ترجمة حفصة جودة
ستدخل قطر التاريخ قريبًا، ففي يوم الأحد ستصبح أصغر دولة تستضيف أكبر حدث رياضي عالمي، ولاستيعاب الفَرق فكّر في الدول الكبيرة التي استضافت كأس العالم للفيفا من قبل: روسيا والبرازيل.
ورغم أن القوة الناعمة والقوة الذكية للدبلوماسية القطرية لهما الفضل في الكثير للوصول إلى هذه اللحظة، إلا أن كأس العالم يستحق النظر إليه من خلال ما هو أوسع من عدسة العلاقات الدولية، فكما قال باحثو ما بعد الاستعمار، مثل إدوارد سعيد وجاياتري سبيفاك، إن الخيال الغربي الأمريكي قد قرر لفترة طويلة ما هو جيد، وحدّد كيفية تمثيل الشرقيين “الآخرين”.
يقدّم كأس العالم فرصة لإعادة ضبط هذه الروايات، ورغم كل شيء هناك أمر ما ساحر بإقامة كأس العالم في قطر، فمنذ فوزها بقرعة استضافة النسخة الـ 22 من كأس العالم، كانت الدوحة تعدّ نفسها لهذا الحدث العالمي.
استغلت قطر كل دخلها من الصناعة الهيدروكربونية لتطوير البنية التحتية للبلاد، خاصة الطرق ووسائل المواصلات والتكنولوجيا، لقد تحوّل القطريون إلى مستخدمين شرهين لتكنولوجيا المعلومات، وواصلت الدوحة التطويرات بوتيرة سريعة لتتحول من قرية لصيد اللؤلؤ إلى مدينة ذكية وموطن للمجتمعات المغتربة المتنوعة.
لقد أصبحت مجهّزة بأحدث التقنيات، ما قدّم للقطريين اتصالًا رقميًّا أسرع وأسهل، سواء في الحوكمة الإلكترونية أو النظام المصرفي الفعّال أو الصحة.
ورغم أنه من المفترض أن تلهم ملاعب كرة القدم الوحدة الدولية والروح الرياضية، إلا أنه لا مفرّ من بعض الإنشاءات المختلفة في هذه المواجهات العالمية مثل أكبر حدث عالمي لكرة القدم، وفي هذه الحالة كُشفَ عن حملة ممنهجة قاسية متحيزة عنصريًّا في الغرب ضد قطر في السنوات التي سبقت كأس العالم.
وصلت كرة القدم قطر من خلال الاستعمار، عندما كانت خاضعة للوصاية البريطانية من عام 1916 وحتى عام 1971.
كيف نفسّر تشويه السمعة الذي تتعرض له قطر كما لم تتعرض له أي دولة مضيفة من قبل؟ فلم تتعرض الدول الصغيرة ذات الطقس القاسي مثل سويسرا عام 1954 لذلك، ولا الدول العظمى مثل الولايات المتحدة حيث استضافت لوس أنجلوس نهائي كأس العالم عام 1994 بعد عامَين فقط من أسوأ الاضطرابات العرقية في البلاد منذ عقود.
لم يتعرّض لذلك أيضًا نظام موسوليني الفاشي، ولا المجلس العسكري الأرجنتيني الوحشي، ولا البرازيل حيث هُجّر الناس الذين يعيشون في الأحياء الفقيرة كمحاولة من البلاد إخفاء فقرها عن المشجعين القادمين لأجل كأس العالم 2014، ولا روسيا التي استضافت كأس العالم 2018 وسط ارتفاع نسبة رهاب المثلية.
هذه الدول لم تكن سوى مضيفين شرعيين، بغضّ النظر عمّا فعلوه، لأنهم بطريقة ما ينتمون إلى كرة القدم، لكن على النقيض من ذلك، نُظر إلى قطر بازدراء بعد فوزها بالقرعة وعوملت كدخيل على حزب النخبة.
في الحقيقة، مثل بقية الدول العربية والآسيوية والأفريقية ووسط وجنوب أمريكا، وصلت كرة القدم قطر من خلال الاستعمار، عندما كانت خاضعة للوصاية البريطانية من عام 1916 وحتى عام 1971.
بدأت شركة “APOC”، والتي أصبحت لاحقًا “BP”، بالتنقيب عن النفط وإنتاجه في أواخر الثلاثينيات، وتبعتها كرة القدم في الأربعينيات، وكان استاد الدوحة أول ملعب كرة قدم بأرضية عشبية في منطقة الخليج، وبدأت مسابقات الدوري في الستينيات قبل عدة سنوات من الاستقلال.
للمفارقة، لم تخبرنا دراسات ما بعد الاستعمار الكثير عن كرة القدم، رغم أن الكثير من الأحياء الفقيرة في المستعمرات السابقة أنتجت نجومًا كبارًا مثل بيليه من ساو باولو، ورحيم ستيرلينغ من كينغستون في جامايكا، وقد قام العديد من اللاعبين العرب -من رابح ماجر الجزائري إلى محمد صلاح المصري- برحلات مشابهة إلى الأندية الأوروبية الغنية.
اعتاد القطريون على العيش مع الأجانب، لذا كأس العلم مجرد فرصة أخرى لإظهار تقاربهم مع التعددية الثقافية ومواجهة النمط الغربي لـ”المسلم المتعصّب”.
