هل ركّزتم على قصة الفتى القطري غانم المفتاح؟ غانم هو قطر حين العسرة، حتى انتصاره حين اليسرة.
استهزأوا به، وعيّروه بشتى الألقاب، لكنه آثر الاعتماد على نفسه، بعد حليفَيه، والدَيه. قصة الشاب غانم هي قصة قطر الصغيرة جغرافيًا، التي انتصرت بعد حصار ذي القربى، معتمدة على إرادتها وقوتها الناعمة.
قالوا إنها صغيرة ولا قدرة لها على منافسة الكبار، وكالوا لها الاتهامات في سبيل إفشالها في تنظيم بطولة كأس العالم، لم تعاملهم بالمثل حتى انتصرت، فجاء المحاصِرون مهنئين.
غانم هو قطر
كتمت قطر أنفاسها، والقطريون ولفيف من العرب المهتمون، قبيل انطلاق حفل افتتاح كأس العالم، كيف لا والمناسبة عزيزة، غير مسبوقة.
فلأول مرة يتم المونديال بتنظيم عربي إسلامي وشرق أوسطي، لأول مرة يتابع العالم بعين مفتوحة على الانتقاد بسابق إصرار وترصد لكل ما هو غير غربي أوروبي كعادتهم القديمة، التي نظروا بها بالأمس القريب إلى اللاجئين ذوي البشرة البيضاء والعيون الزرقاء على حدود أوكرانيا.
افتتح الشاب مفتاح الغانم، المصاب بمتلازمة التراجع الذيلي، المتكئ على يدَيه والجالس عليهما في آن، الحفل بآية قرآنية، موجّهة من الله عزّ وجلّ لجميع الناس.
غانم المفتاح يستهل افتتاح المونديال بآيات من القرآن الكريم بحضور الممثل الامريكي مورغان فريمان#قطر2022 #كاس_العالم_قطر_2022#قنوات_الكاس #Qatar2022#FIFAWorldCup pic.twitter.com/CUNmecrUum
— قنوات الكاس (@alkasschannel) November 20, 2022
لقد كانت رسالة مفعمة بالإنسانية والدعوة إلى التوافق والتضامن الدولي والتعارف، من شاب يافع، في إشارة إلى أن القلوب والنفوس لا تُقاس بالحجم بل بالإنجازات، وبإيمانها بقدراتها، وبعزيمتها في العمل والصبر المقترن بالإرادة والتضحية.
كانت رسالة قطر من خلال هذا الفتى ذي الاحتياجات الخاصة، هي أن الكيانات الصغيرة بإمكانها إذا صمّمت على صنع الحياة أن تفعل الكثير، غير مكترثة بمحاولات التثبيط من هنا وهناك.
لعلّ الكثير استمع إلى قصة غانم ومعاناته مع المرض ومع والدَيه، وآلامه وأحزانه الدفينة التي حاول دائمًا إخفاءها عن محيطه العائلي، وعن محيطه الخارجي وأصدقائه، كيف لمفتاح أن يلعب مع خلانه وهو يخشى من الاستهزاء به، والتهكُّم على جسده الصغير النحيف، في بيئة استشرى فيها التنمر والتباهي والتقليد، والتنابز بالألقاب أحيانًا، فسمّوه “ضفدعًا” تارة و”سمكة” تارة أخرى.
اختار غانم الخروج من إطار البيت إلى الشارع والمواجهة، ونصح أمه وأباه بذلك، لكنه أسر النجاح في قلبه.
بنى غانم من القوة ضعفًا، فخرج من حجمه الصغير الذي كانت تخشى عليه جدّته من الهلاك كلما وضعته على الوسادة، فاعتمد على نفسه في معظم أموره، وتعايش مع إعاقته، كما يقول، حتى تعززت قدراته.
لم يقبل الطفل الدروس من أحد، حتى من والدَيه، لكنه قبلَ بالتوجيه والمساعدة دون تدخُّل في شأنه وخصوصياته، لم يرضَ بغير المشي على يدَيه، حتى أزهر ربيعه وصار محترفًا في عدة اختصاصات رياضية، ويقدّم المحاضرات للعالم كأصغر متحدث في الأمم المتحدة.
ثم صار سفيرًا للنوايا الحسنة، وسفيرًا فخريًّا لعدة جهات رسمية للدولة، وصار اسمه رديفًا لشركات تابعة للدولة، أليس الغانم الصغير هو قطر الصغيرة المنتصرة؟ لا بل هي الملهمة والمؤثرة لعدة دول، بعد أن أبهرتهم من خلال نجاحها في الوصول لافتتاح البطولة الدولية الأكبر.
العقل الخلّاق
كما تعايش غانم مع إعاقته، تعايشت قطر مع الحصار الذي ضربه ذوو القربى، عندما فشلوا في دخولها عسكريًّا لإعاقتها وإجبارها على تطبيق جميع البنود التي طالبوا بها، وعلى رأسها إغلاقها قناة “الجزيرة”، لكن العقل القطري للدولة الصغيرة تحرك بمعية الحلفاء لردّ العدوان.
عمل العقل القطري منذ فوزه بشرف تنظيم كأس العالم قبل عقد، وحتى خلال سنوات الحصار الأخيرة من دول الجوار، على قدم وساق بجدٍّ وتفانٍ، وحيّد الاقتصاد عن السياسة، رغم مجابهتها بالحيف والنكران، حتى أذهل العالم بشهادة رئيس الفيفا.
