يشكل إقليم دارفور حوالي خُمس مساحة السودان ويحتل دائمًا بعد انفصال الجنوب قائمة مشكلات السودان العالقة بدون حل، الصراع في الإقليم معقد للغاية ويترواح بين الصراع القبلي المسلح وحالة تمرد ضد الحكومة المركزية في الخرطوم، فإذا أردت أن تحدد أطراف الصراع الدائر الآن بدقة فإنك ستجد القوات الحكومية السودانية بجانب مليشيا مسلحة تدعى “الجنجاويد” تتألف غالبيتها من قبائل عربية الأصل كطرف أول في الصراع، أما الحديث عن الطرف الثاني فأبرز عناصره حركة تحرير السودان إلى جانب حركة العدل والمساواة أصحاب الأصول الأفريقية غير العربية والتي تتهمها الحكومة بتلقي دعم تشادي وإريتري ضد الحكومة المركزية في العاصمة الخرطوم، حيث يحد الأقليم من الغرب دولة تشاد والتي تمثل داعمًا لأحد الأطراف في الصراع القائم.
رصدت تقارير للأمم المتحدة تشريد أكثر من مليوني مواطنًا من سكان الإقليم من بين أكثر من خمسة ملايين مواطنًا يسكنون الإقليم، وذلك بسبب وتيرة الصراع المسلح، حيث استقبلت معسكرات اللاجئين في تشاد عدد ضخم منهم، كذلك معسكرات أقامتها منظمات تابعة للأمم المتحدة في السودان، وهو ما يجعل الأمر كارثة إنسانية بكل المقاييس، وحسب تقديرات دولية فإن أكثر من ربع مليون إنسانًا لقوا حتفهم جراء الحرب في دارفور، بينما اختلفت التقديرات الرقمية الحكومية السودانية لهذه الكارثة الإنسانية، والتي قللت من شأن هذه الأرقام ودقتها، وعلى الرغم من ذلك فإن الأرقام التي أعلنتها الحكومة السودانية لا تقل فداحة بأي حال من الأحوال ولا يقلل من حجم الكارثة التي أصابت دارفور منذ عام 2003.
حقيقة الصراع
برزت مشكلة الصراع في دارفور قديمًا كصراع قبلي بين أعراق قبيلة مختلفة منذ عام 1916 حتى أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، وقد استخدم أسلوب المصالحات العرفية بين القبائل المختلفة مع تجدد النزاعات من حين لآخر بين المكونات القبيلة للمنطقة، وكانت أبرز القبائل المنخرطة في الصراعات هي قبائل الزغاوة والمساليت كذلك الرزيقات والمعاليا وبني هبلة والزيادية والداجو والفور والبرقو على اختلاف أصولهم الأفريقية والعربية، ولكن مع تصنيف أطراف النزاعات على أساس الأصل فإن أبرزهم الأطراف الآتية:
قبائل (البقارة – الرزيقات) ذات الأصل العربي.
قبائل (الفور – الزغاوة – المساليت) ذات الأصول الأفريقية.
كانت أصول الصراع تاريخيًا تتراوح بين النزاعات على الموارد والأرض والمراعي وبعض المشاكل القبلية السائدة من غارات مسلحة وسرقة ونهب بسبب انتشار السلاح مع ضعف الحكومة المركزية في الشمال، حيث لم تنل منطقة دارفور حظها من التنمية رغم توافر الموارد الطبيعية بها وتُركت فريسة للصراعات القبيلة مع مزيدًا من التهميش الذي عانى منه أبناء الغرب في دارفور كحالة مكررة من وضع الجنوب؛ ما استدعى وجود قوى تفوق قوة الدولة بسطت سيطرتها على مناطق هناك بالقوة في غياب للجيش السوداني الذي وقف موقف المتفرج أو موقف الوسيط بين القبائل، حتى ظهر الصراع بحقيقته الضخمة التي حاول السياسيون إخفاءها للتغطية على فشلهم منذ زمن بعيد، فبعد انتظام الحركات المسلحة للقبائل في معسكرات تدريب واستعمالها في الحرب القبلية تحولت إلى استهداف الحكومة المركزية وتوابعها في المنطقة في عام 2002، ما اعتبر إعلان صريح ببدأ الحرب ضد الدولة وكان إيذانًا بظهور ما يعرف بجيش تحرير دارفور ثم تلاه العديد من الأحداث العنيفة ضد مؤسسات الدولة كالمطارات وغيرها من قبل الحركة التي تحولت إلى اسم “حركة تحرير السودان” كحركة معارضة مسلحة، ومن هنا التفت نظام الحكم إلى ما يدور في دارفور بعدما شعر بالخطر على وجوده لدخول الصراع مرحلة المعارضة المسلحة ضد الدولة، وظهرت القضية كقضية سياسية في عام 2003 حينما أعلنت الحركة مطالبها بحق تقرير المصير باستفتاء حر مباشر مع إنهاء التحيز للقبائل ذات الأصول العربية، وهي السياسة التي اتخذتها الحكومة دون إعلان عنها بدعم قبائل بعينها في هذا النزاع؛ الأمر الذي أدى إلى استعار الحرب وازدياد الهجمات المسلحة ضد الحكومة؛ ما جعل الحكومة المركزية في الشمال تتخذ قرارًا بخوض الحرب هناك ضد قبائل مسلحة وصفتها إعلاميًا بالتمرد والسعي للانفصال.
