يكاد من يزور بغداد اليوم يصيبه ما أصاب الرحالة ابن جبير عند مروره ببغداد أواخر الحكم العباسي وقد غدت غير التي سمع عنها في عهد المنصور والرشيد والمأمون، واصفًا إياها بقوله: “ذهب أكثر رسمها، ولم يبق منها إلا شهير اسمها”، لما شاهده من الإهمال وغياب الرعاية الذي حول بغداد إلى مدينة لا تشبه الأسطورة التي عرفت بها في سابق عهدها، ويكاد هذا الشعور يصيب من يدخل بغداد اليوم على عجالة ولا ينتظر تلك المدينة المتمنعة حتى تكشف له عن بعض زينتها.
“دار السلام” المدينة التي خطها المنصور بيده سنة 762 ميلاديًا (145 هجرية) لتكون عاصمة دولته الممتدة من الصين شرقًا حتى جبال الأطلسي غربًا، تلك المدينة لم تكن في حقيقتها سوى مجمع حكومي باذخ ومحصن بشكل عسكري دقيق أخذ شكله الدائري الشهير، لكن وفود الناس المتسارع إليها والبناء حولها جعلها في غضون سنوات قليلة مدينة مترامية الأطراف يقسمها نهر دجلة إلى جانب شرقي يطلق عليه “الرصافة” وجانب غربي يطلق عليه “الكرخ”، وتحمل لقبًا قديمًا لقرية بابلية كانت في أطراف مدينة المنصور.
في هذا المقال ضمن ملف “مدن مستترة” سنحاول كشف الستار عما تبقى من إرث بغداد العباسية، تلك المدينة التي خطها المنصور بيده وأطلق عليها اسم “دار السلام”، وقيل فيها ما لم يقل في مدينة غيرها ورويت عنها حكايات ألف ليلة وليلة، لنجعل الزائر يقف على حقيقة بغداد العباسية أو ما تبقى منها، ولنضع أصابعنا على واقع إهمالها الذي يدمي القلب، ونرفع الصوت لعله يصل فيوقف اندثار وإهمال ما تبقى من جمال في مدينة الخلفاء والأولياء والحكمة.
أين مدينة المنصور المدورة؟
بغداد المدورة تلك الواقعة بجانب الكرخ، تزاحم عليها الإهمال وفيضانات نهر دجلة المتكررة ليهجرها خلفاء بني العباس للرصافة في الجانب الشرقي الأكثر حداثة واتساع، لتختفي تدريجيًا تحت طمي دجلة، حتى خرج البعض مشككين بوجود تلك المدينة التي نقل لنا المؤرخون تفاصيل بنائها بدقة، لكن غيابها بالكامل عن العين جعل الشكوك تتصاعد بشأن حقيقتها ومكانها على الأرض!
بين عامي 1999-2000م قامت أمانة بغداد بالعمل على مشروع إكساء شواطئ المدينة بالحجارة، وعند البدء به ظهرت آثار بناء لأبنية قديمة، ليتوقف العمل على الفور وتبدأ رحلة تنقيب في المكان، لتكشف عن قصر الذهب مقر حكم أبو جعفر المنصور وسط مدينة بغداد.
يقول المؤرخ العراقي الدكتور عماد عبد السلام رؤوف: “حينما مضت أعمال الحفر ورفع الأنقاض عن أسس البناء القريبة من النهر، تكشفت للبعثة الأسس الضخمة لجزء من البناء، فإذا به بقايا قاعة كبيرة، مُزيَّنة بلون ذهبي، وتشبه أن تكون قاعة عرش في قصر بالغ الروعة والضخامة”.
وجاءت الحفريات على العُجالة التي جرت بها، لتقدم الدليل الواضح الذي لا يقبل الشكَّ على أن هذا القصر ليس إلا قصر المنصور الرئيس ومقر حكمه الرسمي الذي كان يتوسَّط المدينة المدورة، مدينة السلام تمامًا، وهو القصر الذي عُرف في التاريخ العباسي بقصر “باب الذهب”.
ويكمل الدكتور عماد بعد أن يستعرض التطابق التام بين مواصفات القصر المكتشف وكتب التاريخ فيقول: “طابقت المعطيات الآثارية النصوص التاريخية الخاصة بقصر باب الذهب تطابقًا تامًّا لم يعد فيه مجال لاجتهاد أو رأي، وهكذا أنهى هذا الاكتشاف جدلًا طويلًا بين المعنيين بخطط بغداد منذ نحو قرن كامل حول مكان المدينة المدورة”.
لنصل إلى حقيقة وجود بغداد المدورة في الجانب الغربي قرب منطقة الكاظمية الحاليّة بعمق 6 أمتار تحت الأرض ولم تستخرج إلى يومنا هذا رغم اكتشافها قبل ما يزيد على عقدين من الزمن.
