المصائب لا تأتي فرادى، لم يكف “كوباني” [1] – ذات الأغلبية الكردية – أن يكون سكانها الـ 44 ألفًا جزءًا من المجتمع السوري المعقد عرقيًا وطائفيًا، أو أن تكون مدينة حدودية يتصارع عليها تحالف دولي، ودولتان ناشئتان، وثلاث دول تحت الإنشاء، وحسب، بل اكتملت معها في أن توجد، زمانيًا، في الأزمة السورية – أسوأ أزمة إنسانية في القرن الحادي والعشرين -، والحرب التي اشتركت بها مئات الجهات ما بين دول وفصائل ومليشيات، لمختلف الدوافع الأيدولوجية والاقتصادية والجيوسياسية.
لا يمكن إنكار حقيقة أن أحداث كوباني رافقها ضخ إعلامي عالٍ، قد يبدو غير متوافق مع حجمها كمعركة في حرب أكبر وأعقد وأطول أمدًا وأهمية، مما دعا أردوغان – مثلاً – لانتقاد هذا الضخ أكثر من مرة [2]، ومستفزًا السوريين الذين يرون أن العالم لم يهتم لمعاناتهم أمام مصلحته في كوباني [3]؛ لكن في الوقت نفسه، فإن الانتصار في معركة كوباني يمثل أهمية إستراتيجية لكل الأطراف المتحاربة بها؛ مما يجبرها على الاستمرار في معركة عض الأصابع حتى نهايتها، في مشهد يذكر بمعركة القصير [4] – المدينة الحدودية كذلك ومتعددة الطوائف -، بداية أيار 2013، مع اختلاف الظروف وزيادة تعقيدها وأطرافها المتحاربة في كوباني.
مع بداية الثورة السورية، شهدت كوباني مظاهرات سلمية [5]، كان لافتًا بها العلم الكردي بدل علم الاستقلال، والهتافات الثورية المشتركة مع بقية المناطق، قبل أن تخرج عن سيطرة الأسد في 19 تموز 2012 [6] على يد قوات محلية، أصبحت لاحقًا – كبقية المناطق الكردية في سوريا – تابعة لوحدات الحماية الشعبية [7]، التي يمكن اعتبارها فرع حزب العمال الكردستاني (تركيا) في سوريا، وكما هو الحال في المناطق الكردية في سوريا، كان هناك تجنب للنزاع بين الفصائل الثورية ووحدات الحماية الشعبية، في محاولة لاحترام الخصوصية الكردية وسعي لإثبات “المظلة الواسعة” للثورة مع المجتمع كاملاً، وإن عد البعض قوات الحماية في بعض الأحيان – وتصرفت – كممثل لنظام الأسد[8] في المناطق التي تسيطر عليها.
ظل الحال كذلك إلى أن ظهر تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في بعض المناطق الشمالية لحلب، “باقية” في المناطق القريبة منها – خصوصًا في منبج وجرابلس غربها، وتل أبيض والرقة شرقها -، لـ “تتمدد” منها إلى المناطق التي تحيط بها لبسط النفوذ، من ناحية أخرى، تعتبر داعش قوات الحماية الكردية قوة علمانية وعميلة للغرب؛ مما يجعلها بالنسبة لها قوة مستهدفة، ومستفزة لدى الأكراد استعدادهم لمواجهتها [9]، وبدأت المواجهة تدريجيًا مع سيطرة داعش على القرى المحيطة بكوباني منذ تموز الماضي – مع انتهاكات وتهجير لسكانها [10] – إلا أن بلغت أقصاها في المدينة نفسها بداية تشرين الأول الماضي، بعد إعلان أوباما إطلاق التحالف الدولي [11] لمواجهة داعش قبل ذلك بشهر، مع الأكراد وداعش والتحالف، دخلت تركيا والمجموعات الثورية [12] مدفوعة لأسبابها الخاصة، في حرب أساسًا بدأت مع النظام الذي لازال جزءًا منها.
فيما يلي، سنحاول عرض الأسباب التي تجعل “كوباني” منطقة حرجة، لا يمكن الاستغناء عنها بالنسبة للأطراف المشاركة في معركتها.
الأكراد
تمثل كوباني، جغرافيا، بالنسبة لأكراد سوريا نقطة الوصل المتوسطة بين المناطق الكردية الثلاث: الجزيرة (شرقًا)، وعفرين (غربًا) وكوباني بينهما، والتي يسعون فيها لتشكيل مناطق حكم ذاتي وإدارة محلية [13] في هذه المناطق التي يمثلون أغلبيتها ويسيطرون عليها؛ مما يشكل ضربة قاصمة لهم حال فقدانهم إياها.
