ترجمة: حفصة جودة
مع تسبب أزمة المناخ في انخفاض منسوب المياه بدرجة شديدة، وجفاف قيعان الأنهار وذوبان الأنهار الجليدية، ظهرت القطع الأثرية مثل السفن الحربية القديمة والمدن التاريخية والآثار البشرية.
قبل 3800 عام، كان التجار في مدينة زاخيكو القديمة ينتظرون العوارض الخشبية التي قُطعت من الغابات في جبال شمال وشرق بلاد ما بين النهرين – التي تشكل اليوم العراق والكويت وأجزاء من تركيا وإيران وسوريا – بينما تطفو على نهر دجلة، بمجرد وصول تلك الأخشاب إلى زاخيكو، تُجمع وتُؤخذ إلى المخازن.
من نفس المناطق الجبلية التي تُعرف اليوم بتركيا وإيران، يسافر التجار الذين ينقلون المعادن مثل الذهب والفضة والقصدير والنحاس، بالحمير والجمال إلى زاخيكو، ولحماية أنفسهم من قطاع الطرق، كانوا يتخذون طرقًا صعبة ويسافرون في قوافل، بعد بيع بضاعتهم في زاخيكو يعبر التجار نهر دجلة قبل مواصلة طريقهم إلى التخوم.
تأسست زاخيكو تقريبًا عام 1800 قبل الميلاد، وقد أسستها الإمبراطورية البابلية التي حكمت بلاد ما بين النهرين من القرن الـ19 وحتى الـ15 قبل الميلاد، ولأنها لا تضم إلا التربة والماء، أُسست زاخيكو للاستفادة من حركة القوافل والتجارة المنتعشة في الشرق الأدنى حيث تركيا ومصر اليوم.
تطورت المحطة التجارية لتصبح مدينة تجارية مهمة في المنطقة لنحو 600 عام قبل أن يضربها زلزال وتختفي بعد ذلك، اختفت زاخيكو تمامًا في الثمانينيات حيث غمرتها المياه كجزء من مشروع سد الموصل الذي بُني في عهد الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، عُرف السد سابقًا باسم سد صدام وكان أكبر وأهم خزان للمياه يُستخدم للري.
يعد العراق من الدول المعرضة بشدة للتغيرات المناخية، وتواجه محافظاته الجنوبية – حيث تتجاوز الحرارة 50 درجة سيليزية في الصيف – جفافًا شديدًا منذ 2019، ما أجبر المزارعون على إهمال محاصيلهم الذابلة، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، خرجت المياه من السد لري الأراضي الزراعية.
مع انخفاض منسوب المياه، ظهرت زاخيكو مطلع هذا العام في المنطقة الكردية من العراق، وقد انطلق فريق من علماء الآثار المحليين والألمان للتنقيب عن الموقع والكشف عن تفاصيل جديدة تخص المدينة بعد تنقيب مبدأي قصير في 2018 الذي كشف عن المكان.
يقول بيتر بفيلتسنر من جامعة توبينجن بألمانيا، وهو عالم آثار عمل بالموقع الذي يُعرف باسم “كيمون”: “مع التنقيب الأخير أصبح السكان المحليون على دراية بزاخيكو، وقد زاروا الموقع وعُرض على التليفزيون المحلي وبدأ الناس يعرفون عن تاريخهم بعمق وهم فخورون به”.
مدينة في إمبراطورية غير مشهورة
في نحو عام 1500 قبل الميلاد، سقطت زاخيكو البابلية القديمة مع إمبراطوريتها عندما غزا الحيثيون – مجموعة هندوأوروبية من الأناضول – بلاد ما بين النهرين، لكنهم لم يهتموا بتأسيس إدارة جديدة هناك.
وعندما عاد الحيثيون إلى بلادهم في الشمال، استولت إمبراطورية ميتاني – موطنها شمال شرق سوريا – على زاخيكو، يقول بفيلتسنر: “كان على إمبراطورية ميتاني أن تملأ الفراغ الذي تركه الحيثيون لتأسيس إمبراطورية كبيرة وقوية”.
اكتُشف عدد قليل من المباني التي يمكن نسبها إلى هذه الإمبراطورية، كما يُعرف القليل عن الناس الذين عاشوا في زاخيكو وعدد سكانها، لكن المدينة ازدهرت في الإمبراطورية الثانية التي حكمتها.
كان أغلب سكان الإمبراطورية من الحوريين – الذين استوطنوا شمال بلاد ما بين النهرين – وقد استقروا فيما يُعرف اليوم بسوريا وشمال العراق، وتحدثوا اللغة الحورية.
بُنيت البنية التحتية في عصر الميتانيين وقد وجدها علماء الآثار ووجدوا قصرًا للحاكم المحلي وتحصينات حول المدينة لحمايتها من القوات الغازية ومخازن عامة ضخمة للسلع التجارية والمحاصيل، وجميعها مبنية من الطوب الطيني.
يشير حجم الغرف الضخم إلى نشاط المدينة وازدحامها بالسكان
يبدو أن كل ذلك أصبح ممكنًا لعلاقة الملك المحلي الجيدة بالإمبراطورية، وفقًا لبفيلتسنر، فإن زاخيكو كانت دولة تابعة لإمبراطورية أكبر عاصمتها في شمال شرق سوريا اليوم.
كان قصر الملك أكبر من المنازل الأخرى وله حوائط سميكة وغرف كبيرة، وحتى الأرصفة كانت مصنوعة من الطوب الطيني المحروق وليس المجفف فقط، والمختوم بالبيتومين – المصنوع من الزيت – للعزل ضد الماء.