إذا أردت أن تشاهد جزءًا من تلك المدينة الأسطورية ستجد محرابًا في المتحف العراقي انتزع من مسجد تلك المدينة ليدور في مساجد بغداد الأثرية ليصل جامع الخاصكي ثم ليسحب للمتحف العراقي للحفاظ عليه كونه قطعة أثرية مهمة، ويتكون المحراب من قطعة واحدة من الرخام ويمكن مشاهدته عند زيارتك للمتحف العراقي لحين التفات الحكومة العراقية لفكرة استخراج دار السلام من تحت الأرض.
القصر العباسي.. الجمال المهمل على ضفاف دجلة
على ضفاف نهر دجلة يقع بناء بديع الجمال متفرد في تفاصيل العمارة العباسية نجا من أهوال ما شاهدته بغداد يعود لعام 1197م إبان حكم الخليفة الناصر لدين الله العباسي، تلك الشخصية الفريدة من خلفاء بني العباس المتأخرين الذي كان عالمًا ومؤلفًا وشاعرًا وراويًا للحديث وتقلد الحكم بعد أبيه المستضيء بأمر الله، ليحكم 50 عامًا محاولًا خلالها استعادة الخلافة العباسية لقوتها ونفوذها بعد أن أصبحت شبه صورية.
فأمر بإحداث نظام الفتوة لتجنيد شباب بغداد والاعتماد عليهم بدلًا من جنود الأعاجم وهدم النفوذ الخارجي وأعاد بناء أسوار بغداد وشيد العديد من المعالم والمواقع كان أحدها هذا القصر الأنيق الذي يعرفه أهل بغداد باسم “القصر العباسي”.
اختلف المؤرخون في توصيف القصر وأصله نتيجة شكل عمارته المكونة من باحة ضخمة تتوسطها نافورة ويحيط بها بناء على شكل طابقين بجانب شرقي وغربي زخرفت ممراته بشكل أنيق بالمقرنصات والمنمنمات الإسلامية، فذهب بعض المؤرخين إلى الاعتقاد بأنه المدرسة المستنصرية والبعض الآخر إلى أنه المدرسة الشرابية، لكن المؤرخ والعلامة العراقية مصطفى جواد جزم ومعه عدد من المؤرخين بأنه قصر الناصر لدين الله العباسي، مستندين إلى رواية الرحالة ابن جبير عندما سرد قصة مشاهدة الخليفة الناصر لدين الله وهو ينزل من زورقه قرب مسناة كبيرة على ضفة النهر ليدخل القصر العباسي والموقع الذي ذكره ابن جبير هو ذاته موقع القصر اليوم.
القصر الذي يعتبر من النوادر المتبقية للعمارة الإسلامية العباسية في بغداد يمكن زيارته لمن يرغب، لكنه يقبع اليوم تحت إهمال لا يليق بهكذا صرح أثري مهم يشكل أحد أوجه بغداد الجميلة.
المدرسة المستنصرية.. نموذج التعليم في بغداد
في جانب الرصافة من بغداد وعلى أرض مساحتها 4836 مترًا شيد الخليفة المستنصر بالله العباسي أول جامعة إسلامية درست المذاهب الأربع في مكان واحد، حملت رفوف مكتبتها 450 ألف كتاب ومرجع للدارسين، تتوسط باحتها ساعة عجيبة دقيقة الصنع لتنبيه الدارسين على مواقيت الصلوات الخمسة، لتعكس مقدار التقدم في العلوم للحضارة الإسلامية العربية.
المدرسة المستنصرية التي حملت اسم بانيها تتألف من طابقين شيدت فيهما مئة غرفة بين كبيرة وصغيرة، إضافة إلى الأواوين والقاعات، واستمر التدريس فيها لأربعة عقود ولم يتوقف حتى اجتياح تيمور لنك لبغداد، لتتوقف الدراسة فيها وتسرق مكتبتها ويغادر أساتذتها إلى بلاد الشام ومصر وسمرقند.
جامع الخلفاء.. مغلق للصيانة دائمًا!
وسط سوق الغزل الشهير في بغداد يقبع مسجد الخلفاء، أحد المساجد النادرة الباقية من العصر العباسي الذي بناه الخليفة المكتفي بالله العباسي ليكون المسجد الجامع لصلاة الجمعة في شرقي القصر الحسني ليعرف في وقتها بجامع القصر، ثم أُطلق عليه جامع الخليفة لصلاة الخليفة فيه ثم تطور الاسم ليكون جامع الخلفاء.
المسجد الحاليّ من تصميم المعماري محمد صالح مكية الذي أعاد تصميم وتشييد جامع الخلفاء في بغداد بما يتوافق مع الهندسة المعمارية للعصر العباسي، وحافظ على تكوينه المعماري الحاليّ، لكن الأثر العباسي القائم والتاريخي هو منارة المسجد.
