الروس مستاؤون من الانتخابات الأمريكية النصفية، التي أسفرت نتائجها النهائية عن استمرار سيطرة الديمقراطيين على الكونغرس، فالجمهوريون لا يبدون أي استعداد لتقديم دعم سخي لأوكرانيا، ما دامت أفكار اليمين لا تتعارض مع أفكار سيد الكرملين، فهما يتحدّثان بالعبارات نفسها.
يعتزم دونالد ترامب خوض السباق الرئاسي مجددًا في عام 2024، وقد استطاع الرجل عكس الأضواء تجاهه مرة أخرى بفضل تصريحاته المناهضة للحرب الروسية الأوكرانية، فبعد أن وصف بوتين بأنه “ذكي” وأن القادة الغربيون “أغبياء جدًّا”، عاد ليعتبر أن هذه الحرب لم تكن لتندلع لو ظلَّ هو في السلطة الرئاسية عام 2020.
الجمهوريون يعتقدون أن الصراع في أوكرانيا يجب أن ينتهي من خلال إبرام “صفقة”، وليس من خلال إرسال الملايين من الدولارات والأسلحة الفتّاكة إلى كييف، ففي ذلك استفزاز للدب الروسي العنيد، وقد يؤدي إلى اندلاع حرب عالمية ثالثة.
التقارُب ليس صدفة
تقول المؤرّخة الفرنسية مايا كاندل: “لقد أمكننا ملاحظة التقارب بين أفكار بوتين وترامب في عدد كبير من الدوائر المحافظة في الولايات المتحدة وأوروبا، وهذا التقارب ليس من قبيل الصدفة”.
هذا التقارب تمَّ تنظيمه والتنظير له في قلب حركة ظهرت مؤخرًا حول شخصية يورام هازوني، كما توضّح المؤرخة أن هذا الكاتب والفيلسوف الإسرائيلي قد ألّف كتابًا حول فضائل القومية، وأطلق حركة وطنية محافظة تتبنّى أفكاره المناهضة للعولمة والليبرالية.
سُمّيت هذه الحركة على اسم الفيلسوف المحافظ إدموند بورك في القرن الثامن عشر، وتأسّست في لاهاي عام 2000 من قبل مجموعة من الشباب المحافظين غير الراضين عن السياسة الهولندية ومستوى النقاش العام، وفي اعتقادهم أن الفلسفة والثقافة تشهدان انحرافًا خطيرًا، ولهذه المؤسسة روابط مع مؤسسات الفكر والرأي المحافظة في الولايات المتحدة، مثل “هيريتيج فاونديشن” و”معهد أمريكان إنتربرايز”.
يتهافت زعماء اليمين المتطرف على قراءة أعمال واستشارات يورام هازوني، ففي عام 2018 صدر كتابه الشهير”مزايا القومية” الذي تلقّفته بحماس كبير الأوساط اليمينية المتطرفة في أوروبا والولايات المتحدة.
ويستلهم هذا الكتاب مسيرة دونالد ترامب وفوزه في الانتخابات الرئاسية وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بعد بريكست، أما فكرته الرئيسية فتدعو إلى الدفاع عن نظام عالمي جديد يقوم على سيادة الدول القومية في وجه ما يسمّيه “الإمبراطوريات الليبرالية”، مثل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
بوتين أقوى من بايدن
في العقيدة الروسية يظهر تأثير الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين، مبلور نظرية “الأوراسية الجديدة”، حيث تبدو أفكار هذا الرجل أقرب إلى اليمين المتطرف الذي يدعو إلى هيمنة روسيا على أوراسيا، أكثر ممّا هو داعم للاندماج الثقافي والحضاري الأوراسي.
غير أن فلاديمير بوتين لا يؤمن بأوراسية دوغين، بل أنه ينتمي إلى التيار القومي الروسي الذي يؤمن بعظمة روسيا كحضارة قائمة بذاتها، وليست بالضرورة جزءًا من الحضارة الأوروبية أو الأوراسية كما تؤمن التيارات الفكرية الأخرى في روسيا.