وبصورة أعم وأوسع للأكراد في المنطقة، يعتبر الأكراد في كوباني جزءًا من الأكراد في المنطقة، الذين يناضلون “حق تقرير المصير” والدولة الكردية، ما بين تركيا والعراق وسوريا، مما يظهر واضحًا من خلال الهوية الكردية، متمثلة بالعلم واللغة، وتوسع ذلك إلى المناهج في بعض المناطق.
من ناحية أخرى، فإن حزب الاتحاد الديمقراطي – المسيطر على كوباني – هو امتداد لحزب العمال الكردستاني – الذي يتزعمه “عبد الله أوجلان”، المعتقل في السجون التركية – في تركيا، الذي واجه صراعات حادة في تركيا مع الحكومة الحالية، قبل الدخول في حوار وصف بالـ “تاريخي” لوقف إطلاق النار وبدء عملية السلام، طارحًا الأسئلة من جديد مع معركة كوباني [14]، بناء على الموقف التركي منها، واستخدامها كورقة ضغط على الحكومة التركية لمزيد من المكاسب السياسية.
داعش
إذا سيطر داعش على معبر كوباني، فإنه، مع معبري “جرابلس” و”تل أبيض” اللذان يسيطر عليهما، سيملك خطًا حدوديًا مع تركيا بطول يقارب الـ 900 كم، ومن ناحية أخرى، تفصل كوباني لداعش بين مناطق امتداده شرقي سوريا في الرقة – إلى العراق -، وغربيها في ريف حلب، في وقت يحتاج به إلى كل خطوط الإمداد في معركته الممتدة في المناطق التي يسيطر عليها، سواء مع الجيش العراقي أو الحلفاء أو القوى الثورية.
هوياتيًا، تمثل كوباني – كما ذكرنا – بسكانها الأكراد مكانًا لعدو علماني قومي تستهدفه داعش؛ مما دفعها لتغيير اسمها إلى “عين الإسلام”، كما تستخدمه في المقاطع [15] والأخبار التي تنشرها من هناك.
ولعل كوباني كانت أوضح معارك التحالف ضد داعش، وإذا استطاعت تجاوزها والانتصار بها، مع كل الدعم الذي قدمته للأكراد والقصف الجوي، فإن نصرها سيعزز مكانها ورمزيتها، ويظهر أمريكا بمظهر المهزوم الحرج، لتستخدم ذلك بضخها الإعلامي الكبير لمزيد من التجنيد العالمي والحشد الجهادي.
التحالف الدولي
وكما هو الحال بالنسبة لداعش، فإن انتصار التحالف في المعركة التي حشد لها إعلاميًا وشعبيًا وسياسيًا أمر ضروري وأساسي، خصوصا بالنسبة لأوباما الذي تبنى إستراتيجية المواجهة – المتمثلة بالتدمير والإضعاف كما سماها -، والتي تواجه الكثير من الاعتراضات داخل أمريكا – خصوصا مع فوز الجمهوريين بالكونغرس – وخارجها.
إستراتيجية التدمير والإضعاف لا يمكن أن تنجح دون حصر داعش في مناطق محدودة، وسيطرة التنظيم على كوباني ستؤدي لتوسع وامتداد يزيد هذه المهمة صعوبة.
الدول المشاركة في التحالف – عربية وغربية – لازالت تعاني من هاجس هجرة مواطنيها للمشاركة مع داعش؛ ولذا فإن انتصار التحالف قد يساعد على وضع حد لهذه الظاهرة، وهزيمته ستؤدي للمزيد من الهجرات التي لا يعرف في أي لحظة قد تعود محملة بالأفكار والأسلحة إلى البلدان التي خرجت منها [16].
من ناحية أخرى، هناك نوع من المعركة الداخلية ما بين عضوي الناتو: أمريكا وتركيا، خصوصًا مع رفض الأخيرة الدعم الفعلي للتحالف والدخول به إلا مع شروط أربعة حددها أردوغان [17]، والذي رفع سقف خطابه ولهجته ضد أمريكا، التي تتزعم التحالف، وإذا ما استطاع التحالف الانتصار دون هذا الدعم التركي، فإن ذلك سيعطي الغرب مزيدًا من القوة في فرض الإستراتيجيات التي يراها تحقق مصالحه في المنطقة، في صراع ما بين دولة عظمى فعليًا، ودولة تنمو كقوة كبرى – لها سياساتها وأهدافها ومصالحها الخاصة كذلك – في المنطقة.
