مباشرةً عقب التفجير الذي عكر صفو الحياة في إسطنبول عصر الأحد الماضي وخلف 6 قتلى وأكثر من 80 جريحًا، بدأت رسائل التعازي وتغريدات المواساة تنهال على تركيا من معظم دول العالم، وبينما تلقت أنقرة جميعها بالشكر والترحيب، رفضت قبول تلك التي كتبتها السفارة الأمريكية في تركيا على حسابها الرسمي على موقع تويتر.
جاءت ردة الفعل التركية على رسالة التعزية الأمريكية حادة من وزير الداخلية التركي سليمان صويلو الذي قال: “لا نقبل التعزية من السفارة الأمريكية ونرفضها.. نعرف من يدعم الإرهاب في شمال سوريا، ونعرف الرسالة التي أرادوا إيصالها لتركيا من خلال هذا الهجوم”، وشدد على أن “من يدعم المنظمات الإرهابية شمال سوريا هو من نفذ الهجوم ضدنا”.
مشيرًا بطبيعة الحال إلى الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة لوحدات حماية الشعب الكردية في سوريا (YPG) التي وجهت إليها السلطات التركية مسؤولية تفجير تقسيم بعد إلقاء القبض على المشتبه بضلوعهم في تنفيذ التفجير بعد ساعات معدودة.
من جهتها، ردت السفارة الأمريكية على تصريحات صويلو بتأكيدها الإدانة “بشكل قاطع لكل أشكال الإرهاب” والتعبير عن “التضامن مع تركيا حليفتنا في الناتو”، فيما جدد الرئيس الأمريكي جو بايدن تعازيه لنظيره التركي رجب طيب أردوغان في أثناء لقائهما، الثلاثاء الماضي، على هامش قمة العشرين التي استضافتها إندونيسيا.
وفي ذات اليوم، غرد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على حسابه الرسمي على موقع تويتر شاكرًا جميع الدول والمنظمات الدولية التي أعربت عن تعازيها لبلاده وشاركتها آلامها، ومن ضمنها الولايات المتحدة التي حلت في المرتبة الثالثة على الملصق الذي شاركه مع التغريدة وضم أعلام تلك الدول والمنظمات.
لكنه بالمقابل، أكد أن بلاده ستواصل تنفيذ إستراتيجيتها في القضاء على خطر الإرهاب، مشيرًا إلى أن الدول التي تدعم تنظيم حزب العمال الكردستاني (PKK) وامتداده في سوريا (وحدات حماية الشعب الكردية في سوريا (YPG)) شريكة في الدماء التي أراقها التنظيم.
خلاف تركي أمريكي
خلال مؤتمر صحفي عقد الأربعاء الماضي عقب قمة قادة مجموعة العشرين، قال أردوغان إن الجهات التي تدعم تنظيم YPG/PKK بحجة محاربته تنظيم داعش الإرهابي شريكة في كل قطرة دم أراقها التنظيم، وتابع “لا يوجد أي مستقبل للإرهاب في وطننا ومنطقتنا وسنواصل إستراتيجية اجتثاث الإرهاب من جذوره، وأدعو كل الأصدقاء لوقف دعم هذه التنظيمات الإرهابية”.
وأشار أردوغان إلى أن تركيا تنتظر من جميع أصدقائها وحلفائها أن يدعموا بصدق نضال تركيا المشروع في مكافحة الإرهاب، ومن ضمنهم بالتأكيد الولايات المتحدة التي تحاول تركيا منذ فترة طويلة إقناعها بوقف التعاون المالي والعسكري والاستخباراتي مع حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب الكردية في سوريا لما تشكله من تهديد أمني مباشر على تركيا على طول حدودها الجنوبية مع سوريا.
ومع ذلك، فإن الولايات المتحدة ما زالت مصرة على مساعدة ما تُسمى بـ”قوات سوريا الديمقراطية (PYD)” – التي تقودها الوحدات الكردية في الشمال السوري – وكانت قد تعهدت إلى جانب روسيا بإبعادها عن الحدود التركية بما لا يقل عن 30 كيلومترًا، كشرط لإنهاء عملية “نبع السلام” التركية العسكرية في عام 2019، وهو ما لم يجر بالشكل المتفق عليه من وجهة نظر أنقرة التي لطالما خيرت واشنطن في أكثر من محفل ولقاء بين ما إذا كانت ستتعاون مع التنظيمات الإرهابية في المنطقة أو مع تركيا، حليفتها في الناتو.