في الولايات المتحدة يحظى بوتين بإعجاب كبير من طرف الكثير من الجمهوريين، حيث وجد استطلاع للرأي، أجرته “ياهو! نيوز” و”يوغوف” في يناير/ كانون الثاني الماضي، أن 62% من الجمهوريين والمستقلين ذوي الميول الجمهورية يعتقدون أن بوتين “زعيم أقوى” من جو بايدن، ويرتفع هذا الرقم إلى 71% بين أولئك الذين يسمّون “فوكس نيوز” مصدرهم الأساسي للأخبار والمعلومات، بينما ينخفض إلى 54% بالنسبة إلى الذين يفضّلون القنوات الإخبارية الأخرى.
خلال بداية الغزو الروسي، تحدّث توكر كارلسون في برنامجه الذي يعدّ أكثر مشاهدةً في الولايات المتحدة، ويبَثّ على قناة “فوكس نيوز”، عن أنه لا يجب مساعدة الأوكرانيين في حربهم ضد الروس، وبعد ذلك مباشرة صار الرجل نجمًا في الإعلام الروسي، وأعيد بثّ خطابه عدة مرات.
حيث يدّعي في هذا الخطاب أن الغرب افتعل الحرب من أجل تغيير نظام موسكو، وأن العديد من الأوكرانيين يموتون بسبب قرارات إدارة جو بايدن، التي تمنح الأسلحة ليس بقصد مساعدة أوكرانيا ولكن من أجل معاقبة بوتين.
مثل هذه الخطابات لا تتبنّاها فقط قناة “فوكس نيوز”، بل العديد من المواقع الإخبارية المشهورة في الولايات المتحدة، بما فيها موقع “بريت بارت” الذي يديره ستيف بانون مستشار دونالد ترامب. واللافت للنظر هو أن هذه الأفكار يتم تداولها بطريقة سريعة عبر الوسائط الإعلامية، مثل قصة المختبرات البيولوجية السرّية في أوكرانيا المموَّلة من قِبل الولايات المتحدة.
مسرحية الرجل القوي
في أوروبا، يسحر بوتين النشطاء والتشكيلات اليمينية الراديكالية، فقد صار بالنسبة إليهم ذلك “البطل الخارق” الذي يجسّد قوة الحكومة المركزية، التي تمكّنت من السيطرة على بلد مترامي الأطراف، لا سيما أن ثقافة القائد تعتبَر مركزية بالنسبة إلى اليمين المتطرف، مقارنة بزعيمة الجبهة الوطنية مارلين لوبون، أو دونالد ترامب الذي أثار الكثير من الحماس بين مؤيديه الأكثر تطرفًا، حيث يعدّ بوتين سيّدًا في مسرحية الرجل القوي.
مثلًا في شريط فيديو يتمّ تداوله على نطاق واسع، نرى فلاديمير بوتين عندما كان رئيسًا للوزراء، وهو يجبر أصحاب مصنع للأسمنت على توقيع اتفاقية لتجنُّب تسريح العمّال، وبدلًا من أن يتمَّ اعتبار ذلك شكلًا من الترهيب، ينظر إليه نشطاء اليمين المتطرف على أنه درس في الشجاعة السياسية.
وطبعًا إن الشعور بالضيق المرتبط بأوروبا المعولَمة التي تحدّ من القدرة على القضاء على المعاناة الاجتماعية، وعدم المساواة، والفقر، والخوف من فقدان الهوية الذي تجسّده شخصية المهاجر، كلها أسباب ساهمت في صعود أصوات اليمين المتطرف في أوروبا، فأحزابه الآن إمّا تدير حكومات بعض دولها وإمّا تسيطر على برلماناتها.
لقد شنَّ بوتين منذ سنوات حربًا هجينة ضد الديمقراطيات الأوروبية، وقد وجد في أنحاء القارّة بين الحركات اليمينية المتطرفة وقادتها حلفاء وأتباعًا مفيدين، انحنوا بشكل مباشر لأجندة الكرملين ماليًّا وسياسيًّا وأيديولوجيًّا، إذ تعوّل روسيا عليهم لتعزيز موقفها داخل الاتحاد الأوروبي، والضغط من أجل رفع العقوبات وتخفيف عواقب العزلة الدولية.