ترجمة وتحرير: نون بوست
غير مبالين بما أصابهم من إعياء، كان الأطفال رغم كون الأم المريضة بعيدة عن الأنظار تتشبث بطوافة الماء يحافظون على صلابتهم وسط مياه الفيضانات التي تصل إلى مستوى أعناقهم، وكانت الفتيات الأكبر سنًا اللاتي وصلت المياه إلى صدورهن يسحبن طوافة تحمل كل ما تبقى لهن في العالم: زوجان من الدجاج، وبعض الكراسي البلاستيكية، ودلاء، وسكين، وبعض الخرق والملابس. لقد كانوا مرهقين وخائفين من الأفاعي التي انزلقت من حولهم في الماء، لكنهم استمروا في المضي قدمًا. وكان والدهم الذي كان يحمل أخاهم الرضيع يشق طريقه ببطء نحو الأمام.
صرخت الأخت الكبرى نيالول وانغ (28 عامًا) قائلة: “لقد سئمنا من الماء”. لم تكن تعرف أين وجهتهم وكلوا ما أرادوه هو العثور على أرض جافة لكن ذلك لم يكن سهلا نظرًا لأن الماء كان يغمر مئات الكيلومترات من الأراضي في كل الاتجاهات.
كنا نستقل مركبة برمائية تابعة لبرنامج الأغذية العالمي للأمم المتحدة عندما التقينا بهذه العائلة. كانت المركبة مزودة بإطارات كبيرة تمكنها من إيصال كمية كبيرة من الإمدادات الغذائية في الأهوار والمستنقعات. ضاق الممر المائي الذي قمنا بحرثه في الأفق. وفي الأوقات العادية، كان الطريق ترابيًا يُمكن قطعه مباشرة عبر الأدغال من مدينة بانتيو في ولاية أعالي النيل في جنوب السودان إلى نهر لول، على مسافة حوالي 50 كيلومترًا.
لم تكن هذه الأوقات عاديةً. شهد جنوب السودان أمطارًا تهطل مرة كل قرن في سنة 2019، ثم مرة أخرى في سنة 2020. وفي آب/ أغسطس 2021، ومع تشبع الأرض حتى بعد متوسط هطول الأمطار، غمرت المياه النيل الأبيض. وقد فاضت ضفاف نهر لول لتشهد البلاد أسوأ فيضانات منذ 60 سنة. يوجد هنا حوالي مليون شخص من بين النازحين بشكل دائم في العالم بسبب تغير المناخ معرضين بالتناوب لخطر الفيضانات والجفاف.
يغذي النيل رافدان رئيسيان؛ النيل الأزرق الأقصر والأكثر ضخامة القادم من المرتفعات الإثيوبية، والنيل الأبيض الأطول والأكثر تعرجًا القادم من بحيرة فيكتوريا، ثم ينقسم إلى قنوات لا حصر لها في الأراضي المسطحة في منطقة السُّد قبل أن يتدفق شمالا لينضم إلى النيل الأزرق في الخرطوم. وقد اجتاحت فيضانات السنة الماضية جميع السيول والجداول التي تصب في منطقة السُّد، وهي أرض رطبة في وسط جنوب السودان تمتد على حوالي 57 ألف كيلومتر مربع – وهي ضعف مساحة بلجيكا.
السُّد الواسع
هطلت الأمطار تزامنًا مع استعداد قادة العالم والدبلوماسيين للاجتماع في مصر في إطار مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي 2022 هذا الشهر. أفادت بعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان بأن السُّد الذي أقيم لحماية مخيمات النازحين من ضحايا الفيضانات قد غمرته المياه مرة أخرى. يتضمن جدول أعمال الأمم المتحدة “الخسائر والأضرار“، وهو نهج قد تسعى من خلاله الدول النامية الأكثر عرضة للظواهر المناخية المتطرفة إلى الحصول على تعويضات من الباعثين الأثرياء. وإذا توفّر التمويل اللازم لتغطية الخسائر المناخية في أي وقت، فقد توجه إلى هذه المنطقة – أي إذا ما كانت الحكومة ووكالات الإغاثة قادرين على إنفاق الأموال.