أمريكا تدعم بسخاء
إلى جانب تقديم الحماية لهم من خلال إعاقة بدء عمليات عسكرية في الشمال السوري على غرار عملية “غصن الزيتون” عام 2018 و”نبع السلام” عام 2019، تدعم واشنطن قوات سوريا الديمقراطية والمجموعات المرتبطة بحزب العمال الكردستاني المصنف على لوائح الإرهاب في تركيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، بالعتاد والسلاح والتدريب والمشورة العسكرية والاستخباراتية، بالإضافة أيضًا إلى الدعم السياسي والمالي.
ورغم أن معظم الدول الغربية، حلفاء تركيا في الناتو، تعترف بحزب العمال الكردستاني تنظيمًا إرهابيًا، فإنها في نفس الوقت زودته بسهولة وسخاء بأسلحة عديدة ومتنوعة طوال السنوات الماضية، لا سيما مليشياته في الشمال السوري، بحجة أنه يساعدهم في محاربة تنظيم داعش الإرهابي.
وبينما يُزوَّد تنظيم (PKK) في العراق بأسلحة روسية الصنع معروفة بأنها أكثر فاعلية ورخيصة، فإن وحدات حماية الشعب الكردية وقوات سوريا الديمقراطية تحصل بسهولة على أسلحة من بلدان غربية عديدة، مثل الولايات المتحدة وألمانيا والسويد.
ولطالما ندد المسؤولون الأتراك بالكم الهائل من المساعدات العسكرية المتطورة والحساسة التي ترسلها الولايات المتحدة إلى وحدات الشعب الكردية ومليشياتها في الشمال السوري، التي بحسب أردوغان يصل عددها إلى “آلاف الشحنات”، ناهيك بالأسلحة التي تستخدمها التنظيمات الإرهابية لاستهداف الأراضي التركية، التي كشف الجيش التركي أكثر من مرة أن مصدرها يعود إلى السويد وألمانيا.
هذا إلى جانب مشروع الميزانية الخاصة التي خصصتها وزارة الدفاع الأمريكية في عام 2023 بمبلغ 450 مليون دولار لبرنامج تدريب وتجهيز قوات الأمن العراقية و”البيشمركة” الكردية، بالإضافة إلى قوات سوريا الديمقراطية (PYD).
سياسة الكيل بمكيالين
في يوليو/تموز 2021، أدرجت وزارة الخارجية الأمريكية تركيا على قائمة الدول التي تمارس تجنيد الأطفال، وذلك من خلال دعمها لفرقة “السلطان مراد” التابعة للجيش الوطني السوري التي تجند الأطفال ونقلت أنقرة مقاتليها إلى ليبيا وأذربيجان.
تركيا من جهتها اعتبرت هذه الاتهامات “مثالًا صارخًا على النفاق وازدواجية المعايير”، ولم تكتف أنقرة بالتنديد وحسب، بل ساقت لواشنطن اتهامات مشابهة، مشيرة إلى الدعم الأمريكي السخي للتنظيمات الإرهابية التي تجند الأطفال في سوريا والعراق.
وأشارت وزارة الخارجية التركية إلى أنه لا يجوز لواشنطن توجيه هكذا اتهامات ضد تركيا، خصوصًا أن الولايات المتحدة ما زالت مستمرة بتقديم الدعم العلني لتنظيم (PKK/PYD) الذي يخطف الأطفال ويجندهم قسرًا في عملياته الإرهابية بسوريا والعراق، ويستخدم كذلك المدارس لأغراض عسكرية تحت مرأى الولايات المتحدة والدول الأوروبية والأمم المتحدة، وهو الأمر الذي وصفته الخارجية التركية بـ”ازدواجية معايير جلية ودليل على نفاق واشنطن”.
وتوثيقًا للاتهامات التركية، أشار تقرير حديث أعدته وزارة الخارجية الأمريكية وقدمته للكونغرس في إطار قانون حماية ضحايا تهريب البشر، إلى ممارسات تنظيم (PKK/PYD) الإرهابي، بشأن تجنيد أطفال خلال الاشتباكات الدائرة في سوريا والعراق.
وعلى الرغم من تصريحات أمين عام حلف الناتو ينس ستولتنبرغ، مطلع يونيو/حزيران الماضي بأن دول الحلف الـ30 جميعها جاهزة لمعالجة مخاوف تركيا الأمنية المتعلقة بتنظيم PKK الإرهابي، وذلك ضمن محاولاتهم الحثيثة لإقناع تركيا بالعدول عن قرارها الرافض مسبقًا لانضمام السويد وفنلندا إلى الحلف، فإن واشنطن ما زالت تصر حتى اليوم على أن دعمها لقوات سوريا الديمقراطية ينصب ضمن مساعيها لمحاربة الإرهاب، مشيرةً إلى أن هذه القوات لا تضم الأكراد وحسب، بل تضم فصائل عربية أيضًا.