رئيس الفيفا يصف الهجوم على قطر بالنفاق الأخلاقي مطالبا أوروبا بالإعتذار عن تاريخها أولا قبل إعطاء دروس في الأخلاق pic.twitter.com/5c9Im1oUCR
— شبكة رصد (@RassdNewsN) November 19, 2022
تميّز العقل القطري على الذين رموه باتهامات من قبيل أنها تقع في مناخ جاف وحارّ لا يلائم مباريات رياضية طويلة الأمد، فتعهّدت بتطويع التكنولوجيات والقدرات الحديثة حتى تصبح متلائمة مع البيئة، مثل تبريد الملاعب وأماكن التدريب ومناطق المتفرّجين، وحتى الشوارع.
ورغم أن البطولة تدور في فصل الشتاء، إلا أن الدوحة كانت عند وعودها، فأصبح بمقدرة الجمهور واللاعبين الاستمتاع ببيئة مكيَّفة بالهواء الطلق لا تتجاوز حرارتها 27 درجة مئوية، وفق المختصين.
مختصون وخبراء أتمّوا كل ما أنيط بهم من مسؤوليات، وبنية تحتية أعدّت خصيصًا للدورة مثل شبكة مترو الدوحة، وهي أحد الإنجازات التي ستبقى مكسبًا لما بعد المكسب العالمي.
مع ذلك لم تنكر قطر استفادتها من العقل العربي، ولم تنقص منه أو تستهزئ به كما يفعل آخرون، بل اعتبرت النجاح نجاحًا عربيًّا شاملًا جامعًا، وهذا التواضع هو سرّ آخر من أسرار نهضتها.
ومعظم مشاريع احتضان كأس العالم لم تتوقف زمن الحصار الذي ضُرب على قطر، بل إن القيادة الناجحة حوّلت المِحَن إلى مِنَح، ولم تتعلل بفشلها في الوصول إلى الهدف.
الدرس
تواصلَ العطاء القطري بالروح نفسها حتى الشهر الأخير الذي يسبق صفارة البداية، ورأينا كيف نجحت في فرض قراراتها وسيادتها وتقاليدها، بداية من فرض شروطها في احترام آداب وأخلاق ودين البلد، إلى إعطاء مطلق الحرية للدعاة في الدعوة للإسلام ووضع مكبّرات الصوت للأذان حتى يسمَع في الشوارع والملاعب، وهي ثقافة وخصوصية نجحتا في كسب احترام الآخرين، وفرضتا عليهم عدم إظهار ما يخالف عادات البلد، مثل السكر في العلن، أو ارتداء شارات المثليين في عموم البلاد.
كل ما جهّزته قطر من بنية تحتية رياضية وغير رياضية، يضع أمام الملاحظ العربي سؤالًا واحدًا، لماذا كنا نحتاج إلى ثورات عربية أو بالأحرى لماذا اندلعت أصلًا؟
لا شكّ أن الإجابة الحتمية هنا وخلاصة الدرس القطري هما أنه لو كانت الشعوب التي ثارت في الربيع العربي تتمتّع بثرواتها، ولو كان ثراؤها ظاهرًا على دولها وعواصمها، ما كانت تحتاج إلى ثورات في تونس وليبيا وسوريا وغيرها.
لا بل لم ترَ تلك الشعوب مظاهر الثروة عبر عقود، رغم توفُّر مناخات الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني ولو بفعل الاستبداد، حيث كانت الأنظمة تتصرف لوحدها وبحرّية في الثروات، ولا وجود لأي معارض حتى تتعلل به أو فساد إلا إذا كان منها.
أما أن تخالف قطر تطلُّعات الغرب وتوجهاته في فرض شروطها على المونديال، فهذا يؤكد أن قوة الحكومات في مدى احترامها لشعوبها، فمن الضروري أن تحمي القيادة السياسية ظهرها بشعبها، وتراعي أخلاقيات شعوب المنطقة في مراعاة تراثها الثقافي والإسلامي، وعندها حتمًا ستجلب تعاطف ومساندة شعوب المنطقة عبر العالم، وهذا سرّ آخر من أسرار النجاح القطري تنظيمًا، ثم اقتصاديًّا من حيث العائدات المالية.
النجاح اللافت الذي حققته دولة #قطر ?? في إدارتها ملف #كأس_العالم_قطر_2022 سيعود بالفائدة على #قطر ?? والمنطقة العربية برمتها
بعيدا عن كل الافتراءات الظالمة التي روجت لها بعض وسائل الإعلام
نجاح #قطر ?? سيثير تنافسا شريفا لتقليد النموذج القطري المتميز والمتفرد#قطر_تحقق_الحلم_2022 pic.twitter.com/uYBINgYMH0
— محمد علاء العناسوه (@alaa_tallaq) November 20, 2022
سرٌّ جعل خصوم الأمس يعترفون بنجاحها، يتقاطرون عليها للتهنئة، ثم لتضطلع قطر بدور آخر بفضل الإشعاع الرياضي، وهو ممارسة وساطات سياسية قد تبدو ضرورية بين دول إقليمية، وهذا مكسب دبلوماسي جديد من مكاسب المونديال، قد يزداد بعد أن أصبحت عراقيل إفشال الاستحقاق العالمي من الماضي.