يضم السُّد الواسع والراكد وغير القابل للاختراق والخطير عددًا قليلًا من المباني، ولم يبقى شيء من الهياكل المبنية من الطوب من فترة الاستعمار البريطاني. يلتقي مفوضو المقاطعات بالمجتمعات تحت شجرة. ويقول وزير خارجية جنوب السودان مايك دينج: “لقد خذلْنا الناس هناك”.
كل خرائط السُّد قديمة: ينقسم النيل الأبيض إلى مئات القنوات التي تختنق بورق البردي وتتغير مع كل موسم. وتستند الافتراضات حول تدفق المياه والنتح إلى النمذجة قبل استقلال جنوب السودان في سنة 2011. ولا يوجد سوى عدد قليل من محطات الهيدرولوجيا العاملة مع غياب البحوث الميدانية.
مع ذلك، يعد السُّد أحد أغنى الأنظمة الحية على هذا الكوكب وموطن ثاني أكبر هجرة للحيوانات في إفريقيا، بعد سيرينغيتي. وقد قدّر مسح أجراه دعاة الحفاظ على البيئة وجود 8 آلاف فيل و1.1 مليون من ظباء الكوب أبيض الأذنين، وخلف حياة الطيور الوفيرة تكمن أرض استوائية تعادل 3 جيجا طن من الكربون.
يقول دانيال أكيش، عالم رياضيات من جنوب السودان يقود مبادرة إقليمية للحفاظ على السُّد: “من أجل الأشخاص والطبيعة، من الضروري أن نفهم السُّد بشكل أفضل ونحميه”.
وصل عمال الإغاثة من برنامج الأغذية العالمي إلى نهر لول بحثًا عن مجتمعات معزولة تحتاج إلى مساعدة طارئة. وقد وجدوا في كل ارتفاع طفيف للأراضي الجافة بالغين وأطفالا يخيمون في الخارج. وقد كانت هذه الأماكن هشة وغير مستقرة، ويبلغ ارتفاعها مترا وعرضها بضعة أمتار، تربتها سوداء جراء حرق الفحم، وتفوح منها رائحة نتنة بسبب الأسماك التي كانت تُنشر وتُعلق حتى تجف دون أن يتم تمليحها.
كانت المياه سوداء مثل النفط ولا تزال كذلك. وعلى عمق عدة أمتار، غرقت تلال النمل الأبيض، ومُحيت الأكواخ والحفر والنفايات والممرات العارية عبر الأدغال. كانت المساحات الخضراء المضيئة، والبجع، والرافعات، ونسور الأسماك، والنحل، والثعابين، والقواقع بحجم قبضة اليد، وكل تلك الخضرة والحياة عكس الأرض القاحلة التي تخيلها الجميع. ولكن الناس لم يكن لديهم أي مكان يلجؤون إليه.
يمكن البقاء على قيد الحياة بدون مأوى وغذاء كاف، وهو ما يتطلب استنزاف موارد المناطق المحيطة لأن الطاقة المطلوبة لغلي الماء تتطلب جمع الوقود الحيوي مثل الروث والعشب والخشب والفحم. ويمكن أن يقع نفس الضرر بفقدان الماشية، حيث ستستغرق العائلات ست أو سبع سنوات لتعويض الأبقار التي هلكت في الفيضانات. وحتى ذلك الحين، لن تتمكن العديد من العائلات من تأمين 20 بقرة، وهو ما يُعد ضروريا لتأمين عقد زواج حتى لواحد من أطفالها. وعليه، يشعر الخبراء بالقلق من أن الهجرة الموسمية لـ 40 مليون رأس من الماشية في جنوب السودان على مسافات أكبر من أي وقت مضى – ستنشر المزيد من الأمراض بين الماشية الضعيفة الباقية على قيد الحياة.
قد يكون انعدام الأمن مصدر قلق أكبر؛ فمع اشتداد دورة الفيضانات والجفاف حول منطقة السُّد، من المرجح أن تصبح تربية الماشية أكثر صعوبة. وتعني الفيضانات عدم وجود محاصيل، ولا حيوانات، ولا مأوى، والاعتماد على المساعدات الغذائية.
