“بإنقاذ الأطفال بحس حالي عم أنقذ أطفالي، وقت بشيل الركام عن وجه امرأة كبيرة بتخيل أمي مكانها، ما بقدر يجيني نداء التوجه لمكان فيه قصف وما أركض لهنيك، وبدعي دائمًا إنه رب العالمين يحفظ لي عائلتي وأولادي بحسنة هذا العمل”، بهذه الكلمات رد صالح أبو الفرج على السؤال وُجه إليه عن عمله ضمن فريق الدفاع المدني السوري “الخوذ البيضاء” الذي ينشط في مناطق الشمال السوري المحرر من سيطرة نظام الأسد.
يرى أبو الفرج أن فريق الدفاع المدني “من أجمل ما أنجبت الثورة وأكبر سلاح أخلاقي في يد الشعب السوري ضد الاعتداءات المتكررة وحملات التضليل التي تواجهها المؤسسات الإنسانية”، مشيرًا إلى أن “الأعوام الماضية شهدت تراجعًا كبيرًا في مسيرة الثورة وتمركز الناس في مناطق قليلة، إلا أننا ما زال لدينا أمل في مؤسسات كثيرة مثل الدفاع المدني وغيرها التي تواجه بعملها الفساد المستشري في الفصائل العسكرية ومؤسسات المعارضة”.
ومنذ انطلاق الثورة السورية، ظهرت العديد من المؤسسات التي أصبحت لاحقًا من أهم ركائز العمل المجتمعي والمدني في شمال سوريا خصوصًا وللمهجرين السوريين بشكل عام. وفي هذا التقرير، نقدم بعض الأمثلة للإشارة إلى الواقع الذي يمكن البناء عليه بعيدًا عن مؤسسات المعارضة الرسمية التي أصبحت عبئًا ثقيلًا على القضية السورية.
الخوذ البيضاء
بدأت الثورة السورية سلمية، لكن مع بطش نظام الأسد كان لا بد من قوة تحمي الناس، فتشكل الجيش الحر وانقلبت الموازين، فزادت وتيرة القصف العشوائي من قوات النظام على المناطق كافة، فقد استخدم النظام الطيران لضرب المناطق الخارجة عن سيطرته، كما أن مؤسساته المدنية لم تؤد واجباتها تجاه الناس كما تلزمها القوانين والأخلاق، بل كانت ضدهم مثل “الدفاع المدني التابع للنظام”.
ردًا على ذلك تشكّلت مجموعات من المتطوعين من أجل إنقاذ العالقين تحت ركام المباني والردم، وكانوا يعتمدون في البداية على قوتهم البدنية وعفويتهم وإرادتهم، دون وجود أي آليات أو أدوات أو تقنيات تساعدهم في عملية الإنقاذ.
في شهر مارس/آذار 2013 دربت بعض المنظمات المختصة بالاستجابة للكوارث في تركيا هؤلاء المتطوعين وشملت أعمال البحث والإنقاذ المدني، بعد هذه التدريبات نظمت المجموعات نفسها وأنشأوا مراكز وفرق متخصصة بالدفاع المدني، ومع حلول عام 2014 أصبح هناك فرق دفاع مدني في 7 محافظات سورية.
وفي شهر أكتوبر/تشرين الأول من ذات السنة، عملت الفرق على تأسيس منظمة وطنية موحدة وهي الدفاع المدني السوري التي بات يرمز لها وتسمى “الخوذ البيضاء”، وأعلنت المنظمة التزامها بالمبادئ والقيم الإنسانية العالمية على النحو المنصوص عليه في اتفاقيات جنيف الدولية.
توسع عمل الخوذ البيضاء مع توسع احتياجات المناطق التي يعملون فيها، وتصل اليوم خدماتهم لملايين الأشخاص، وإضافة إلى عمليات الإنقاذ ينخرط الدفاع المدني بالخدمات المدنية مثل إصلاح الشبكات الكهربائية وصيانة الصرف الصحي وتنظيف الطرق من الأنقاض وإزالة الذخائر غير المتفجرة، بالإضافة إلى تنظيم حملات توعية مجتمعية عن كيفية التعامل مع الهجمات.