وفي رد فعل للمعارضة هناك نشأت حركة “العدل والمساواة” ثاني أقطاب المعارضة بدارفور، ولكن هذه المرة تلافت العدل والمساواة أخطاء حركة التحرير، حيث دعت إلى التقسيم الفيدرالي لا الانقسام الكلي مع الدخول في مفاوضات سياسية أكثر من اللجوء إلى الحل العسكري، بالرغم من تواجد مليشيا عسكرية تابعة لحركة العدل والمساواة؛ مما زاد تعقيد الأمر لدى حكومة الخرطوم، فيما دعى الرئيس السوداني “عمر البشير” لإعلان حالة الطوارئ في دارفور والسعي لعمل جلسات نقاشية بين الأطراف المتنازعة من القبائل والعمل على بسط نفوذ الدولة هناك، لكن لم تتوقف الأعمال العدائية ضد القوات المسلحة السودانية على الحدود التشادية ومن ثم باءت كل محاولات الحكومة بالفشل، وقد ألقى هذا الأمر بظلاله على السياسيين بالشمال حيث أيد الدكتور “حسن الترابي” الزعيم الإسلامي، مطالب حركة العدل والمساواة في دارفور، الذي جعل البعض يصنف حركة العدل والمساواة كجناح عسكري لحزب المؤتمر الشعبي الذي يتزعمه القيادي الإسلامي حسن الترابي الذي انفصل عن المؤتمر الوطني الحاكم وانضم للمعارضة في عام 2000؛ ما وضع حكومة الإنقاذ في مأزق بعد امتداد الرقعة السياسية للصراع.
فالأجندة السياسية للصراع بدأت تظهر بعد أن انحسر الحديث عن الصراع القبلي فحسب، فبدأت المناقشات حول سياسات التمييز السلبية في الغرب ضد أبناء دارفور، وظهرت خطابات المهمشين من قبل الدولة وغياب التنمية التامة والأمن في ظل انحسار لشعبية الإسلاميين الحاكمين في الإقليم الذي مثل أرضًا خصبة لظهور حركات غير تقليدية تفرض مطالب سياسية جديدة على الصراع.
واجهت الحكومة هذا الأمر باتهامات للحركات المعارضة في الإقليم بأنها مدعومة خارجيًا كحركة تحرير السودان التي اتهمتها الحكومة السودانية بتلقي الدعم من دول ليبيا وتشاد وإريتريا، كذلك اتهام حركة العدل والمساواة بتبني فكر المعارضة السياسية في الشمال متمثلة في المؤتمر الشعبي ولا علاقة لحراكها بقضية دارفور وإنما هي مكايدة سياسية ليس إلا، كما تعاملت الحكومة مع الطرف العربي بشأن من الاختلاف حيث استمالت بعض المتمردين وضمتهم إلى صف الحكومة في الغرب؛ مما كان نواة لظهور “الجنجاويد” وجعل الأمر يأخذ شكلاً من أشكال الحرب الأهلية، بعيدًا عن المعارضة السياسية، حيث ازدادت عمليات التصفية على أساس العرق والإثنيات وظهر الرد من القبائل الزنجية ضد العرب، فظهر الشكل الحالي للصراع الذي تبادلت فيه الأطراف الاتهامات وأدى إلى وقوع كوارث إنسانية في الأقليم؛ الذي دفع الأمر إلى طاولة النقاشات العالمية.
