالم بأسره، فقد أوضح بايدن أن المعلومات الأولية تشير إلى أن الانفجارات التي شهدتها منطقة برشفوداو شرقي بولندا، على بُعد نحو 12 كيلومترًا من الحدود مع أوكرانيا، لم تكن ناجمة عن صاروخ أطلق من روسيا، مستدركًا بقوله “وهذا لا يعني أننا استكملنا التحقيق، يجب أن ننتظر انتهاء التدقيق في الأمر كاملًا”، أما وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) فقد دعت إلى توخي الحذر، مشيرة إلى أنها تبحث الموقف.
الرأي ذاته ذهب إليه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي قال إن بلاده تؤكد ضرورة التزام أقصى درجات الحذر بشأن مصدر الصاروخ الذي سقط في بولندا، داعيًا إلى عقد اجتماعات طارئة لمناقشة هذا التطور الخطير، وهو ما حدث بالفعل، إذ من المتوقع عقد عدة اجتماعات اليوم بين قادة أوروبا والولايات المتحدة في إندونيسيا.
الرئاسة البولندية ذكرت أن بايدن أجرى محادثات مع نظيره البولندي والأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ، لمراجعة مقررات المادة الرابعة من ميثاق حلف الناتو، تلك المادة التي تنص على أن “لأي دولة عضو بالناتو تشعر بالتهديد من دولة أخرى أو منظمة إرهابية الحق في تقديم طلب لبدء الدول الأعضاء مشاورات رسمية للبت فيما إذا كان التهديد موجودًا، وتحديد كيفية مواجهته، مع التوصل إلى قرارات بالإجماع”، وذلك كخطوة تمهيدية قبيل اللجوء إلى المادة الخامسة التي تؤكد ضرورة الدفاع عسكريًا عن أي عضو في التحالف يتعرض لأي تهديد حقيقي.
من المبكر تحديد هوية المتورط في تلك الواقعة، خاصة في ظل النفي الروسي لها شكلًا ومضمونًا، هذا بجانب ما نشرته وكالة “أسوشيتد برس” الأمريكية بشأن ما تشير إليه النتائج الأولية بأن الصاروخ الذي أصاب بولندا أطلقته القوات الأوكرانية لاعتراض صاروخ روسي، وهو ما يتطلب الانتظار حتى الانتهاء من التحقيقات بشكل كامل، لما يستتبعها من ردود فعل قد تغير قواعد اللعبة برمتها.
وكانت وزارة الدفاع الروسية قد نفت الاتهامات باستهداف بولندا، واصفة إياها بأنها “استفزاز متعمّد” لنشر أنباء كاذبة عن روسيا، حسب ما ذكرت وكالة أنباء “تاس” الرسمية، فيما قالت البعثة الروسية لدى الأمم المتحدة إن الحقائق تدل على أنه لا علاقة لروسيا بسقوط الصواريخ على أراضي بولندا، أما المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف فأكد أنه ليس لديه معلومات عن وقوع أي انفجار قرب الحدود البولندية.
تغيرات حتمية في المشهد.. ما التداعيات؟
وفق ما هو معلن حتى كتابة تلك السطور فإن نبرة اتهام روسيا خفتت إلى حد ما، وأن الإصرار الأوكراني على ضلوع بوتين في هذا الانفجار قوبل بدعوة لتوخي الحذر والتريث من قوى الناتو، بما فيها بولندا نفسها التي أشارت إلى أنه رغم شكوكها في أن يكون الصاروخ روسيًا، ليس لديها أدلة ملموسة على ذلك.
وحتى تخرج التحقيقات بصورة نهائية، فإن المشهد الآن ربما يكون في صالح القوى الغربية، وبالتبعية في صالح الموقف الأوكراني، فروسيا وإن لم تُتهم بشكل مباشر ورسمي في انفجارات بولندا لكنها ستفكر ألف مرة قبل الإقدام على خطوة كتلك في المستقبل، رغم أنها لوحت قبل ذلك بأشياء من هذا القبيل، لكن ردة الفعل الأوروبية والغربية والتحذيرات المتتالية والتلويح بالمادة الرابعة والخامسة من ميثاق الناتو كلها محفزات ودلالات ستدفع موسكو للتفكير مليًا فيما هددت به قبل ذلك.