وصل عدد المتطوعين في المنظمة السورية عام 2021، إلى نحو 3 آلاف متطوع، من بينهم أكثر من 260 متطوعة، يتوزعون في أكثر من 750 قرية ومدينة وبلدة في شمال سوريا، بالإضافة إلى وجودهم وخدمتهم لأكثر من 1400 مخيم للنازحين.
في المقابل، كانت الخوذ البيضاء من أكثر المنظمات التي استهدفتها روسيا، ليس على صعيد الأهداف العسكرية والاغتيالات الحربية فحسب، إنما كانت هناك خطة متعمدة لتشويه سمعة المنظمة التي وصلت نحو العالمية، خاصة بعد أن حاز فيلم يروي قصتها جائزة الأوسكار.
وتشكل بيانات وشهادات الخوذ البيضاء مصدرًا مهمًا للمعلومات في التحقيقات بشأن جرائم الحرب التي تجمعها لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيميائية ومنظمات حقوق الإنسان، ومن أجل ذلك تعمل روسيا والنظام على تشويه سمعتها على الإنترنت ووسائل الإعلام عدا عن محاولاتها الحثيثة للإضرار بها في المؤسسات الدولية.
ومنذ عام 2013، قتل أكثر من 294 متطوعًا ومتطوعةً في أثناء أداء عملهم، أكثر من نصف هذا العدد راح ضحية لما يسمى بالضربات الجوية المزدوجة، حيث تعود طائرات النظام السوري وروسيا إلى موقع القصف لاستهداف عمال الإنقاذ في أثناء استجابتهم للضربة الأساسية، كما تم استهداف مراكز ومتطوعي الخوذ البيضاء بالصواريخ والبراميل والقصف المدفعي 238 مرةً.
تمثل الخوذ البيضاء بصيص أمل بالنسبة للسوريين، فقد استطاعت خدمتهم في الوقت الذي تخلت فيه الدول عن إنقاذهم من قصف النظام، كما أن المنظمة لم تحد في يوم من الأيام عن درب الثورة السورية وهو ما يؤكده الكثير من منتسبيها، فيرون أن عملهم هو ضمن الثورة وليس على هامشها.
في هذا السياق يرى رئيس المنظمة رائد صالح خلال حديثه لـ”نون بوست” أن “الحل في سوريا ليس إنسانيًا، إنما هو حل سياسي، ويجب حل الأمور في سوريا من خلال إنهاء السبب الأساسي لمشاكلهم”، في إشارة إلى النظام السوري، ويبدأ هذا الحل وفقًا للصالح “بوقف هجمات النظام وروسيا على المدنيين في شمال غربي سوريا، وعودة المهجّرين قسرًا إلى منازلهم، وبمحاكمة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، ومنها جريمة التجويع كسلاحٍ، أمام محكمة الجنايات الدولية”.
منظمات محلية
يضاف إلى تجربة الخوذ البيضاء، العديد من المنظمات الإنسانية التي تسعى جاهدة إلى إيصال الخدمات للمعوزين، وتختص هذه المنظمات بمشاريع الإغاثة والتنمية المجتمعية في مناطق الشمال السوري، ومن بين هذه المنظمات تبرز منظمتا بنفسج وشفق اللتان تعملان في المجال الإغاثي والإنساني في مناطق سيطرة المعارضة السورية.
عن منظمة “بنفسج”: مع بداية الثورة السورية واشتداد قصف الأسد على المناطق تردى الوضع الإنساني مما شجع بعض الشباب والنشطاء للعمل العفوي على مساعدة الناس في نقل احتياجاتهم وتأمين الحاجات الضرورية، ومن هنا انطلقت بنفسج التي اعتمدت فيما بعد على العمل التطوعي كونها انطلقت منه.
ضعف الاستجابة الدولية جعل من هؤلاء الشباب ينظمون أنفسهم لتأسيس هذه المؤسسة أواخر العام 2013 بالشراكة مع المنظمات الدولية، فبدأ أول مشروع تعليمي في منطقة المخيمات شمال سوريا لدعم مدرستين تم خلالها دعم نحو 462 طالبًا.
“فريق من الشباب الخيرين ليسعد المظلومين والمحتاجين حول العالم يدفعنا حب وإيمان” هذه العبارة التي تنطلق منها منظمة بنفسج، صحيح أن انطلاقة المنظمة وعملها كان محليًا بحتًا، إلا أن تزايد المهجرين والنازحين إلى مناطق الشمال السوري منذ عام 2016 جعل هذه المؤسسة تعمل على زيادة مشاريعها والتحرك نحو إغاثة أكبر عدد من الناس في هذه المنطقة، وتميزت ببرامج الاستجابة الطارئة للمهجرين قسريًا عبر الاتفاقيات بالإضافة إلى النازحين نتيجة لعمليات النظام العسكرية وهو ما أكسبها حضورًا شعبيًا كبيرًا.