تركيا
إذا كان انتصار الغرب بفرض شروطه على تركيا هو حاجة إستراتيجية طويلة الأمد، فإن الحكومة الجديدة – إضافة لحاجتها لهذا الانتصار رمزيًا وسياسيًا وإقليميًا – تعاني مباشرة وبشكل أكبر من تبعات معركة كوباني والحرب السورية.
أوضح هذه التبعات للمعركة في كوباني هي أزمة وجود الإرهابيين على هذا الامتداد وهذا القرب من تركيا، واضعة جيشها وأمنها في حالة تأهب دائم لمنع تسرب داعش التي ترى تركيا – كذلك – دولة علمانية وهدفًا مرغوبًا.
يأتي ذلك في وقت تطرح به حكومة العدالة والتنمية خطة متعددة الجوانب، جزء منها هو المكانة السياسية في المنطقة، وإستراتيجية “صفر مشاكل” في السياسة الخارجية، والرفاه الاقتصادي للشعب، الذي قد يبدي تململه إذا حصل التضارب في هذه الجوانب على حساب أمنه واستقراره ورفاهه، وسط تحريض من المعارضة التي تعتبر الحكومة هي التي ورطت البلاد في هذه الحرب، إضافة للقومية الكردية الكبيرة في تركيا، وحزب العمال الذي يحارب امتداده في سوريا، وعملية السلام التركية الكردية، واضعًا إياهًا ما بين العديد من الخيارات والمعادلات الصعبة، كان آخر الخيارات بها تسهيل دخول البيشمركة عن طريقها.
وبصورة أعم للحرب في سوريا وأثرها على تركيا، فإن أوضح هذه الآثار هو التدفع الضخم والسريع للاجئين، الذي يكلف الدولة التركية مبالغ طائلة، وتأهبًا دائمًا، أمام إعلان العالم عجزه عن الدعم المستمر لهذه الأزمة.
ولا تغفل تركيا عن التذكير الدائم بأن أصل المشكلة والصراع هو الأسد؛ مما يجعلها أكثر تمسكًا بشروطها التي وضعتها للمشاركة في التحالف.
النظام السوري
لم يشارك النظام السوري وحلفاؤه، دولٌ وميليشيات، بشكل مباشر في معركة كوباني، لكنهم يخوضون معارك أخرى في مناطق قريبة في حلب وريفها في سعي لحصارها، وبلا شك فإن بقاء المدينة مع الأكراد القريبين إليه سيريحه في معاركه في سوريا.
من ناحية أخرى، قد يكرر النظام ما فعله في الرقة في الفترة الأخيرة بتحريك طائراته وقصف مناطق للتنظيم في كوباني، ليعزز شرعيته كمحارب للإرهاب في المنطقة، وليخفف عن الجبهات الأخرى التي يحتاجها حول حلب، حاصدًا ما يستطيع من المكاسب في حال جرى الحديث عن حل سياسي – كما تجري التحركات السياسية في روسيا [18]- أو حل إنساني – كمبادرة دي ميستورا لتجميد القتال [19] – .
الثورة السورية
ميدانيًا، تبدو الثورة السورية هي الطرف الأضعف في كل هذه المعادلة، أمام مواجهة بقاء داعش وتمددها، وهمجية القنابل البرميلية التي يلقيها طيران النظام، وعمى طائرات التحالف عن إرهاب الأسد، وتدفق المحاربين ضدها ما بين داعش وميليشيات النظام الطائفية، وتخبط واختلاف داخلي بين صفوفها – سياسيًا وعسكريًا – في منطقة تحاول، ما استطاعت، أن تحافظ على ما تبقى منها بيدها، لأن خسارتها يعني اقتراب حصار حلب؛ مما يمثل ضربة قاصمة لها، لتزيد العبء العسكري والإنساني الذي كانت تتكلف القيام به.
وبالنظر إلى معركة كهذه المعركة، فإن أحلام الثورة بالتعددية والديمقراطية والمواطنة، هي محل اختبار كبير لها، قد لا تستطيع أن تدعمه، الآن على الأقل، بسلاح يحميه ويسعى لتحقيقه، في وقت يبدو أنها تخسر مكاسبها السياسية والعسكرية.
وبذلك، فإن عليها أن تستمر وتصمد في هذه الحرب الطويلة، ليس ميدانيًا وعسكريًا وسياسيًا وحسب، بل أخلاقيًا كذلك، لتكون، كما بدأت، هي وحدها دون غيرها، الحل والإجابة لأسئلة المجتمع والدولة، بعد أربعين سنة من الظلم والكبت الداخلي، والاستغباء والخذلان الخارجي، في مهمة تبدو شبه مستحيلة بالنسبة لها، وأعقد من أي وقت مضى، لكن .. لعلها.