لا يزال الموقف القطري ثابتًا حيال القضية السورية حتى الآن، فرغم التغيرات التي أصابت المنطقة وموجة التطبيع مع نظام الأسد، فإن الدوحة أكدت مرارًا على أهمية الحل بما يتوافق مع مطالب الشعب السوري، وهو ما أكده أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني خلال كلمته أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة منذ أسابيع، حين أشار إلى أن “المجتمع الدولي عجز عن محاسبة مجرمي الحرب في سوريا”.
وأشار الأمير تميم إلى أن بعضهم “يسعى إلى طي صفحة مأساة الشعب السوري بلا مقابل ويتجاهل تضحياته الكبيرة من دون حل يحقق تطلعاته ووحدة بلاده”، وقبل هذه الكلمة صدرت تصريحات صحفية للأمير يتساءل من خلالها: “لماذا نقبل بأن يقوم قائد بارتكاب المجازر ضد شعبه وطرد ملايين اللاجئين من بلاده؟ هل هذا مقبول بالنسبة لنا كبشر؟”، كما رفض تميم “أن يتلخص المسار السياسي بسوريا فيما يسمى اللجنة الدستورية”.
الموقف القطري الثابت يكاد يكون فريدًا في ظل سعي واضح من بعض القوى العربية والإقليمية من أجل إعادة تعويم النظام السوري وإعادته إلى مقعده في الجامعة العربية ومن ثم إعادة شرعنته دوليًا، وهو ما رفضته الدوحة مرارًا وتكرارًا.
في السنوات الأخيرة، نتيجة لانحسار البقعة الجغرافية التي تسيطر عليها المعارضة السورية وسيطرة روسيا وإيران على مفاصل عديدة في مؤسسات نظام الأسد، وإشراف تركيا على ما تبقى من مناطق المعارضة، تراجع الدعم المباشر لفصائل المعارضة، واقتصر الأمر على الإمداد الإغاثي والإنساني والدبلوماسي.
عودة إلى الواجهة
مؤخرًا، عاد الحديث عن ترتيبات لاستعادة الدوحة دورها الفاعل على الساحة السورية خاصة شمال البلاد الواقع تحت سيطرة فصائل المعارضة، بعد اللقاء الذي عقد بين أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني والرئيس التركي رجب طيب أردوغان في منتصف أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حيث اتفق الجانبان على عودة المشاركة الواسعة والفاعلة من الجانب القطري في إدارة الملف السوري.
الصحفي السوري المطلع على حيثيات الموضوع، عقيل حسين، قال لـ”نون بوست” إن اللقاء الذي جمع أردوغان وأمير قطر في يونيو/حزيران من هذا العام تناول الملف السوري وما يشكله من عبء كبير على تركيا خاصة أن كل الدول أوقفت دعم المعارضة السورية، ووفقًا لحسين جرى طرح الموضوع مجددًا في اللقاء الذي جمع الزعيمين مؤخرًا، وتم التوافق على أن تعود قطر للمساهمة في دعم المعارضة وفصائلها مقابل أن توقف تركيا ضغطها على فصائل المعارضة من أجل التفاوض مع النظام.
اتفق الجانبان على أن تتولى قطر التمويل المالي للفصائل في حين تتولى أنقرة الحالة الأمنية، ويتشارك الجانبان في الحالة الخدمية والإنمائية في مناطق الشمال السوري، وتعهدت الدوحة بمحاولة إعادة تجميع الفصائل السورية والعمل على تحسين حالتها، وبالفعل بدأ المسؤولون القطريون الشهر الماضي في الاجتماع بممثلي بعض الفصائل في مناطق الجنوب التركي، وفقًا للصحفي عقيل حسين.
تسعى تركيا لاستثمار عودة قطر إلى الملف السوري من خلال مساهمة الدوحة بشكل أكبر في مشاريع الإسكان والتنمية التي تنوي تركيا تنفيذها بالشمال السوري، تمهيدًا لإعادة مئات آلاف السوريين الموجودين في تركيا إلى هناك قبل الانتخابات المقبلة المقرر إجراؤها في يونيو/حزيران 2023، وبحسب حسين فإن الخطة القطرية ستكون جاهزة للتطبيق في حد أقصى نهاية العام الحاليّ.
