ترجمة وتحرير: نون بوست
واجه التعاون القائم بين روسيا والاتحاد الأوروبي في مجال الغاز بعض العراقيل في السنوات الأخيرة؛ حيث لم تدخر بروكسل بتشجيع من واشنطن استمر سنوات عديدة، جهدًا من أجل تقليل اعتمادها على روسيا في قطاع الغاز مضحية في بعض الأحيان بمصالحها الخاصة.
وعقب انطلاق العملية العسكرية الروسية داخل الأراضي الأوكرانية، بات تسييس قضية الغاز أمرًا جليًّا للعيان، بعد تمكن البيت الأبيض من إقناع دول الاتحاد الأوروبي من الانضمام إلى صفه واتخاذ خطوة قد تعود بنتائج مدمرة، وهي استبدال الغاز الروسي بالغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة الأمريكية، وقد أثارت هذه الإستراتيجية أزمة طاقة غير مسبوقة في العقود الأخيرة في القارة تهدد بركود اقتصاد منطقة اليورو بأكملها.
ويكشف الوضع القائم اليوم والناتج عن التوترات الجيوسياسية أن قائمة المستفيدين من أزمة الغاز لا تقتصر فقط على الولايات المتحدة بل تشمل تركيا، التي قررت اغتنام الفرصة لتصبح واحدة من أكبر مراكز الغاز في القارة. واستمرت المفاوضات بشأن إمكانية أن تصبح تركيا مركزًا لتوزيع الغاز في أوروبا أكثر من شهر، وقد لجأت روسيا إلى مثل هذه الخطوة جراء سياسة المماطلة التي يتبعها الاتحاد الأوروبي، والتي أدت إلى تعطيل مشروع “نورد ستريم 2” قبل انطلاق الأزمة الروسية الأوكرانية، جنبا إلى جنب مع تخفيض قدرة الطرق الأخرى على توصيل الغاز الروسي للمستهلكين الأوروبيين.
فكرة تحويل تركيا إلى مركز دولي للغاز لم تأتِ من فراغ، فقد دفعت المشاكل الاقتصادية التي تواجهها البلاد منذ فترة طويلة أنقرة للبحث عن طرق للخروج من الأزمة
وهكذا؛ تقلص حجم واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز الروسي في تشرين الأول/ أكتوبر من هذا العام إلى 7 بالمئة بعد ما ناهز نسبة 40 بالمئة العام الماضي. في المقابل، أصبحت الولايات المتحدة المورد الرئيسي للغاز الطبيعي المسال لأوروبا، بعد إرسالها 48 مليار متر مكعب من الغاز إلى هناك.
وفي حال كانت لا تزال هناك فرصة لتغيير الوضع في المستقبل المنظور قبل الهجوم على خطوط نورد ستريم في 26 أيلول/ سبتمبر، غير أن الواقعة كشفت أن الاتحاد الأوروبي، إما بمبادرة منه أو تحت ضغط من الولايات المتحدة وبريطانيا قد يُترك دون إمدادات الطاقة الروسية في المستقبل القريب، وقد يفاقم الوضع قرار وارسو الأخير بشأن تأميم حصة شركة “غاز بروم” في شركة “يوروبول غاز” البولندية، التي تدير الجزء البولندي من خط أنابيب الغاز يامال أوروبا.
في الواقع؛ إن التطور الحالي للأحداث لا يخدم مصالح المستهلكين الأوروبيين، الذين يقوم اقتصادهم على موارد الطاقة الروسية الرخيصة، وروسيا، التي تقوم ميزانيتها على العائدات العالية من النفط والغاز، خاصة في ظل الظرف الراهن والحصار الاقتصادي المفروض على البلاد. وبناء على ما يحدث؛ حول الجانب الروسي انتباهه إلى تركيا، التي تجمعه معها علاقات ودية إلى حد ما.
يُعرف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بقدرته على استغلال المواقف، خاصة فيما يتعلق بمكانته الشخصية. وعليه، فإن فكرة تحويل تركيا إلى مركز دولي للغاز لم تأتِ من فراغ، فقد دفعت المشاكل الاقتصادية التي تواجهها البلاد منذ فترة طويلة أنقرة للبحث عن طرق للخروج من الأزمة، وقد لفت الرئيس التركي الانتباه – حتى قبل العام الجاري – إلى توسيع التعاون مع روسيا في قطاع الغاز.
والجدير بالذكر، أن مشروع خط أنابيب السيل التركي، الذي تبلغ سعته 31 مليار متر مكعب هو بديل لمشروع “ساوث ستريم”، الذي تضمن بناء خط أنابيب غاز من روسيا إلى بلغاريا على طول قاع البحر الأسود بسعة 63 مليار متر مكعب سنويًا، والذي رفضت صوفيا تنفيذه في عام 2014 تحت ضغط من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وبدون رغبة تركيا في الحصول على مزايا إضافية مقابل نقل الغاز الروسي؛ لم يكن بالإمكان إنشاء مشروع السيل التركي الذي تبلغ سعته 31 مليار متر مكعب من الغاز.
