تطالعنا كتب التراجم بأوصاف للعلماء والأئمة تبدو مبالغ بها، كأن يوصَف عالم بأنه حجة زمانه وعلّامة أقرانه وأنه من سلف الأمة ويكأنه تأخّر عن زمانهم ليكون في هذا الزمان، على أننا عندما نرى إجماع الناس من مدرسة ذلك الرجل ومن غيرها، من أبناء بلده ومن غيرهم، في الثناء على مكانته العلمية ورصانته وشخصيته ومواقفه، لا يمكن إلا أن ينتابنا الفضول الشديد للتعرُّف أكثر إلى ذلك العَلَم.
الشيخ محمد بدر الدين الحسني، علّامة الشام، الذي وقف على حلقته مرة مفتي الديار المصرية، العلّامة الشيخ محمد بخيت المطيعي رحمه الله، فلم تطب نفسه أن يجلس في حلقة شيخ لا يعرفه، ولكنه اضطرَّ فاستمع إلى درسه فأُعجب به حتى قال له: “ربنا يخليك، ما فيش في الدنيا النهار ده واحد تاني زيك”.
المحدث الأكبر، المجدد الذي قاد نهضة علمية عامة في بلاد الشام، تعدّ كل -أو معظم- المدارس العلمية الموجودة الآن من ثمراتها، وقيل فيه إنه كان سرَّ قوة دمشق الذي تلجأ إليه كلما دهمتها الخُطُوب، وإنه لم يأتِ من 500 عام عالم مثله.
صحيح أن وجود العلماء في أمة المسلمين لا ينقطع، ولا يدّعي مادحوه الذين قالوا فيه ما قالوا إنه قد انقطع العلماء عن الأمة ثم جاء هو، فإلقاء نظرة سريعة في تراجم علماء القرن الثاني عشر والقرن الثالث عشر تؤكّد وجود كثير من العلماء يتوارثون علوم الإسلام وينقلونها إلى من بعدهم، ولكنه كان نموذجًا فريدًا من العلماء العاملين، فهناك فرق كبير بين توارث وتناقل العلوم والمعارف، وبين التمكُّن منها ونشرها وبثّ الروح فيها.
وهذا الحديث في نقل ما قيل في مدحه والثناء على شخصه ليس خروجًا عن الحديث في باب التجديد، لأن أحد أهم وجوه وجوانب التجديد عنده كان في تفرُّد وتميُّز شخصيته، فلا بدَّ من الإشارة إلى ذلك.
في العلوم الشرعية
جاء الشيخ بدر الدين في أواخر العصر العثماني، عصر ضعف وجهل وتخلف، فكان -الحسني- نموذجًا للعالِم الذي يحمل مهمة ميراث الأنبياء، لا في المنزلة والمكانة والرغبة في تصدُّر المجالس كما قد يُظنّ، بل في حمل همّ الدعوة وعبء التعليم وإخراج الناس ممّا هُم فيه من جهل وركود.
فنذر حياته للتدريس والإقراء والتعليم، وتنشئة أجيال من العلماء أسّسوا بعده حركات دعوية ومدارس علمية، ساهمت مساهمة كبيرة في محافظة أهل بلاد الشام على تعاليم دينهم والاعتناء بتراثهم، وتجديد الإيمان في قلوبهم.
فإذا كان أحد أهم أبواب التجديد الإتيان باجتهادات معاصرة في استجابة لمقتضيات العصر، فإن من التجديد الذي لا يستغنى عنه أن يأتي علم كبير كالشيخ بدر الدين في مرحلة انتشر فيها الجهل وبلغ الغزو الثقافي فيها ذروته، فيحيي تدريس العلوم الشرعية الأصيلة، ويعيدها إلى مكان الصدارة في توجيه حياة الناس، ويثبت انتماء الناس لدينهم وخصوصياتهم الحضارية.
ولا يستطيع أن يؤدّي هذه المهمة إلا عالم من نوع فريد، من نموذج علماء السلف في سعة العلم وسيرة الحياة، وقد كان كذلك على الحقيقة لا المبالغة الشيخ بدر الدين، الذي قال عنه الشيخ الطنطاوي في مقالة له في مجلة “الرسالة” عدد 105: “كان أقل مزايا الشيخ بدر الدين الحسني أنه يحفظ صحيحَي البخاري ومسلم بأسانيدهما، وموطأ مالك، ومسند أحمد، وسنن الترمذي وأبي داود والنسائي وابن ماجه، ويروي لك منها ما تشاء كأنه ينظر في كتاب”.