الباحث في مركز جسور للدراسات وائل علوان ذكر لـ”نون بوست” أن “الضغوطات التي كانت تستدعي من قطر تخفيف مشاركتها في دعم الفصائل ومؤسسات المعارضة السورية زالت وعادت بالتنسيق مع الجانب التركي للشراكة في دعم المعارضة”، مشيرًا إلى أن “هذا بالتأكيد سيعطي زخمًا أكبر في الحالة السورية”، ويرى علوان أن “الموقف القطري لا يتوقف عند الدعم المادي إنما يتشعب إلى سياسي وشعبي وإنساني”.
وذكرت تقارير صحفية أن اجتماع المسؤولين القطريين مع بعض ممثلي الفصائل في مدينة أنطاكيا جنوب تركيا كان بالتزامن مع الهجوم الذي شنته هيئة تحرير الشام على مناطق سيطرة الجيش الوطني المدعوم من تركيا وخاصة في عفرين، واستمرت الاجتماعات حتى بعد الاقتتال، وتركزت لقاءات القطريين مع قادة سابقين في حركة أحرار الشام بإدلب، الأمر الذي تبعه إعادة ترتيب الحركة لصفوف قيادتها بعد المشكلات التي كانت تتجاذبها.
كما أُشير إلى أن الهدف من تلك اللقاءات هو منع تكرار الاقتتال الداخلي وضبط المشهد الفصائلي، في إطار دعم قطر وتركيا للقضية السورية وثورة الشعب السوري وتنسيقهما المشترك في دعم المعارضة السورية.
كانت عدة ألوية فاعلة ومؤسسة في “حركة أحرار الشام” قد أعلنت في بيان لها، “نزع الشرعية” من قيادة الحركة التي وصفتها بـ”الانقلابية”، وتعيين قائد جديد للحركة تمهيدًا لتشكيل مجلس عسكري موحد، وأصدر كل من “لواء الإيمان” و”لواء الخطاب” و”قوات النخبة” و”لواء الشام” و”كتيبة الحمزة”، بيانًا أعلنوا فيه “عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل سنتين، ونزع الشرعية من القيادة الحاليّة التي لا تمثل أحرار الشام”.
تواصلنا في “نون بوست” مع قيادي في حركة أحرار الشام للاستفسار عن فحوى الاجتماعات التي تمت مع المسؤولين القطريين، إلا أنه لم ينف أو يؤكد صحة هذه الأخبار، مكتفيًا بترحيبه بأي دور عربي بين الفصائل في هذه الفترة، وأشار إلى أن غياب الدول العربية عن المشهد السوري أضر القضية السورية على عدة مستويات سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا، قائلًا: “الدعم القطري لم يغب حتى يعود”، لافتًا إلى أن “السيطرة التركية على الشمال السوري والرقابة الاستخباراتية التركية على الفصائل باتت حائلًا بينها وبين أي تواصل خارجي”.
مؤشرات
رئيس المكتب السياسي في حركة العمل الوطني من أجل سوريا محمد ياسين نجار، قال إن هناك العديد من المؤشرات التي تدل على أن قطر ستعود لتصدر واجهة الأحداث، وأشار ياسين الذي كان رئيسًا سابقًا للجالية السورية في قطر إلى أن أهم المؤشرات هي “كلمة الأمير في الجمعية العامة للأمم المتحدة الأخيرة التي أكدت ضرورة عدم حصر الملف السوري في الشق الإنساني رغم أن كلمات بعض الدول الصديقة حصرته في ذلك”.
المؤشر الآخر هو أنه “بعد الأحداث الأخيرة في الشمال السوري كان واضحًا أن غالبية الفصائل راغبة بتفعيل الدور القطري لحل الأزمة بسبب علاقات قطر الجيدة معهم وامتلاكهم رؤية مشتركة”، ويرى نجار أن اللقاءات التي حصلت في الدوحة بين شخصيات سورية ودبلوماسيين أمريكيين تؤشر إلى أمر جديد في هذا السياق.