بداية الاهتمام الدولي
في العام 2004 أعلنت الأمم المتحدة أن منطقة دارفور تمر بأسوء كارثة إنسانية في العالم؛ ما جعل الولايات المتحدة تتدخل لتوقيع عقوبات على نظام البشير في ظل صراعها الدولي معه باتخاذ ذلك ذريعة لتدويل القضية وهو ما رفضته الحكومة باعتبار ذلك الأمر شأنًا سودانيًا خالصًا لا يحق لأي دولة التدخل فيه، هذا الذي جعل الأمر يزداد حدةً بازدياد مطالبات الأمم المتحدة لحكومة الخرطوم بتحمل مسؤولياتها تجاه ما يحدث في دارفور في ظل توافد منظمات إغاثية عدة على منطقة دارفور تابعة للأمم المتحدة وغير تابعة لها بعد ازدياد الهجمات المسلحة هناك والتي أدت إلى تشريد ما يزيد عن مليوني شخصًا وقتل أكثر من ربع مليون، وهو ما جعل الإعلام الغربي يستغل الأمر ضد نظام الإنقاذ غيرالمرغوب فيه وتصوير الأمر على أنه إبادة جماعية من قبل الحكومة السودانية تجاه عرقيات أفريقية في دارفور، وهو ما نفته حكومة السودان التي دعت إلى تشكيل لجان تقصي حقائق ومعاقبة كل المتورطين في جرائم العنف بالإقليم، الأمر الذي لم يقنع الولايات المتحدة التي حاولت انتزاع مواقف أكثر حسمًا في الأمم المتحدة تجاه هذه القضية مثل فرض منطقة حظر جوي هناك بعد اتهامات للحكومة السودانية في الخرطوم بتدريب مليشيات عربية لممارسة العنف في دارفور على المدنيين وليس ضد جماعات مسلحة كما تروج الخرطوم في إعلامها.
كما ظهرت مجموعات مرسلة من الاتحاد الأفريقي لمراقبة الوضع العسكري هناك في ظل توصل إلى اتفاقات تقضي بوقف إطلاق النار، كذلك السماح للمنظمات الإغاثية ومفوضية اللاجئين بممارسة عملها لإنقاذ الوضع الكارثي في المنطقة.
لكن هذه المنظمات أدانت الحكومة السودانية بعدما تجددت اتهاماتها بالوقوف إلى جانب المليشيات العربية، كذلك كانت تقارير منظمة العفو الدولية وتقرير منظمة أطباء بلا حدود، التي تشير إلى تعرض سكان الإقليم لمجاعة حقيقية بسبب نقص المواد الغذائية والدوائية والتي أظهرت خطورة الوضع الإنساني في المنطقة.
وفي ظل الضغوطات الدولية الممارسة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية؛ نجحت في انتزاع موقف دولي تجاه حكومة البشير في الخرطوم كانت له توابعه السياسية على الوضع الإنساني في دارفور، حيث صدرت مذكرة في مارس 2009 من قبل محكمة الجنايات الدولية باعتقال الرئيس السوداني “عمر البشير” بتهم ارتكاب جرائم حرب في دارفور، ردت عليه السلطات السودانية بطرد أكثر من 16 منظمة دولية إغاثية بتهمة مساندة هذا القرار دوليًا، فوضعت الأمم المتحدة في أزمة بسبب اعتمادها على هذه المنظمات في نقل المساعدات الإنسانية إلى الإقليم، حيث توقف أكثر من نصف برنامج الأمم المتحدة الخاص بمساعدة دارفور بعد قرار السلطات السودانية طرد هذه المنظمات، وقد كانت الولايات المتحدة تهدف من هذا القرار إلى الضغط على حكومة البشير للتوصل إلى اتفاق كاتفاق نيفاشا الذي بموجبه حصل الجنوب على حق تقرير المصير، لكن الأمر قُوبل بالرفض السوداني القاطع متحملين كافة العواقب الدولية لهذا الرفض.
دور إسرائيلي خفي
بعد انتهاء قضية الجنوب التي كانت إسرائيل فيها لاعب قوي، ظهرت بوادر إلى اتجاه إسرائيل نحو الغرب السوداني، كانت تصريحات نيتنياهو القيادي الإسرائيلي في حزب الليكود عن نظام الحكم في السودان أمام الكونجرس الأمريكي في ذلك الوقت عام 2002 كفيلة لمعرفة حقيقة الدور الإسرائيلي في السودان خاصةً وفي أفريقيا عامة، حيث رُصد اجتماعًا بين حركة تمرد دارفور وقيادات إسرائيلية في إريتريا، الأمر الذي سوقت له الصحافة السودانية بكثافة؛ مما أدى إلى تصدعات في حركة تمرد دارفور بين موافق ورافض لهذه الدعم الإسرائيلي المعروض بلا شرط.
جعل ذلك إسرائيل تتخفى خلف إريتريا في تقديم دعمها لحركات التمرد لمجابهة الترويج الإعلامي السلبي للتدخل الإسرائيلي المباشر مع العمل الدولي على استغلال الوضع المشتعل هناك في تصوير الأمر على أنه إبادة جماعية من قبل نظام البشير، وهو ما نفته المحكمة الجنائية الدولية التي أكدت عدم كفاية الأدلة بشأن هذا الادعاء، ولازالت المحاولات الإسرائيلية مستمرة دوليًا للضغط على نظام البشير للوصول إلى اتفاق يقضي بحق تقرير المصير لإقليم دارفور.