ويكمل الطنطاوي: “يحفظ أسماء رجال الحديث وما قيل فيهم، وسنين وفاتهم، ويجيبك عمّا شئته منها، وأنه يحفظ 20 ألف بيت من متون العلوم المختلفة… وأن له اطّلاعًا في كافة العلوم حتى الرياضيات العالية، فقد أقرأها لطلاب شعبة الرياضيات في المدرسة التجهيزية فأدهشهم وأدهش باطّلاعه معلميهم”.
صورة للإمام المحدث الأكبر الشيخ محمد بدر الدين الحسني الدمشقي وقد أجمع الموافق والمخالف على الثناء عليه وعلى زهده pic.twitter.com/7EQ7PCShR1
— خالد السباعي (@alkatani_dar) October 4, 2015
وكان حريصًا أشد الحرص على مداومته على التدريس، فقال عنه: “ما انقطع عن الدرس والتدريس يومًا واحدًا منذ 70 سنة”، فإذا كان قد استمر في التدريس كل يوم مدة 70 سنة، وهو رجل معروف ودرسه مقصود، فكم من العلماء قد تعلّم على يدَيه؟
ويقول عنه محمد حسن هيتو، ناقلًا عن كتاب دار الحديث الأشرفية: “مجدد القرن الرابع عشر الهجري المحدث الأكبر محمد بدر الدين الحسني الذي تسلم مشيختها وأعاد لها عزها ومجدها وفخرها، فمن دار الحديث وعلى يدَي شيخها المحدث الأكبر تخرّج علماء الشام والبلدات الشامية، وما من عالم بدمشق في عصرنا الحاضر أو طالب علم إلا وهو تلميذ له أو تلميذ لتلاميذه”.
ولم يهمل جانب التأليف العلمي كما يظنّ بعض الناس، فيقول الزركلي في “الأعلام”: “من تآليفه “شرح البخاري” و”شرح الشمائل” و”شرح الشفا” و”شرح البيقونية في المصطلح”، و”حاشية على شرح مختصر ابن الحاجب” في الأصول، و”حاشية على عقائد النسفي” و”شرح نظم السنوسية” و”شرح الخلاصة في الحساب”.
مردفًا: “وحواشي على شروح الشذور والقطر والجامي في النحو و”شرح مغني اللبيب” و”شرح لامية الأفعال” و”شرح السلم في المنطق”، و”حاشية على المطول” وكتب أخرى”، لكن احترقت مخطوطاتها عندما احترقت مكتبته، بحسب الشيخ الطنطاوي في مجلة “الرسالة” عدد 107.
في قلب الأحداث
من أكثر المواقف التي ينتظرها الناس من العلماء ثباتهم أمام مغريات الحياة وتهديداتها، خاصة فيما يتعلق بالعلاقة مع السلطان إذ تجمع هذه العلاقة الرغبة فيما يمتلكه السلطان، والخوف من بطشه، ولذلك كان قائل كلمة الحق عند السلطان ممدوحًا في الحديث النبوي، محبوبًا من الناس.
وقد كان الشيخ بدر الدين دائمًا في قلب الأحداث الجسام التي يهابها الناس، لا يهاب قائدًا ولا سلطانًا، يجلس في دار الحديث الأشرفية والقواد والأمراء هم من يأتونه، في ثبات وزهادة في الدنيا وهيبة ووقار تشبه سيرة الإمام النووي رحمه الله.
يقول الشيخ الطنطاوي في ذكرياته: “عهدنا شيخ العلماء في سوريا، الشيخ بدر الدين الحسني، يدخل عليه في غرفته الصغيرة في دار الحديث الأشرفية الباشوات والولاة أيام الأتراك، والمفوضون والقواد والجنرالات أيام الفرنسيين، فيخلعون نعالهم عند بابها ويقعدون بين يدَيه على بساطها، ويستمعون إليه وينفّذون ما يطلبه، وما كان يطلب لنفسه شيئًا منهم، بل كان يعظهم وينصحهم ويحثّهم على ما فيه مصلحة الناس”.
ولمّا أراد السلطان عبد الحميد أن يدعوه لزيارته، لم يبرق إليه ولم يرسل إليه شرطيًّا ولا حاجبًا، بل أرسل إليه الصدر الأعظم، وهو بمقام رئيس الوزراء، يقطع مسافة طويلة من إسطنبول إلى دمشق ليوجه الدعوة لهذا الشيخ الجليل.