ولأنه لم يُعثر إلا على القليل من الإمبراطورية الميتانية بما في ذلك عاصمتها، فإن تنقيبات اليوم تنشر معرفة جديدة عن الثقافة الميتانية، يقول بفيلتسنر: “ترجع أهمية زاخيكو الكبيرة إلى أنها تفتح نافذة كبيرة عن شكل المدن الميتانية”.
رسائل الطين
أحد المميزات الرئيسية لمدينة زاخيكو هي المخازن التي ضمت غرف عرضها 6 أمتار وطولها 8 أمتار، وكانت تضم أكوامًا من القمح والشعير، بالإضافة إلى المعادن والأخشاب المستوردة.
كان المزارعون ينقلون محصول الموسم إلى المخازن التي تخضع لمراقبة عمال الدولة، ويشير حجم الغرف الضخم إلى نشاط المدينة وازدحامها بالسكان.
عُرفت بلاد ما بين النهرين دائمًا بأنها أول مكان زُرع فيه القمح منذ نحو 10 آلاف عام، وكان الخبز الطعام الأساسي لسكان زاخيكو وكان يؤكل بجانب أوانٍ كبيرة من شوربة الخضار واليخنة.
ربّى السكان أيضًا الخراف والماعز والأبقار والخنازير، ما وفر لهم مصدرًا ثابتًا للحليب واللحم الذي كان يُحفظ للمناسبات الخاصة.
لم تُعرف اللغة الحورية خارج المنطقة الحاليّة، وكان الكتبة العاملون في الوظائف العامة بالدولة مثل قصور المدينة والمخازن يتعلمون باللغة الأكادية التي كانت من أكثر اللغات انتشارًا والمشتركة في الشرق الأدنى القديم في أواخر العصر البرونزي الذي امتد من 3300 قبل الميلاد حتى 1200 قبل الميلاد.
يقول بفيلتسنر إنهم كانوا يستخدمون الطين الرطب لصنع ألواح مربعة طولها 15 سنتيمترًا في 15 سنتيمترًا، وبينما لا تزال رطبة كانوا ينقشون عليها ملاحظات عن أي شيء، بداية من تسجيل المحاصيل المُخزنة حديثًا إلى تسجيل أي خطط متعلقة بمملكة أخرى، وذلك قبل وضع الألواح في الشمس لتجف.
الزلزال
وصلت مدينة زاخيكو الميتانية إلى نهايتها عندما ضربها زلزال بين عامي 1400 و1300 قبل الميلاد، ما أدى إلى انهيار الحوائط حول السكان، ومع تضرر المباني بشدة كان من المستحيل إعادة بناء زاخيكو إلى سابقها، ومن نجا من السكان هجرها.
في نحو عام 1300 قبل الميلاد، استوطن الآشوريون – الذين كانوا سكانًا أصليين في منطقة ما بين النهرين – نفس المدينة وبنوا منازلهم وسط الحطام واستخدموا المباني التي ظلت صامدة من العصر الميتاني كحوائط دعم خارجية.
يقول بفيلتسنر: “لقد أسسوا حياة جديدة في المدينة، من اللطيف أن ترى كيف تبدأ الأشياء في النمو مرة أخرى”، وبعيدًا عن تلك الأشياء المتعلقة بالفترة الميتانية، فالألواح المسمارية المُكتشفة التي تعود إلى ما بعد الزلزال ستخبر علماء الآثار المزيد عن تغير الحكم في المدينة.
ترك الآشوريون زاخيكو بعد 50 عامًا من وصولهم إليها، ما بين 1270 و1250 قبل الميلاد، وقد قرروا أن يبنوا عاصمتهم الإقليمية الجديدة “ماردامان” على بُعد 25 كيلومترًا في سهول بلاد ما بين النهرين في باسيتكي إحدى قرى محافظة دهوك اليوم.
تلاشت الفوائد التجارية التي قدمتها زاخيكو لسكانها في وادي نهر دجلة لمدة 600 عام، حيث أراد الآشوريون استغلال التربة الخصبة في بلاد ما بين النهرين، كان الانتقال إلى باسيتكي لأسباب اقتصادية وإستراتيجية، لأن المناطق الزراعية كانت أصغر على طول نهر دجلة مقارنة بالحقول في السهول التي ستوفر محاصيل ذات فائدة اقتصادية أكبر.
في شهر فبراير/شباط توقف بفيلتسنر وفريقه من علماء الآثار عن التنقيب بعد أن ارتفع منسوب مياه السد مرة أخرى واختفت زاخيكو تحت الماء.
قال الدكتور بيكس جمال الدين مدير الآثار في مديرية التراث والآثار في دهوك الذي يتعاون مع علماء الآثار، إن التنقيب يشير إلى أن هذه المنطقة كان لها تأثير قوي في الإمبراطورية الميتانية، ومع ذلك فهو يعترف أن اكتشاف المزيد عن هذا التاريخ يأتي على حساب احتياجات البلاد من المياه.
يقول جمال الدين: “لا نأمل أن ينخفض منسوب المياه مرة أخرى في سد الموصل، لأن هذه المياه مهمة جدًا لتلك المنطقة، لكن إذا حدث وانخفضت مرة أخرى، فسنبدأ في التنقيب مرة أخرى، وستكون النتائج لصالح تاريخ المنطقة”.
المصدر: الجزيرة الإنجليزية