تعتبر تركيا حلقة وصل مهمة للنقل باعتبار أن جزءًا كبيرًا من الغاز يمر من خلالها إلى أوروبا
حتى ذلك الوقت؛ كان من الواضح أن أنقرة تعول على توسيع مشاركتها في نقل مواد الطاقة الروسية، غير أنها كانت تنتظر الفرصة المناسبة لتقديم عرض مماثل إلى موسكو. وتعامل أردوغان مع الوضع الحالي بحكمة؛ فلم يفرض شروطًا قاسية على روسيا، بل على العكس من ذلك؛ أظهر استعداده للاستماع والتعاون مع شريكه، وقد أدت إستراتيجية أردوغان إلى تزايد كميات الغاز الروسي عبر خطوط أنابيب السيل التركي طوال العام الحالي. وفي آب/ أغسطس من العام الحالي اتفق فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان على دفع ثمن الغاز بالروبل، وقد انطلق العمل بذلك لأول مرة في الشهر الجاري؛ حيث يتم الحديث عن توريد 25 بالمئة من إجمالي الغاز الروسي، لكن الطرفين يخططان لزيادة هذه النسبة في المستقبل.
وظهرت فكرة إنشاء مركز للغاز في تركيا، والتي كشف عنها فلاديمير بوتين لأول مرة في 12 تشرين الأول/ أكتوبر، على خلفية تطور العلاقات بين موسكو وأنقرة في قطاع الطاقة، وقد أبدى الرئيس التركي استعدادًا لدعمها.
وفي الخامس والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر؛ انطلقت الحكومة التركية في تنفيذ هذه المبادرة، لتدلي في تشرين الثاني/نوفمبر الجاري ببيان أعلنت خلاله عن رغبتها في تحويل التعاون مع روسيا إلى مشروع ضخم ينضوي على إنشاء مركز دولي للغاز، سوف تكشف عن جميع تفاصيله قبل نهاية العام. من جانبه، أعلن وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي فاتح دونماز، أن بلاده تتفاوض بالفعل مع الأطراف المعنية، مشيرًا إلى أنه سيتم اتخاذ الخطوات الأولى لتنفيذ المشروع الذي يتمثل في توريد الغاز الروسي إلى دول الاتحاد الأوروبي في أوائل العام المقبل. في الشأن ذاته؛ تُظهر أحدث البيانات أنه تتم الزيادة في حجم حمولة الخط الثاني من مشروع السيل التركي، الذي يركز على سوق جنوب شرق أوروبا.
وتفسر العديد من الأسباب قدرة تأثير فكرة تحويل تركيا من مركز صغير إلى مركز دولي للغاز على الأسعار وخدمة ذلك ليس لمصالح لأنقرة فحسب، بل لمصالح موسكو أيضا. ففي الوقت الحالي؛ تؤمِّن روسيا وإيران وأذربيجان حاجيات تركيا من الغاز؛ حيث تلقت تركيا العام الماضي حوالي 26.3 مليار متر مكعب من الغاز الروسي، أي ما يعادل 45 بالمئة من إجمالي واردات البلاد من الغاز، وتتلقى سنويا بمعدل 10 مليارات متر مكعب من الغاز الإيراني، وقد بلغت حصتها في ميزان الطاقة التركي لعام 2021 حوالي 16 بالمئة.
علاوة على ذلك؛ تعتبر تركيا حلقة وصل مهمة للنقل باعتبار أن جزءًا كبيرًا من الغاز يمر من خلالها إلى أوروبا، فبالإضافة إلى خط أنابيب الغاز من روسيا، يمر “ممر الغاز الجنوبي” من أذربيجان عبر الأراضي التركية، والذي يشمل خط أنابيب الغاز العابر للأناضول المتجه إلى الحدود اليونانية، وكذلك خط أنابيب “العابر للبحر الأدرياتيكي” الذي يربط بين اليونان وألبانيا وجنوب إيطاليا.
وخُطط هذا العام لزيادة سعة النقل عبر خط أنابيب الأناضول لتصبح 16.2 مليار متر مكعب. وفي أيلول/سبتمبر من العام الجاري كشف الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف عن خطة لمضاعفة حجم الضخ عبر خط أنابيب الأناضول لتصل 32 مليار سنويًا، وعبر خط الأدرياتيك لتصل إلى 20 مليار متر مكعب. وإلى جانب العديد من خطوط أنابيب الغاز المصدرة، تمتلك تركيا أيضا محطتين للغاز الطبيعي المسال، ومنشأتين عائمتين لتخزين الغاز الطبيعي المسال وإعادة تدويره، فضلا عن منشأتان لتخزين الغاز تحت الأرض. مع العلم، أن الرئيس التركي كان قد أعلن في وقت سابق أن بلاده ستبدأ في استخراج الغاز من حقل سكاريا الجديد في البحر الأسود، وهو ما يعكس الإمكانات الكبيرة لتركيا كلاعب جاد في سوق الغاز الأوراسي، بما في ذلك كمركز توزيع دولي.