والشيخ رحمه الله قد عاصر الاحتلال الفرنسي لسوريا، وعاصر الثورة السورية الكبرى، ولكن المشهور عند الناس أن الثورة إنما قادها سلطان الأطرش، ولم يكن للمشايخ دور فيها، فأين كان الشيخ؟
المتتبّع لتاريخ الأحداث من مختلف مصادره، يدرك أن الثورة كانت أوسع من جبل العرب وأشمل، وأن قيادتها الروحية إنما كانت للشيخ بدر الدين، يتحدث عن ذلك شوقي أبو خليل في كتاب “الإسلام وحركات التحرر العربية”، حيث يقول إن الشيخ بدر الدين هو الذي أعدّ النفوس وهيّأها للثورة، ثم فجّرها مع تلاميذه الذين كانوا قد قادوا حركة نهضوية دعوية في سوريا، ومنهم علي الدقر، ونجيب كيوان، ومحمد حجاز، وموسى الطويل، ومحمد ديراني، وأمين سويد، ومحمد الأشمر وغيرهم.
بل قبل ذلك لما وصل غورو إلى دمشق رفض الشيخ مقابلته، ومنع الناس من دفع الضرائب للفرنسيين، وقد زاره المندوب السامي الفرنسي طالبًا منه تهدئة الثورة فرفض الشيخ، وقال له بلهجة عنيفة: “لا تهدأ الثورة إلا بخروجكم”، ولم يسمح للمندوب السامي بإطالة الكلام معه.
وبعد إزاحة السلطان عبد الحميد عن الخلافة، وتحكُّم الاتحاديين بشؤون الناس، وما رآه الشيخ وغيره منهم من انحرافات، كان له دور مهم في إطلاق الثورة العربية الكبرى، فيقول أمين سعد في كتابه “الثورة العربية الكبرى”، متحدثًا عن زيارة فيصل بن الحسين إلى دمشق: ” كما حمّله الشيخ بدر الدين الحسني وعلي رضا باشا الركابي ختميهما الذاتيين إلى والده علامة موافقتهما على إعلان الثورة”.
غرفة خارج سلطة الاحتلال
ما يروى عن شخصية الشيخ وهيبته، واستقلاله برأيه عن كل سلطة وقوة ولو كانت سلطة احتلال همجي وحشي، يؤكد ما قيل عن غرفته أن “الله حماها بهيبة العلم”.
وهذا جانب آخر من جوانب التجديد عنده، فالأول تجديد في إحياء العلوم الشرعية، والثاني تجديد في الثبات على المواقف والحفاظ على التعاليم السامية والقيم العليا وعدم التأثر برغبة أو رهبة، والثالث هو الشخصية القدوة.
الشخصيات القدوة خلال التاريخ كانت إحدى أهم وسائل تثبيت الناس، وكانت شخصية الشيخ بدر الدين واحدة منها، لتقدم نموذجًا للمسلمين في العالم العامل الثابت على المبدأ، فلسان الحال أفصح من لسان المقال، والنظر إلى الذات القدوة مهم في تثبيت النفوس.
الفصل بين التعاليم المجردة والأشخاص الذين يحملونها غير ممكن في الواقع، أو هو أمر شديد الصعوبة لا يقدر عليه إلا قلة من الناس، لذلك كانت الشخصيات التي تمثل الدين هي التي تعطي الدين ثقله ووزنه ومكانته في نفوس الناس، بل في نفوس الحكّام، ولعلّ هذه الشخصيات هي المقصودة في الحديث النبوي: “يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله”، وفي حديث: “لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسًا يستعملهم في طاعته”.
ولذلك كان انحراف بعض الناس عن الدين بسبب ما يرونه من بعض رجال الدين من مخالفة بين أقوالهم وأفعالهم، ولو قرأ القارئ حديث التجديد بعد قراءته لما سبق عن الشيخ بدر الدين، لأدرك أنه أحد المجددين، إذ جدد للأمة أمر دينها في إحيائه وإعادتها إليه، وفي التعليم والقدوة.
أخيرًا.. شبّهه بعض العلماء بعلماء السلف من حيث سعة الحافظة والاطّلاع والتبحُّر في العلم، وهذا ممكن ليس مستحيلًا حتى لشباب اليوم، بشرط علو الهمة، فمن برنامجه اليومي الذي ذكره الشيخ الطنطاوي: “لبث 70 سنة يفيق إذا عسعس الليل، فيصلي ما شاء الله أن يصلي.. ثم يمضي إلى الجامع الأموي فيصلي الصبح مع الجماعة، في مكانه الذي لم ينقطع عنه ثلاثة أرباع القرن.. فإذا قضيت الصلاة عاد إلى غرفته، فلبث يقرأ ويُقرئ إلى ما بعد العتمة، إلا أن يكون يوم الجمعة فيجلس للدرس العام يحدّث الناس تحت قبّة النسر من الظهر إلى العصر”.
فبتلك الهمة كان عالم الشام الأكبر في زمانه، والرجال العظام لم يولدوا كذلك، بل صنعوا أنفسهم.