ترجمة وتحرير نون بوست
في الرابع من ديسمبر، أدلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بخطابه السنوي أمام المجلس الفيدرالي الروسي، وهو خطاب يماثل، ولا يقل أهمية عن، نظيره الاتحادي الذي يلقيه سنويًا رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، وقد جسّد الخطاب تحولًا جذريًا عن خطابات الأعوام الماضية يعكس التغيّرات في الرؤية الروسية العالمية، والتحديات الجديدة التي تواجهها موسكو الآن.
في خطابيّ بوتين الماضيَّين منذ عودته لمنصب الرئيس عام 2012، بدأ بوتين بكلمات مبشّرة عن التقدم والإصلاحات داخل روسيا، بيد أن خطاب هذا العام يمثّل تراجعًا عن هذا النمط، إذ ركّز بشدة على فكرة الصراع، الذي تخوضه روسيا الآن مع الغرب، فكما قال بوتين، “هذا العام تواجه روسيا امتحانًا لا يمكن إلا لدولة قوية ذات سيادة، وأمة موحّدة، أن تجتازه. لقد أثبتت روسيا أنها قادرة على حماية أصدقائها وشركائها، والدفاع عن الحق والعدل.”
في الحقيقة، يُعَد هذا العام بالفعل عامًا مضطربًا لروسيا، إذ بدأ بالانتفاضة في كييف، والتي أسقطت الحكومة الموالية لروسيا برئاسة الرئيس السابق فيكتور يانوكوفيتش، وأتت بحكومة أوربية الهوى تطمح إلى الاندماج مع المؤسسات الغربية، وهو ما أشعل صراعًا حول مستقبل أوكرانيا لا سيما وروسيا قد استحوذت على شبه جزيرة القرم، وهو ما أدى إلى حملة عقوبات اقتصادية غربية عليها تزيد الطين بلة لاقتصادها الذي يواجه اليوم خطر الركود.
يلوم بوتين الغرب على كل تلك الاضطرابات، خاصة الولايات المتحدة، إذ قال بأن الغرب يطبق منذ عقود سياسة شاملة لاحتواء روسيا كلما رآها تزداد قوة واستقلالًا، بل وقال بأن الأحداث في أوكرانيا لم تكن سوى قميص عثمان للقوى الغربية، والتي كانت تعد العدة لمواجهة بلاده على أي حال حتى لو لم تحدث أزمة أوكرانيا. علاوة على ذلك، اتهم بوتين الولايات المتحدة بالتأثير على علاقات روسيا مع جيرانها في أوربا، حتى أنه لم يعد واضحًا من الجهة التي يجب أن تتحدث معها روسيا “حكومات الدول المعنية، أم رعاتها وموجهيها الأمريكيين.”
لم تكن تلك مجرد خطبة لاذعة، ولكن تحولًا حقيقيًا في رؤية بوتين للولايات المتحدة ودور القوة الأمريكية.
على مدار السنوات الماضية، اعتبرت روسيا أن قوة الولايات المتحدة تتجسد فقط في قدرات الرئيس أوباما، وقد تجاهلت بذلك الشبكات والموارد الشاسعة التي تتحكم فيها الولايات المتحدة بشكل يتجاوز مؤسسة الرئاسة، نظرًا لذلك الافتراض، اتخذت روسيا خطوات تصعيدية على الساحة الدولية لتقويض الدور الأمريكي، عن طريق دورها في سوريا، وكذلك باستضافتها لإدوارد سنودن، الموظف السابق المطلوب داخل الولايات المتحدة إثر تسريباته. جل ما أرادت موسكو من وراء ذلك هو رسم صورة لها كلاعب مؤثر على الساحة الدولية لا يقل قوة عن أمريكا.
ما فعلته الأحداث في أوكرانيا والعقوبات الدولية هو إثبات خطأ الفرضية الروسية عن الدور الأمريكي على الساحة الدولية، وهو ما بدا جليًا أن روسيا قد أدركته من خلال خطاب بوتين، الذي حمل الولايات المتحدة كل ما طال روسيا من مشاكل العام الماضي.
أتت خطبة بوتين بعد وقت قصير من معركة بين قوات الأمن الروسية والمسلحين في منطقة الشيشان خلّفت 19 قتيلًا، وهي المعركة الأولى منذ سنوات، وتُنذر بعودة الانتفاضة الشيشانية. تطور كهذا سيكون ضربة لجهود الكرملين، خاصة في خضم العقوبات الاقتصادية التي لا تزال روسيا تحاول التعامل معها عبر توطيد علاقاتها مع الصين وتركيا، وكذلك ضربة لبوتين شخصيًا، الذي تعتمد شعبيته بين الروسيين جزئيًا على النجاح في إحكام قبضته على شمال القوقاز وحفظ الاستقرار في المنطقة.
بكل صراحة، أشارت خطبة بوتين إلى الغرب باعتباره مسؤولًا عن أولئك المسلحين، والاحتفاء بهم باعتبارهم مقاتلين في سبيل الحرية، وقال بأن هؤلاء الانفصاليين تلقوا معلومات ودعمًا سياسيًا وماليًا من “وراء المحيط” (مشيرًا إلى الولايات المتحدة.) هذا واقترح المتحدث باسم البرلمان الشيشاني، دوكوفاخا عبد الرحمنوف، أن الهجمات في جروزني عاصمة الشيشان تأتي تلبية لأوامر مباشرة من أمريكا والناتو لإضعاف روسيا سياسيًا واقتصاديًا.
ألمحت خطبة بوتين أيضًا إلى تحول في طريقة التفكير في موسكو حيال أزمتها الاقتصادية، ورُغم أن روسيا تحافظ على التعاون الاقتصادي مع آسيا ومع الغرب، إلا أنها الآن تحاول التركيز لحماية نفسها من الاعتماد على الاستثمارات الأجنبية. يأتي في هذا السياق الإعفاء الروسي لكل العائدين إلى روسيا برؤوس أموال من الخارج من الضرائب والعقوبات، وتلك الخطوة إقرار بالأزمة التي تحيق باقتصاد روسيا، وحقيقة عجز البلاد عن التعافي منها وحدها كما حاول إقناعنا بوتين، حين قال بأن تنمية روسيا تعتمد فقط على الروس.
توجه روسيا الحالي، وما سيؤول إليها، أمر في علم الغيب، حيث يجري الآن اختبار الكثير من افتراضات موسكو في التعامل مع السياسة الدولية، بدءًا من افتراضاتها الخاطئة حيال قوة الولايات المتحدة، وقدرتها على نشر نفوذها في محيطها، والحفاظ على الاستقرار والأمن داخل حدودها، وقوتها الاقتصادية.
كيف ستتعامل روسيا مع كل ذلك، هو أمر ستكشف عنه الأيام.
لقد أعطى بوتين إشارة واضحة بأن موسكو ترى العالم من حولها كعدو بشكل أو آخر، ولذا يبقى السؤال الأخير ما إذا كانت روسيا سترد الصاع صاعين بما تبقى لها من قوة، أو أنها ستلجأ لعقد صفقة في نهاية المطاف.
المصدر: ستراتفور