وبالنظر إلى التوترات الجيوسياسية القائمة، ووقوف القضايا السياسية عقبة أمام التعاون المباشر بين روسيا والاتحاد الأوروبي في مجال إمدادات الطاقة، فإن هذا النوع من المشاريع يخدم مصالح روسيا. وعليه؛ فإن إنشاء مركز دولي في تركيا يتيح لموسكو لا فقط تأمين الإمدادات المستقبلية من جميع أنواع “الحوادث” التي قد تتعرض لها خطوط الأنابيب، بل إخفاء هوية غازها، بحيث سيتلقى المركز الجديد الواقع على الحدود الأوروبية الغاز من روسيا، ليكون بعد ذلك ملكًا لشركة أجنبية، وهو العامل الذي يساعد على اكتساح السوق الأوروبية وبالتالي خدمة مصالح شركة غازبروم.
سيتلقى مركز الغاز التركي الغاز لا فقط من روسيا أو إيران أو أذربيجان، بل أيضًا من شمال العراق ومصر وإسرائيل وقبرص، مما سيخلق نوعًا من المنافسة مع روسيا ويضطرها لخفض الأسعار
في السنوات الأخيرة، أولت غازبروم اهتماما خاصا بالسوق الأوروبية وسط تجاهل تام للشركاء من الشرق. علما بأن خط أنابيب “قوة سيبيريا“، بحجم سعته التي تقدر بـ38 مليار متر مكعب سنويًا، والذي يضمن تدفق الغاز نحو منطقة آسيا والمحيط الهادئ، لن يحل محل خط أنابيب نورد ستريم سواء من حيث السعة أو الربحية، مما يعني أن روسيا مضطرة للبحث عن طرق للحفاظ على إمداداتها نحو الاتحاد الأوروبي، ولم يكن أمامها غير خيار إنشاء المركز التركي لحل هذه المشكلة، رغم أن هذا المشروع يواجه جملة من الصعوبات، ذات طبيعة فنية واقتصادية في المقام الأول.
فعلى سبيل المثال؛ من أجل تنفيذ هذه المبادرة يتوجب على روسيا زيادة إمدادات الغاز بشكل كبير إلى الجزء الأوروبي من البلاد، عبر خط “السيل التركي” و”السيل الأزرق”، الخطوة التي تشترط توسيع نظام نقل الغاز من يامال إلى أنابا وبناء خطوط أنابيب غاز بحرية إضافية. ولم يتبين بعد مدى قدرة غاز بروم على القيام بذلك، خاصة بالنظر إلى عمق البحر الأسود والعقوبات الغربية.
في الوقت الحالي؛ لا يمكن تعليق آمال كبيرة على اهتمام دول الاتحاد الأوروبي بشراء الغاز من المركز التركي، لا سيما أنه موجه في المقام الأول إلى جنوب أوروبا، الذي لا يحتاج إلى الكثير من الغاز في مواسم البرد، ويعاني من قطاع صناعي متخلف مقارنة بما هو عليه في الأجزاء الوسطى والشمالية من القارة.
وتجدر الإشارة إلى أنه في ظل ظروف معينة، سيتلقى مركز الغاز التركي الغاز لا فقط من روسيا أو إيران أو أذربيجان، بل أيضًا من شمال العراق ومصر و”إسرائيل” وقبرص، مما سيخلق نوعًا من المنافسة مع روسيا ويضطرها لخفض الأسعار. وبالنظر إلى الحاجة إلى استثمار مليارات الدولارات في البنية التحتية في واقع شديد التغير مع مستقبل مبهم، قد تواجه غازبروم مشاكل في استرداد تكلفة المشروع.
في سياق متصل؛ يرى بعض الخبراء أن الجانب الروسي يمكنه اللجوء إلى خيار آخر يتمثل في توسيع نطاق عملية تدوير الغاز داخل البلاد عن طريق ضخ 31.5 مليار متر مكعب من الغاز في السوق المحلية. وفي ظل عدم الكشف عن مثل هذه الخطط حتى الساعة الراهنة، يستبعد مشاركة غاز بروم في مشروع إنشاء مركز دولي جديد للغاز في تركيا.
في الحقيقة، يعود التعاون بين روسيا وأنقرة في قطاع الغاز بالنفع على الطرفين. بينما ستحقق تركيا فوائد اقتصادية من هذه الشراكة التي تزيد من أهميتها بالنسبة للاتحاد الأوروبي، تستطيع روسيا تجنب العقوبات المفروضة عليها وتلك التي من المخطط فرضها ضدها في المستقبل، بالتوازي مع الحفاظ على العائدات المتأتية من إمدادات الغاز للمستهلكين الأوروبيين. وبالنظر إلى تضارب هذا المشروع مع خطط ومصالح الولايات المتحدة؛ لن تدخر واشنطن جهدا في المستقبل القريب في سبيل إلغاء هذا المشروع.
المصدر: ريتم أوراسيا