تزييف حقيقة الأزمة بدارفور
تصوير الأزمة في دارفور على أنها أزمة نظام البشير وحكومة الإنقاذ هو أمر غير صحيح بالمرة وبه مغالطات كبيرة، وإن كان هذا النظام يتحمل مسؤولية كبيرة عن اشتعال الأزمة بتجاهله لها حتى تفاقمت، لأن مشكلة دارفور لم تظهر في عام 2003 كما روجت الصحافة الغربية ولكنها قبل ذلك بأكثر من ثلاثة عقود ولم تخرج المنظمات الدولية ولا الإعلام الغربي ببنت شفاه تجاهها؛ ما يجعلنا نستبعد التقييم الدولي الغير موضوعي للأزمة مع التأكيد على بعد الأزمة الكارثي والإنساني الذي يُسأل عنه نظام البشير لحدوث التطورات في عهده ليس إلا، لكن لا يمكن محاكمته وحده على الجذور المتشابكة للأزمة التي لا يلتفت إليها أحد.
فنظام “جعفر النميري” المتأثر بالقومية فتت الإدارة الأهلية في دارفور وهو خطأ تاريخي فادح أدى إلى كوارث بعد ذلك، وهو نظام سلطة قبلي كان يتحكم في الإقليم الذي انضم إلى السودان كسلطنة بها أكثر من 30 قبيلة وأكثر من 14 لهجة أفريقية وعدد سكانه الآن يفوق 5 ملايين نسمة أغلبيتهم مسلمين، وليس كما يدعى البعض بوجود صراعات دينية في الإقليم سببها حكومة الإنقاذ، وهو الأمر الذي يحمل تضليل كبير.
وكأي بلد أفريقي تنعدم فيه التنمية بالإضافة إلى الظروف الطبيعية من التصحر إلى ضعف الموارد إلى الرعي، أدت إلى صراعات تتحمل مسؤولياتها الحكومات المتعاقبة التي أنشأت الأزمة بإهمالها الإقليم حتى ازدادت الصراعات القبيلة أضعاف أضعاف ما كانت عليه.
ثم ظهرت بعد ذلك الأبعاد الإقليمية في الصراع بعد دعم تشاد لمجموعة متمردة واستعانة القبائل العربية بالحكومات المركزية السودانية، وبهذا اتخذ الإقليم شكل ملعب إقليمي تدخلت فيه ليبيا في سبعينيات القرن الماضي ضد تشاد أثناء الصراع التشادي الليبي.
كما شهد الإقليم أول استعانة بمقاتلين عرب تابعين للحكومة المركزية السودانية في أوائل الثمانينيات في حكومة “الصادق المهدي”، الأمر الذي يتغافل عنه الكثير في ظل تنامي الوجود الإسلامي في منطقة دارفور في ذلك الوقت حتى انقلاب 1989 بقيادة الإسلاميين الذين عمدوا إلى خلق ولاءات قبلية جديدة وهو ما أغضب البعض داخل الإقليم.
ومن بين الأسباب الحقيقة أيضًا دون تهوين أو تهويل هو ضعف الأداء الأمني السوداني هنا مع انشغال الجيش في عدة حروب بين الجنوب والحدود وغيرها، وهو السبب الرئيسي في سيطرة الحركات المسلحة على مناطق شديدة الخطورة في الإقليم.
وحقيقة الأمر أن الحكومة السودانية الراهنة قد أُرهقت من هذا الصراع وأردات تسوية الأمر في 2006 باتفاق سلام مشروط، ولكن بعض حركات التمرد رفضت الأمر في ظل رفض سوداني لدخول أي قوات أممية على أراضيها.
والخلاصة إن التصور الحقيقي للنزاع في دارفور وأسبابه لا يمكن تحميله لفصيل أو حكومة بعينها دون النظر لسياق الأزمة ككل، لأن بدايته كانت بالتدخل في التركيبات القبلية الذي أفسد الإدارة الأهلية، حيث تدخلت الحكومات المتعاقبة بعد الاستقلال لتغيير القيادات القبلية لصالحها في العمليات السياسية؛ وهو الذي جعل أمر التمرد وارد في ظل فرض زعامات غير مرغوب فيها في مناطق تتسم بالتعصب القبلي، وهو ما تجني السودان ويلاته حتى الآن في ظل المحاولات الحثيثة لاحتواء الموقف المتأزم لئلا يضطر السودان إلى فقدان قطعة منه تحت وطأة ضغط دولي وفشل اقتصادي وسياسي داخلي.