لا يجب أن يكون كأس العالم لكرة القدم مجرد ممارسة بشكل جديد من المحاكاة الثقافية للقوى الاستعمارية السابقة، فحتى كرة القدم في الغرب تكافح لمعالجة العنصرية، حيث تعرّض اللاعب البرازيلي ريتشارليسون لإلقاء الموز عليه في مباراة ودية بباريس.
قد تساعد النسخة القطرية من كأس العالم في إنهاء التفكير المتحيز الاستعماري حول المجتمعات العربية والمسلمة، باستخدام ثقافاتهم المتنوعة لإثراء تلك التجربة العالمية لكرة القدم.
فعلى سبيل المثال، خلو الملاعب القطرية من المشروبات الكحولية أثناء كأس العالم، سيسمح لقطاع أوسع من الناس بالقدوم إلى المباريات دون قلق من العنف والعنصرية والبذاءة التي تسبّبها المشروبات الكحولية، والتي تعدّ شائعة في ملاعب كرة القدم الأوروبية.
وبينما تستضيف قطر مشجّعين من كل أنحاء العالم، فيمكنها أن تقدم طرقًا بديلة للاستمتاع بالرياضة، تلك التي لا تستورد التجربة العامة لمشجعي كرة القدم بينما تتجاهل القيم المحلية لقطر.
اعتاد القطريون على العيش مع الأجانب، لذا كأس العلم مجرد فرصة أخرى لإظهار تقاربهم مع التعددية الثقافية ومواجهة النمط الغربي لـ”المسلم المتعصّب”، مثلما رأينا مؤخرًا في الكاريكاتير الفرنسي العنصري المعادي للإسلام، وهو يصور المنتخب الوطني لقطر.
بتقديم رواية بديلة للطريقة التي ينظر بها الغرب إلى العالم الإسلامي وكرة القدم، قد يساعد كأس العالم هذا في نزع الصبغة الاستعمارية عن لغة الرياضة، فـ”كرة القدم الأوروبية” ليست بيضاء، وكرة القدم “العربية” أو “الإفريقية” ليست دلالة على العرق واللون، هذه العلامات اُستخدمت كرموز للأجناس والأعراق المهيمنة عند تغطية أحداث الرياضة.
من خلال كأس العالم في قطر، يمكن “للعبة الحلوة” أن تساعد في تقويض الميول الاستعمارية والنرجسية الثقافية في عالم متعدد الثقافات.
هنا يمكن لما بعد الاستعمار أن يكون ترياقًا، وذلك بوضع الدولة التي كانت مستعمرة بينيًا سابقًا في عوالم وتوقعات مختلفة، يمتلئ العالم العربي بعقول أدبية واجهت تمثيلات نمطية ولقاءات غير متاكفئة في عملها.
يمكن لذلك أن يكون إلهامًا، حيث يبدو أن المنطقة تستضيف العالم وفقًا لشروطها، وقد سلّط الكاتب السوداني الطيب صالح في روايته “موسم الهجرة إلى الشمال”، الضوء على جوهر تلك البينية التي تحدث عنها الكاتب الهندي هومي بهابها.
صاغ الروائي السعودي اللامع عبد الرحمن منيف مصطلحًا خاصًّا وهو “التيه”، وروايته المركّبة الكلاسيكية المكوّنة من 5 أجزاء “مدن الملح” تعدّ واحدة من أفضل الأمثلة على الدراسات الأدبية لما بعد الاستعمار، فهي تحكي عن الخراب السياسي والاقتصادي والبيئي والثقافي عندما التقى المستعمِر الجديد (الرأسمالية الأمريكية والدولارات النفطية) مع المستعمَر الجديد (الخليج).
هذه الكتابات تذكرنا جيدًا بأن استضافة وتنظيم كأس العالم هو مناسبة لما هو أكثر من التباهي بالحياة الغربية.
في الحقبة الاستعمارية، عزز العرب مقاومة الاستعمار بارتداء الملابس المحلية والتأكيد على الحفاظ على العادات الثقافية وغيرها من الأشياء، واليوم يرتدون “الثوب” العربي المصنوع من الأقمشة القادمة من اليابان، يعكس ذلك مزج المحلي بالعالمي، بطريقة تسمح لقطر والعالم العربي الاستفادة من ذلك بينما تستضيف المنطقة أكبر حدث رياضي.
ينبغي أن يكون كأس العالم مساحة مشتركة للحداثة الجديدة التي ليست بيضاء ولا استعمارية، حداثة تتحدث عن قيم التسامح العربية والآسيوية والأفريقية واللاتينية وقيم السكّان الأصليين وحقوق الإنسان والحوكمة الرشيدة، وتكافح النمطية التي تُدفع نحو الجنوب العالمي.
هذه الحداثة تسعى نحو العدالة وعالم غير استعماري، وتقاوم التسلسل الهرمي الاستعماري الجديد، وتطالب بحق تقرير المصير الثقافي، وتؤكّد على المستقبل المشترك والاحترام على أساس الاحترام المتبادل.
من خلال كأس العالم في قطر، يمكن “للعبة الحلوة” أن تساعد في تقويض الميول الاستعمارية والنرجسية الثقافية في عالم متعدد الثقافات.
المصدر: الجزيرة الإنجليزية