يقول مسؤولو الأمم المتحدة المشرفون على الإغاثة الطارئة إنه لا يمكن الوصول إلى العديد من المجتمعات في السُّد ولا يزال الوضع متوترا: فقد منع المسلحون مرور المراكب التي تحمل الطعام إلى بعض المناطق التي كانت تعاني من الجوع. ومع انحسار المياه، حدثت غارات مميتة للاستيلاء على الماشية، حيث قتل رجال قبائل الدينكا والنوير والمورلي أعداءهم بأسلحة رشاشة وأحيانا كانوا يسرقون الأطفال مع الأبقار.
لطالما تكيفت الشعوب التي تعيش على ضفاف النيل مع الأمطار وموجات الجفاف التي تشهد توسع السُّد وانكماشه مرة أخرى. ولكن الظروف تغيرت. زادت التدفقات في النيل الأبيض جنبًا إلى جنب مع ارتفاع درجة حرارة سطح المحيط الهندي، مما أدى إلى هطول مزيد من الأمطار في حوض بحيرة فيكتوريا. ووفقا للأمم المتحدة، نزح ما لا يقل عن 800 ألف شخص بسبب الفيضانات في منطقة السُّد وما حولها، حيث تضم المخيمات في بانتيو حوالي 200 ألف شخص.
إن الحرارة والملاريا والطفيليات المعوية ومرض النوم الذي ينقله ذباب تسي تسي من العوامل التي تفسّر الخمول في مخيم هاي سلام في بنتيو. ولكنه في الغالب الجوع الذي يعاني منه الجميع؛ ففي جميع أنحاء جنوب السودان، يعاني 1.3 مليون طفل من سوء التغذية ويواجهون أضرارا طويلة الأمد على مستوى النمو البدني والعقلي.
يحصل الأطفال على كوب من العصيدة في الصباح وآخر في المساء، بينما يتناول الكبار حصة أقل. وقد كان الناس في حي سلام مترددين فيما بشأن طهي الأسماك التي يتم صيدها في مياه الفيضانات بسبب شائعة تلوثها من حقول النفط القريبة المملوكة للصين. ومن المرجح أن المرض قد انتشر من براز الإنسان والحيوان الذي يخترق الغبار وينتقل في الهواء ومن الأبقار الميتة التي تتعفن خارج الخيام.
أظهر جيمس مانياروب، 51 سنة، إحدى أبقاره ملتوية في بركة من نفاياتها وتلفظ آخر أنفاسها قائلا: “كان لدي 200 بقرة، نفقت خمسون ويموت العديد منهم الآن”.
إن نفس الأمر يحدث مع جميع الأبقار، يفشل الكبد في تصفية مياه الفيضانات وتتأثر الأمعاء إلى أن ينهار الحيوان. لا يمكن رؤية العشب في المخيم. وهي سمة من سمات النزوح الناجم عن تغير المناخ، حيث يزدحم البشر في أماكن لا يمكن لثقافتهم واقتصادهم التأقلم معها.
عبرت مجموعة المساعدة التابعة للأمم المتحدة نهر لول، الذي كان عريضًا ويتدفق عكس التيار، لتجد على أرض مرتفعة في ضفة النهر بضعة أكواخ عشبية مخروطية الشكل تقليدية للنوير كانت أكبرها الحظيرة. في الأوقات الأكثر سعادة، كان من الممكن أن تمتلئ الحظيرة بالأبقار، حيث تُربط كل واحدة بعمود خشبي. ولكن لم يبق هناك أبقار على قيد الحياة، وكانت الحظيرة فارغة بشكل مخيف.
هرب سكان الأكواخ الأصليين وتركوا وراءهم العديد من النساء و30 طفلاً كانوا بالكاد على قيد الحياة. أصيب أحد الأطفال بالغرغرينا على أثر لدغة أفعى وأصيب آخر بكسر في الجمجمة، فيما أصيب آخرون بالصرع والربو. لم يذهب الأطفال إلى المدرسة أبدًا. لقد عاشوا على الأسماك وبذور زنابق الماء والفلفل البري. كان الخوف الأكبر لدى النساء هو أن يتضور الأطفال جوعاً، لكن الرحلة عبر الفيضان إلى مدينة بينتيو – الملاذ الوحيد الفعلي في المنطقة – للتسجيل في الحصص الغذائية كانت بعيدة للغاية بالنسبة لهن.
