ترجمة وتحرير: نون بوست
عندما كشف الاتحاد الدولي لكرة القدم “الفيفا” في وقت سابق من هذا العام عن تميمة كأس العالم “لعيب” – التي تعني “اللاعب الماهر” – أوقفني نطقه الإنجليزي بلكنة عربية حيث تظهر مخارج الحروف الإنجليزية “t” و”d” و”r” أن أصوله عربية. كما تناوب “لعيب” أيضًا على استخدام الإنجليزية والعربية في الفيديو الترويجي للبطولة، وهي ظاهرة لغوية نموذجية بالنسبة للمتحدثين باللغتين العربية والإنجليزية.
فكرة “لعيب” مستوحاة من غطاء الرأس الخليجي الشهير “الغُترة”، وهو رمز ثقافي قوي متجذر تاريخياً في المنطقة. لكن الجوانب الثقافية لبطولة كأس العالم في قطر لا تقتصر على تميمته فحسب، بل تشمل أيضًا تصاميم الملاعب وأسماءها المتأصلة في العمارة والتراث العربي والإسلامي.
تكتسي كل هذه العناصر الثقافية رمزيةً عميقة تؤكد الهوية العربية لقطر، على عكس ما يعتقده الكثيرون بأن هذه الهوية مهددة من قبل الأعداد الهائلة من المقيمين الأجانب في قطر، هذا إلى جانب القلق الثقافي الناتج عن قدوم الأجانب إلى هذه البلد المحافظ.
يبرز تناقض كبير في هذه الحالة: فهذا الحدث العالمي ينطوي على توافد زوّار بلغات وثقافات متنوعة يعتبر أيضًا تهديدًا – سواء كان فعليًا أو تصوريًا – للتراث والهوية القطرية. يتضح هذا القلق بشأن الهوية من الموقع الرسمي لكأس العالم قطر 2022، الذي يضم قسمًا للتوعية الثقافية يُستهل بعبارة: “يتميز المجتمع القطري بطابع محافظ – لكنه منفتح على الثقافات والحضارات العالمية”.
يقدم هذا الموقع قائمة للزائرين بما هو مرغوب وممنوع فيما يتعلق باللباس والسلوك في المرافق العامة واستهلاك الكحول والتصوير الفوتوغرافي. وقد ظلت هذه الاهتمامات بالثقافة والتراث في قطر جزءًا من الخطاب العام لبعض الوقت.
في سنة 2014، أطلق مركز قطر للأنشطة التطوعية – وهو منظمة غير حكومية – حملة توعية ثقافية بعنوان “اعكس احترامك”؛ حيث تم توزيع منشورات على غير المواطنين تحتوي على معلومات حول ارتداء الملابس المحتشمة في الأماكن العامة، وظهر ملصق مشابه على منصات التواصل الاجتماعي الشهر الماضي يوضح السلوكيات الاجتماعية التي يجب تجنبها. وقد سارع منظمو كأس العالم إلى توضيح أنها ليست من مصدر رسمي وأنها تحتوي على معلومات خاطئة.
اختلال ديموغرافي
تنبع المخاوف بشأن الهوية الثقافية من اختلال التوازن الديموغرافي في دول مجلس التعاون الخليجي، وهو اتحاد إقليمي يضم ست دول منتجة للنفط والغاز. من السمات المميزة لدول هذا المجلس أن غير المواطنين يشكلون ما يزيد قليلاً عن نصف إجمالي السكان، وهو ما يفوق عدد المواطنين المحليين الناطقين باللغة العربية.
وعلى وجه الخصوص، يعتبر عدد المواطنين الأجانب في قطر والإمارات مرتفعًا بشكل مذهل، حيث يشكل المواطنون العرب أقل من 15 بالمئة من إجمالي السكان في كل منهما. تتطرق العديد من الصحف العربية في كثير من الأحيان للمخاطر التي يشكلها وجود غير العرب على اللغة والثقافة العربية، وتم ترديد هذه المخاوف بشأن الهوية والتراث في “رؤية قطر الوطنية 2030” كأحد التحديات التي تواجه الدولة.
إلى جانب هذا الاختلال الديموغرافي، يُنظر إلى اللغة وخاصة اللغة الإنجليزية على أنها تهديد محتمل. أدى التنوع الديموغرافي إلى اعتماد فعلي للغة الإنجليزية كلغة مشتركة للتداول بين العرب وغير العرب، كما تم اعتمادها كلغة للتعليم الابتدائي والثانوي والعالي، رغم تراجع استخدامها في الآونة الأخيرة في “جامعة قطر”.
كما أن العديد من إعلانات الجهات الحكومية القطرية الموجهة للجماهير الدولية تكون باللغة الإنجليزية، وجرى إنتاج فيديو السلامة على متن الخطوط الجوية القطرية، الذي يظهر فيه نجوم كرة القدم مثل روبرت ليفاندوفسكي ونيمار، باللهجة الإنجليزية الأصيلة، كما هو الحال مع فيديو الشركة نفسها، في احتفالها بمرور 25 عامًا على تأسيسها.