وفي ذات الإطار فإن ما حدث ربما يكون ذريعة قوية للناتو لتعزيز قدرات بولندا التسليحية ودعمها بالدفاعات الجوية المتطورة والأسلحة المتقدمة التي طالما نادت بها في ظل التحفظ الروسي الذي يعتبر ذلك تهديدًا لأمنه القومي، وهو ما يمكن أن يكون خنجرًا جديدًا في خاصرة الدولة الروسية، الأمر كذلك مع أوكرانيا، إذ ربما تتصاعد الأصوات التي تطالب بتزويدها بأنظمة دفاع صاروخية حديثة لمواجهة الهجمات الروسية.
وأيًا كان مصدر الصاروخ فإن موسكو ستتحمل جزءًا من المسؤولية، فالهجمات الصاروخية الأخيرة (أكثر من 90 صاروخًا في ساعات قليلة) التي شنتها القوات الروسية ضد كييف كانت باعثًا قويًا للقوات الأوكرانية للرد على أكثر من مسار، في العاصمة وفي الميدان الجنوبي والشرقي، وعليه فمن المحتمل أن يخطئ صاروخ أو أكثر مساره ويسقط في حدود أبعد مما هي محددة له.
على كل حال، فإن روسيا والناتو ليس من مصلحتهما معًا وصول التحقيقات إلى ضلوع موسكو في تلك الهجمات، فلذلك تبعات لا يتحملها الطرفان وستقود العالم إلى حرب عالمية ثالثة بطبيعة الحال، غير أن كل طرف يحاول توظيف المشهد لصالحه، فالروس يسعون للتأكيد على أن هناك حربًا دعائيةً تضليليةً ضدهم وأن كييف لا تريد السلام رغم دعواتها المتكررة للتفاوض، وفي المقابل يرغب المعسكر الغربي في تقليم أظافر بوتين وإظهار “العين الحمراء” له حال فكر في مهاجمة أي من دول الناتو، بما يجهض تهديداته السابقة ويحولها إلى خطاب شعبوي بعيدًا عن الواقع بشكل كبير، بما ينتقص من شعبيته ونفوذه الداخلي، ما ينجم عنه ضغوط داخلية ربما يكون لها صداها في مآلات الحرب.
وحتى الانتهاء من التحقيقات فمن المتوقع أن يواصل الغرب جلساته ومباحثاته الممتدة، وتكثيف استخدام لغة التهديد والتبريد في آن واحد، وهو ما سيمثل ضغطًا على موسكو التي باتت في موقف حرج، خاصة في ظل الخسائر التي تتكبدها يومًا تلو الآخر في الداخل الأوكراني، لكن يبقى السؤال: هل بوتين بهذا الغباء الذي يدفعه للانتقام عبر استفزاز جيوش 30 دولة وإقحامهم في الحرب التي يفشل في حسمها أمام جيش واحد فقط حتى إن كان مدعومًا من قوى أخرى؟
وفي النهاية، ورغم مآلات المشهد الذي يبدو أنه يميل ناحية الغرب والجانب الأوكراني في توظيف تلك الواقعة، فإن ذلك لا يعني أن الأمر قد انتهى، فالتجربة تشير إلى أن السيناريوهات كلها متاحة وعلى طاولة الاحتمالات وبنسب متساوية، فبوتين لا يدافع عن أمن بلاده القومي فقط كما يزعم، بل يدافع عن سمعته وكرامته وتاريخه السياسي الطويل، الذي لأجله لا يمانع مطلقًا في الوصول إلى أقصى درجات التصعيد مع الغرب، غير أن المؤكد أن ما بعد 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2022 لن يكون كما قبله في تطورات ميدان المواجهة بين موسكو وكييف من جانب، وانخراط الناتو والاتحاد الأوروبي في تلك المواجهة، سواء كداعم خارجي أم طرف مباشر، من جانب آخر.