من غير الواضح ما الذي سيحدث في السنوات المقبلة لأشخاص مثل أولئك الذين يعيشون حول السُّد حيث تبدو الاحتمالات المباشرة كارثية. وحتى معدل هطول الأمطار يعني أن الكثير من الأراضي المحيطة بالسُّد لا تزال غارقة ولن يتمكن الناس من العودة إلى قراهم أو زراعة المحاصيل للموسم المقبل.
في ولاية جونقلي، على الضفة الشرقية لنهر النيل، تقول منظمة أطباء بلا حدود إن المجاعة باتت وشيكة حيث يقوم الأهالي بإطعام أطفالهم أوراق الأشجار، مع الافتقار إلى المأوى أو المياه النظيفة. إن دوامة التأثير بطيئة ومتقلبة، حيث يُترك الناس حول السُّد لمواجهة كل من تغير المناخ وحكومة تفتقر إلى المال والقدرة على خدمة شعبها.
أكثر من 90 في المائة من عائدات جنوب السودان تعتمد على واردات النفط. يقول المعارضون إن معظم الأموال تُنفق لسداد الديون وعلى الخدمات المقدمة للشركات التابعة للحكومة. تقدر مجموعة الأزمات الدولية أن جنوب السودان يحقق مداخيل من 45 ألف برميل من أصل 140 ألف برميل تقريبًا ينتجها يوميًا.
غالبًا ما تتأخر الحكومة في تسديد الرواتب الزهيدة لسنوات ويتم تسويتها على مدفوعات آجلة بناءً على مبيعات النفط بعد عدة سنوات مقبلة. وكان القتال على عائدات النفط أحد أسباب الحرب الأهلية التي اندلعت سنة 2013 والتي راح ضحيتها 400 ألف شخص.
يعد الفشل في الخروج من الحرب أحد الأسباب التي جعلت المانحين بقيادة الولايات المتحدة يسأمون من تقديم الدعم لجنوب السودان. الجميع قلق بشأن انعدام الأمن وتنصح الحكومات الغربية بعدم السفر إلى جنوب السودان. والأجانب القلائل الذين ينجحون في ذلك يتعثرون بسبب التصاريح والابتزاز والتهديدات بالاختطاف.
تنتشر المعارك في كل أنحاء البلاد، بما في ذلك سلة الخبز في الجنوب. معظم عمليات القتل كانت بسبب حقوق المياه والرعي أو قطع الطرق مما يمنع الناس من التنقل ليلاً. وحوالي 100 ألف جندي يجلسون في المعسكرات دون طعام أو دواء أو رواتب.
هناك كل الأسباب التي تدعو إلى الاعتقاد بأن برنامج الغذاء العالمي، العمود الفقري لعمليات الإغاثة الإنسانية للأمم المتحدة، هو أفضل وربما القناة الوحيدة لنهج أكثر مستقبلية للتكيف مع المناخ. يطعم برنامج الأغذية العالمي 7.7 مليون جنوب سوداني – أي 63 في المئة من إجمالي السكان، وما يقارب 100 في المئة في المناطق التي غمرتها الفيضانات.
في غياب الحكومة، يتعين على برنامج الأغذية العالمي بناء الطرق والجسور وتنظيف الأنهار وتجريفها لتوصيل الغذاء إلى المناطق المحتاجة. يمتلك برنامج الأغذية العالمي أدوات رقمية واسعة النطاق، بما في ذلك القياسات الحيوية لـ 4 ملايين مستفيد من المساعدات الغذائية. لكنه لا يملك ما يكفي من الأموال للقيام بمهامه. يرغب البرنامج في إعطاء البالغين من جنوب السودان 2100 سعرة حرارية في اليوم من الدخُن والذرة والملح المدعم باليود والعدس والبازلاء والزيوت النباتية، لكنه لا يستطيع توزيع سوى 1000 سعرة حراري في اليوم.