سيكون كأس العالم في قطر الحدث الأول الذي يجلب مجموعة من اللغات والثقافات الأجنبية إلى بلد يكافح منذ فترة طويلة للتوفيق بين الحاجة إلى العمالة الأجنبية في مشاريع تنموية ضخمة، والخوف (الحقيقي أو التصوري) من التدهور الثقافي.
رسالة “التميمة”
جميع التمائم التي شهدتها نسخ كأس العالم تحمل رسائل معينة. كان “الأسد ويلي” أول تميمة في تاريخ المونديال، حين استضافته المملكة المتحدة في سنة 1966 ليمثّل الهوية البريطانية للجماهير من خلال علم بريطانيا على قميصه.
وفي كأس العالم 1970 بالمكسيك، اعتُمد “خوانيتو” وهو طفل يرمز لمشجعي كرة القدم المكسيكية. واختارت مضيّفة كأس العالم لسنة 1994، الولايات المتحدة، كلبًا يرتدي قميصًا أحمر وأبيض وأزرق مع عبارة “أمريكا 94”. وكان الذئب “زابيفاكا” التي تعني “الهداف” تميمة كأس العالم 2018 في روسيا.
وفي حين أن رمزية التمائم السابقة كان موضوعها يدور حول كرة القدم نفسها، فإن “لعيب” يتجاوز ذلك ويمثل رمزًا ثقافيًا مع بعض التعقيد، فالاسم والتصميم واختيار اللكنة يرمز إلى الثقافة والهوية العربية، وتحتوي كلمة “لعيب” على حرف ذي صوت عربي فريد من نوعه وهو حرف “العين”.
وبما أن الفيديو الترويجي موجّه للجمهور العالمي، لا يتحدث لعيب باللغة العربية – اللغة الرسمية لدولة قطر – وإنما باللغة الإنجليزية بلكنة عربية. وحين ينطق “لعيب” حرف “t” في كلمات مثل “footbal”، تحسّ بأنه حرف عربي وفقًا لمخارج الحروف، وكذلك نطقه لحرف “r”.
في بداية الفيديو، يُدرج “لعيب” عبارة باللهجة القطرية “تدري شلون” (تعرف كيف)، قبل أن يشرح أنه جاء من عالم موازٍِ يُعرف باسم التميمة. واللافت للنظر هو أن العبارة لم تترجم حتى إلى اللغة الإنجليزية، مما يعكس أنماط المحادثة الفعلية بين الناطقين باللغتين العربية والإنجليزية في قطر والعالم العربي.
شكل “لعيب” ولونه مستوحى من الغُترة العربية البيضاء التقليدية، ملفوفة بحبل أسود يسمى “المعدِّل أو المسوي”، وهما قطعتان لهما أهمية قوية في الثقافة العربية. في هذا الصدد، يوضح منتصر الحمد، مؤلف كتاب “الإيماءات والإشارات” قائلًا: التواصل غير اللفظي في الثقافة القطرية يشير إلى أن رفع “المسوي” عالياً يدل على احترام القائد، أمّا عدم ارتدائه فيرمز إلى الحداد. وأما لفّه حول العنق فيرمز لفقدان الشخص للاحترام والكرامة في مجتمعه، حيث كان شائعًا في المحاكمات القبلية، أن يُجبر المتهم بارتكاب جريمة، على لفّه حول عنقه إلى أن تثبت براءته.
يتم تعزيز هذه الرموز اللغوية والثقافية الدقيقة من خلال التصميم المعماري لملاعب كأس العالم أيضًا. “ستاد البيت”، الذي يستضيف المباراة الافتتاحية بين قطر والإكوادور في 20 تشرين الثاني/ نوفمبر، صُمّم على شكل الخيمة العربية التقليدية. أما “ستاد لوسيل”، الذي سيستضيف النهائي الكبير، مصمم على شكل شراع السفن المستخدمة في جميع أنحاء العالم العربي والإسلامي. وتصميم “ستاد الجنوب” على شكل زورق شراعي، وهو قارب تقليدي يستخدم في الغوص بحثًا عن اللؤلؤ أو في صيد الأسماك.
وفي الوقت الذي تتطلع فيه إلى الترحيب بمنتخبات كرة القدم، وبالمشجعين من جميع أنحاء العالم، بلغاتهم وهوياتهم المختلفة في أحد أكبر الأحداث الرياضية الدولية؛ تحاول قطر أن تضمن بأن ثقافتها وهويتها ترتكز بقوة على الإرث الكبير للثقافة القطرية والعربية والإسلامية. وطالما أن التاريخ سيخلّد نهائيات كأس العالم لأسباب مختلفة، تريد قطر أن تترك بصمة من تراثها وهويتها.
المصدر: ميدل إيست آي