يساهم متطوعو بنفسج وموظفوها برسم الابتسامة على وجوه الأطفال عبر إقامة العديد من الفعاليات في مخيمات النزوح كحفلات الأعياد والمناسبات، فمثلًا تشرف المنظمة على إقامة “كأس العالم للمخيمات” بالتزامن مع فعاليات مونديال قطر 2022، ويشارك في هذه البطولة، 32 فريقًا جميعهم من الأطفال النازحين، وذلك في محاولة “لكسر العزلة التي يعيشونها في المخيمات”، والأمر هنا ليس فقط إجراءً ترفيهيًا، إنما عملت المنظمة على تدريب هذه الفرق خلال الستة أشهر الماضية على التكتيكات واللعب النظري والتدريب على الملعب المعشّب، وفقًا لما قاله أحد مسؤولي المنظمة في مداخلة صحفية.
تتركز مشاريع المنظمة السورية حاليًا على برامج المياه والإصلاح وبرامج الصحة إضافة إلى برامج الأمن الغذائي وسبل العيش، وبرنامج التمكين الاجتماعي لتنمية قدرات الشباب والمرأة، ومنذ بدأت المنظمة ضم فريق متطوعيها آلاف الأشخاص الذين ساهموا برفعة المنظمة ونهضتها، وكانت أعداد الناس المستفيدين من مشاريع المنظمة مئات الآلاف من المقيمين في مناطق إدلب وريفها.
بالانتقال إلى منظمة شفق، فقد نشأت المنظمة بداية الثورة السورية، نتيجة لاندماج عدد من المنظمات التي تساهم في الاستجابة للأزمات الطارئة، ووضعت “شفق” حاجات الناس الرئيسية في سلم أولوياتها، كما ترى هذه المنظمة أن الحاجات الأساسية التي تعمل من أجلها هي الحياة الكريمة والعدالة والمساواة والعمل على الحفاظ على المجتمع وبنيته من خلال تحريك أفراد المجتمع.
وكما بنفسج، تعمل منظمة شفق على تأمين الغذاء والماء وتأسيس المدارس والاهتمام ببرامج حماية الطفل والأسرة، كما تعمل على أساس برنامج طوارئ من أجل الاستعداد للأزمات التي من الممكن أن تعصف نتيجة للقصف الروسي والنظامي للمنطقة.
لم تقتصر منظمة شفق على إدلب فحسب، فقد كانت موجودة في مدينة حلب قبل أن يسيطر عليها النظام، كما أنها كانت تنفذ مشاريع إنسانية في الغوطة الشرقية قبل أن يستعيدها النظام من قوات المعارضة السورية.
انطلاقًا من واجبها الاجتماعي تنظم المنظمة فعاليات إنسانية لبعث الأمل والإنسانية في المنطقة التي لم تهدأ فيها الحرب، ومنذ شهور أقامت المنظمة فعالية “بالهمم نعلو القمم”، وهي عبارة عن بطولة كرة قدم للمكفوفين في الشمال السوري، وعن هذه البطولة قالت المنظمة: “لأن حياتهم أمانة في أعناقنا وانطلاقًا من مبادئنا الأساسية في حماية حقوق المتضررين من النزاعات من خلال ضمان الوصول إلى أساسيات البقاء على قيد الحياة، والحماية من العنف، والخوف من التهجير القسري، والعمل على توفير بيئة مناسبة، نهدف عبر أنشطتنا المتميزة والهادفة إلى الحد من التعرض للضرر أو الإذلال، وتزويد الأفراد المعرضين للخطر في المجتمعات المستهدفة بالمعلومات المتعلقة بالحماية والوصول إلى خدمات الحماية المتخصصة، كما أننا لا نتوانى عن تقديم المساعدة النزيهة والمحايدة دون تمييز”.