وهذا يعني أنه يجب على ضحايا الفيضانات أن يقتاتوا على كل ما يمكنهم البحث عنه كل نصف كل شهر وإلا سيتضورون جوعاً. ومع إجهاد موارد المانحين بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا، من المرجح أن يتم تخفيض هذه الحصص النصفية: فقد طلب برنامج الأغذية العالمي 1.15 مليار دولار من المانحين لعمله في جنوب السودان لسنة 2022، ولكن لم يتم تقديم سوى حوالي نصف هذا المبلغ.
قدمت الولايات المتحدة تمويلًا إضافيًا في تموز/ يوليو، مما أنقذ برنامج الإغاثة حتى في الوقت الذي “أعرب فيه” عن أسفه لعدم فعالية حكومة جنوب السودان. لكن من المرجح أن يؤدي تغير المناخ إلى زيادة التكاليف على أساس سنوي. ويعني ارتفاع تكاليف الوقود والقمح أن البرنامج سيوقف المساعدات عن 1.7 مليون مستفيد وينهي جهود إطعام الأطفال التي كانت تنقذ حياتهم سابقاً.
“لقد خذلنا الناس هناك”
وفقًا لبرنامج الأغذية العالمي، سيؤدي هذا النوع من فرز الحالات الإنسانية إلى زيادة كبيرة في انعدام الأمن الغذائي مع وجود جيوب من الجوع الكارثي. لا تترك حالة الأزمة أي موارد لبناء قدرة المجتمعات على التكيف مع تغير المناخ، بما في ذلك تحسين الزراعة ونظام الصرف الصحي وتوفير مياه الشرب النظيفة وتحسين بيانات الأرصاد الجوية والزراعة وتطوير الممتلكات المجتمعية مثل الآبار ومخازن الحبوب.
وغياب التمويل والاهتمام يجعل من الصعب إنجاز مشاريع بنية تحتية كبيرة يمكن أن تتحكم في النيل الأبيض وتحمي السُّد خلال العقد المقبل. يرغب معظم المسؤولين في جنوب السودان في رؤية سد مبني على منحدرات الفولا بالقرب من الحدود مع أوغندا. وقدر المستشارون النرويجيون تكاليف البناء بـ 1.4 مليار دولار، لإنتاج 890 ميغاواط، أي أكثر من ضعف الكهرباء التي ينتجها جنوب السودان بأكمله وأقل من 1 في المائة من إنتاج الكهرباء في كاليفورنيا.
لكن حدوث مزيد من التدهور الأمني والزيادة المتوقعة في درجة الحرارة بمقدار 0.4 درجة مئوية قبل سنة 2030 قد يجعل من الصعب تمويل المشروع وبالتالي تشييده. بدلاً من ذلك، يمكن لنظام حواجز مصممة جيدًا تتم إدارتها معها بشكل صحيح باستخدام بيانات الأقمار الصناعية المزروعة بالأشجار أن تساعد. لذلك قد يتم جرف وتمليس النهر وسحب المياه إلى القنوات والخزانات.
يجب أن يكون اجتماع شرم الشيخ الجاري في دورته السابعة والعشرين الذي من المتوقع أن يختتم أعماله في 18 تشرين الثاني/ نوفمبر، فرصة لمعالجة أزمة تغير المناخ في أماكن مثل جنوب السودان. تأخذ المفاوضات الرسمية الأولى على الإطلاق بشأن الخسائر والأضرار الجارية في القمة منحى طارئ من المضيفين المصريين وأكبر كتلة تفاوضية، تُعرف باسم مجموعة الـ 77 + الصين.
في الأسبوع الأول، ساهم ما لا يقل عن ثلاثة مشاركين أثرياء، هم الدنمارك وألمانيا والنمسا، بملايين الدولارات في التمويل. ولكن حتى تلك الدول التي تقف وراء هذه الدفعة لا تتوقع أن يتم تسديد المدفوعات قبل سنة 2024 – وحتى هذا ليس مضمونًا على الإطلاق.
يزداد عدد سكان جنوب السودان بوتيرة أسرع، من 4 ملايين سنة 1980 إلى 11.4 مليون اليوم
من المحتمل أن تكون هناك أولويات متضاربة، حتى بين مؤيدي مدفوعات الخسائر والأضرار. كما أشارت مصر إلى أولوية تأمين تدفق أكبر للمياه من النيل الأبيض بما في ذلك من خلال استكمال مشروع قناة جونقلي الذي يهدف إلى تحويل المياه حول السُّد. تم تدمير الآلة التي كانت تحفر القناة في الحرب الأهلية سنة 1983. وتعتقد مصر أن المشروع يمكنه زيادة إمدادات المياه بنسبة 7 في المائة.