تتميز المنارة بهندسة معمارية نادرة حيث تحتوي على سلمين يصلان إلى حوض المنارة ولا يلتقيان ولهما بابان في الأسفل وآخران في أعلى المنارة على غرار منارة الحدباء الشهيرة في الموصل.
المسجد للأسف يمكن مشاهدته من الخارج فقط لأنه “مغلق للصيانة!” منذ أعوام طويلة، وهذا نموذج من نماذج الإهمال المستمر لأحد معالم بغداد التاريخية، لكن يمكن مشاهدة سياج المسجد الحديدي الذي صنعه شيخ الحدادين في بغداد خصيصًا للجامع، حيث طلب الشيخ جلال الدين الحنفي من شيخ الحدادين في بغداد صنع سياج يليق بهذا الجامع.
أتم شيخ الحدادين هذا السياج سنة 1964 وكان مزخرفًا بالخط الديواني ويستطيع زائر هذا الجامع أن يرى بأم عينه مدى إبداع هذا الحداد في تطويع الحديد لجعله بهذا الشكل الرائع الذي لا يوجد له مثيل.
الباب الوسطاني.. نموذج التحصينات العسكرية لبغداد
عندما تقف على ما تبقى من أسوار بغداد من الجانب الشرقي وتحديدًا الباب الوسطاني تدرك ما يقوله المؤرخون عن صعوبة اختراق هذه المدينة دون تعاون وخيانة من الداخل، باب خرسان أو المظفرية أو الباب الوسطاني كما يعرفه أهالي بغداد صمد أمام هولاكو ونجا من حوادث القرون التي تلتها ليبقى شاخصًا وشاهدًا على تحصينات مدينة بغداد.
فهو الباب الوحيد المتبقي من أبواب بغداد العباسية الشرقية بعد فقدان الأبواب الأخرى، حيث فجر الجيش العثماني باب الطلسم قبل انسحابهم من المدينة خلال الحرب العالمية الأولى، وضاع الباب الشرقي وباب المعظم نتيجة هدمهما في العهد الملكي، بحجة العمران وتوسيع الشوارع!
يعود تاريخ الباب الوسطاني لعام 1123م حين شرع في بنائه الخليفة المستظهر العباسي وأكمله ابنه المسترشد، ويعد أقدم بناء عمراني عباسي شاخص في بغداد ويمكن زيارته حيث يقع اليوم على طريق محمد القاسم في بغداد.
مرقد زمرد خاتون.. نموذج القباب المخروطية الأنيقة
في مقبرة الشيخ معروف الأثرية الواقعة بجانب الكرخ يوجد مرقد زمرد خاتون زوجة الخليفة المستضيء بأمر الله، المتوفاة عام 599 هجرية ويعتلي القبر قبة مقرنصة مخروطية تعتبر من أجمل القباب المخروطية في العراق وتجسد نموذجًا واضحًا للعمارة الإسلامية العباسية.
المرقد ينسب خطأ لزبيدة خاتون زوجة هارون الرشيد ويطلق عليه العامة إلى اليوم مرقد السيدة زبيدة، لكن الثابت تاريخيًا أن زمرد خاتون شيدت لنفسها هذا المرقد قبل وفاتها وألحقت به مدرسة وأوقفت عليهما أوقافًا كثيرة، وكان البناء متينًا جدًا لأنه شيد بالطابوق والجص وكسيت جدرانه من الداخل بالجص أيضًَا، فقاوم عوامل التخريب وظل شاخصًا إلى يومنا هذا رغم الإهمال وعدم الرعاية، أما المدرسة فقد اندثرت ولم يبق من آثارها شيء.
ختامًا.. إن الحفاظ على الإرث العباسي في بغداد هو حفاظ على هوية بغداد ذاتها من الاندثار، ومع تقدم العلوم وآليات التنقيب والترميم والبناء وتوافر الإمكانات العلمية والمالية للعراق أصبح الإهمال قرارًا سياسيًا متخذًا بحق تاريخ بغداد وتراثها وهويتها المعمارية لا نتيجة العجز.
إن المواقع البغدادية ذات الجذور العباسية التي يجري إهمالها عمدًا كثيرة عديدة ومتناثرة على طول رقعة المدينة، ومنها سوق الصفارين التاريخي الذي يكاد يندثر اليوم، وشارع الرشيد المهمل دون تجديد وجامعه الشهير الحيدر خانة الذي يعود لعهد الناصر لدين الله العباسي، وجامع قمرية القيمرية الذي يعود تاريخه لعهد الخليفة المستنصر بالله، وجامع السراي الذي بناه الناصر الدين الله أيضًا وهو قائم أمام القشلة ومهمل ومغلق، والقائمة تطول بطول تاريخ المدينة والقرون الطويلة التي حكم بنو العباس العالم منها، فهل نجد آذانًا صاغيةً من الحكومة العراقية لإنقاذ ما تبقى من جمال في دار السلام؟!