استفاد آلاف الأشخاص من البرامج التي تعمل عليها هذه المنظمة في المناطق المحررة، وتشترك شفق مع المنظمات الدولية من أجل استجلاب الدعم للمخيمات وسكانها إغاثيًا ولوجيستيًا. لكن في الأيام الأخيرة أوقفت ثلاث منظمات دولية -كير وغلوبل وغول- التمويل عن منظمة شفق، ومن المشاريع التي تم إيقاف تمويلها هي الصحة والتغذية والأمن الغذائي والتعافي المبكر والحماية والمياه والتعليم والمأوى، وذلك بقرار من “وكالة التنمية الأمريكية” التي تقدم الدعم للمنظمات تلك، دون صدور أي توضيح بهذا الخصوص.
لجنة رد المظالم
بعد سيطرة فصائل المعارضة السورية على منطقة عفرين إلى جانب الجيش التركي ضمن العملية التي أطلق عليها “غصن الزيتون”، حصلت عدة انتهاكات تمثلت بنهب أموال وبيوت الناس بغير وجه حق، ما أثار استياءً شعبيًا وعالميًا، الأمر الذي دفع بعض الفصائل وبرعاية تركية إلى تشكيل لجنة أطلق عليها “رد المظالم”.
خلال اجتماع ضم فصائل الجيش الوطني السوري مع الجانب التركي آواخر شهر أغسطس/آب 2020، على خلفية ازدياد عدد الشكاوى المتعلقة بالاستيلاء على عقارات وفرض الإتاوات على محصول الزيتون، تم إقرار اللجنة وكانت أهدافها “الإشراف على إفراغ مدينة عفرين من المقار العسكرية”، إضافة إلى متابعة المظالم الخاصة بالسكان المحليين.
توسعت دائرة عمل اللجنة كما توسعت أهدافها حيث باتت تحاول تحسين الواقع الأمني وتمكين المؤسسات الرسمية في مناطق درع الفرات التي تضم جانبًا كبيرًا من ريف حلب الشمالي إضافة إلى منطقة نبع السلام في منطقة شرقي نهر الفرات، بين مدينتي تل أبيض في ريف الرقة، ورأس العين في ريف الحسكة.
ومنذ تشكيلها بتّت اللجنة بمئات الدعاوى المقدمة إليها من السكان، وأعادت إلى عدد كبير منهم أملاكهم، كما حلت العديد من النزاعات بشأن منازل ومحال تجارية ومنعت فرض الضرائب على السكان.
في حديث صحفي سابق، قال المتحدث باسم اللجنة وسام القسوم: “اللجنة هي مبادرة وطنية من عدد من نخب الثورة وفصائل الجيش الوطني”، معتبرًا أن قوة اللجنة العسكرية تأتي من فصائل “الجيش الوطني” الممثلة جميعها في اللجنة، إضافة إلى القوة الشعبية المؤيدة والداعمة لها.
وشدّد القسوم على أن “اللجنة تنظر في الدعاوى المقدمة ضمن شروط معينة أبرزها: ألا تكون منظورة في القضاء، وأن تتعلق بأفراد الجيش الوطني، أو أن يكون صاحب الدعوى قد حصل على قرار حكم أصولاً من المؤسسات القضائية، وعجز عن التنفيذ لامتناع المحكوم ضده عن ذلك، استنادًا إلى قوة يعتمد عليها، وحينها تقوم اللجنة بتنفيذ القرار ودعم المؤسسات الثورية ضمن ترتيب وإجراءات معينة عندها”.
وعلى الرغم من سطوة الفصائل العسكرية وتعنتها، فإن تجربة اللجنة كانت رائدة في وقتها ومضمونها، ما أكسبها شعبية كبيرة، ومع تصاعد التوترات بين الفصائل العسكرية ودخول هيئة تحرير الشام مؤخرًا إلى منطقة عفرين، توقف عمل لجنة رد المظالم، بقرار تركي، ورغم إيقافها، فإن هذه اللجنة عملت على استعادة حقوق الناس في ظل وضع سوداوي ومأساوي.
ختامًا، تذخر المناطق المحررة من النظام السوري بالكثير من المؤسسات والهيئات والمنظمات التي تشكل نقطة مضيئة رغم الواقع المؤلم، ومن هذه المؤسسات يمكن للمنطقة الانطلاق نحو واقع أفضل لتحسين واقع الناس وحياتهم بعيدًا عن الأسى المعاش خلال سنوات مضت من الحرب والاقتتال الفصائلي.