قد يهدد هذا المشروع وجود السُّد، والذي يقدر برنامج الأمم المتحدة البيئي أنه يمكن أن يوفر مليار دولار من الخدمات لاقتصاد جنوب السودان كل سنة بشكل رئيسي في حماية التنوع وتنظيم المياه وإدارة درجات الحرارة المرتفعة بصورة أفضل.
يؤدي النمو السكاني أيضًا إلى تفاقم الأزمة. عندما بدأ المهندسون البريطانيون العمل لأول مرة في السيطرة على مياه النيل في مصر في ثمانينيات القرن التاسع عشر لتحسين الري والسيطرة على الفيضانات، كان عدد سكان مصر يبلغ 7 ملايين. يبلغ الآن 105 ملايين نسمة ومن المتوقع أن يصل إلى 160 مليونًا بحلول سنة 2050. ويزداد عدد سكان جنوب السودان بوتيرة أسرع، من 4 ملايين سنة 1980 إلى 11.4 مليون اليوم. وتقول الأمم المتحدة إن مزيجا من النمو السكاني وسوء الإدارة وانعدام الأمن هو ما يعرض الناس للخطر.
يقول البنك الدولي إن 86 مليون أفريقي قد يصبحون بلا مأوى بسبب تغير المناخ في العقود المقبلة.
لم يغض العالم بصره تماما عن المشكلة. سيزور القادة الدينيون، بمن فيهم البابا فرانسيس ورئيس أساقفة كانتربري جاستن ويلبي، جنوب السودان في مهمة سلام في سنة 2023. ومن المتوقع أن يؤكدوا على العدالة المناخية وكيف تضررت الزراعة والغابات والنقل في جنوب السودان من جراء تغير المناخ على الرغم من كونها مصدرًا بسيطًا لانبعاثات غازات الدفيئة.
لكن المساعدة المركزة حول أزمة المناخ لم تكن قريبة. لم يتم الوفاء بالوعود التي قدمتها الاقتصادات المتقدمة بتقديم 100 مليار دولار سنويًا للاقتصادات الناشئة في مؤتمر الأطراف سنة 2009 في كوبنهاغن. وهذا جزء بسيط من المبالغ اللازمة لتحويل الاقتصادات نحو صفر كربون والحفاظ على درجة حرارة العالم في حدود 2 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية على النحو المنصوص عليه في اتفاقية باريس.
سيبلغ عدد سكان إفريقيا 2.2 مليار نسمة بحلول سنة 2050 – ما يعادل ربع سكان العالم وما يقارب نصف جميع الأطفال. ومع ذلك، ساهمت إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى بنسبة 0.55 في المائة فقط من انبعاثات الكربون على مدى التاريخ. هذا التناقض أكبر حتى بالنسبة لجنوب السودان. تاريخيا، أنتجت البلاد 35 ميغا طن من الكربون مقابل 509 جيغا طن في الولايات المتحدة منذ سنة 1850.
يتمتع جنوب السودان بإمكانيات كبيرة، حيث تتكون 80 في المائة من أراضيها من أراضٍ صالحة للزراعة ومناسبة للمحاصيل ذات الدخل الجيد. لكن معظم الاستثمارات في الزراعة فشلت منذ الاستقلال، وليس هناك ما يشير إلى أن المانحين أو الحكومة على استعداد للتفكير بشكل متماسك وعاجل في حلول جديدة في العقد المقبل مع ارتفاع درجات الحرارة أكثر.
يقول البنك الدولي إن 86 مليون أفريقي قد يصبحون بلا مأوى بسبب تغير المناخ في العقود المقبلة. وستكون الموجة الأولى من النازحين حول السُّد. والطريقة التي يُعاملون بها تهدد بأن تصبح استجابة قياسية لضحايا الاحتباس الحراري في كل مكان: توفير موارد كافية للبقاء على قيد الحياة، ولكن لا توجد حلول دائمة.
المصدر: بلومبرغ