وكان المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا، إيثان غولدريتش، قد التقى بالدكتور رياض حجاب، مؤكدًا دعم الولايات المتحدة للعملية السياسية في سوريا، وقالت سفارة الولايات المتحدة في سوريا، عبر “تويتر”، إن غولدريتش أكد في لقائه مع حجاب “دعم الولايات المتحدة لعملية سياسية بقيادة سورية، وتيسرها الأمم المتحدة، من أجل التنفيذ الكامل لقرار مجلس الأمن 2254″، وشدد الدبلوماسي الأمريكي على أنه “بعد أكثر من 11 عامًا من الحرب، لا يستحق السوريون أقل من ذلك”، اللقاء الأمريكي مع حجاب تبعه لقاء بمسؤولين في الخارجية القطرية.
يضاف إلى ما سبق، أنه جرت خلال هذا العام عدة فعاليات للمعارضة السورية في العاصمة القطرية الدوحة خاصة أن كبار شخصيات المعارضة يقيمون هناك مثل رياض حجاب رئيس الوزراء السوري المنشق، إذ عقد كبار الشخصيات السياسية السورية ندوة بعنوان “سوريا إلى أين؟” للنهوض بأداء المؤسسات السورية والتخلص من الأعباء الملقاة على كاهلها، إضافة إلى زيارة رسمية للائتلاف السوري إلى الدوحة ولقائه بالمسؤولين هناك.
مآلات
لكن في حال عودة قطر إلى واجهة الملف السوري هل سيتغير شيء في ظل الاستعصاء السياسي والعسكري الحاصل وفي ظل تشتت فصائل المعارضة وتشرذم المؤسسات؟ في هذا السياق يقول محمد سرميني رئيس مركز جسور للدراسات: “قطر لم تغب عن المشهد السوري سياسيًا وعسكريًا، إنما تراجعت للخلف منذ عام 2017، وهي الآن تعيد تفعيل دور لم يتوقف أصلًا”، ويشير سرميني خلال حديثه لـ”نون بوست” إلى أنه “ما لم تحصل تطورات مفاجئة إقليمية وداخلية يتوقع أن تُسهم قطر في التقليل من حدة الاقتتال بين فصائل المعارضة، وبالتالي لعب دور أكبر في استقرار وأمن مناطق شمال غرب سوريا، وهو تدخل لا بد أن يلقى ترحيبًا من تركيا”.
برأي سرميني أن هذا الدور “قد يمنح قطر حافزًا إضافيًا للإسهام في نظام وقف إطلاق النار بالمشاركة في مراقبة أو ضمان استمراره عبر منصة أستانة”، كما يرى أن عودة الفاعلية القطرية “ستساهم في استقرار الأوضاع في الشمال السوري من الناحية العسكرية”، بحيث تضعف فرص حصول أي تغيرات على خريطة السيطرة العسكرية في المرحلة المقبلة، كما يمكن أن تؤدي عودة الفاعلية إلى تغيرات بالمقابل في الخريطة الفصائلية في الشمال السوري.
أثيرت تساؤلات عما تريده تركيا من إشراك قطر بالملف السوري من جديد، خاصة بعد أن خففت أنقرة تصريحاتها ضد النظام السوري، وفتحت مجالًا للتفاوض معه بل أبدت رغبة بالتصالح معه، وهو ما يناقض التصريحات القطرية الرافضة لأي تطبيع مع بشار الأسد، في هذا الإطار يرى سرميني أن “الدور التركي والقطري في سوريا متكاملان، ويساعد الحضور القطري المباشر في توزيع الأحمال الدولية للملف، حيث يمكن لقطر من خلال علاقاتها مع واشنطن إدارة الملف بصورة أكثر مرونة وأقل تعقيدًا من الإدارة التركية، التي تصطدم مع واشنطن بمؤثرات عديدة في العلاقة بين البلدين”، مضيفًا “كما أن الدور القطري يُساعد تركيا في إعفائها من بعض التبعات السياسية في هذه المرحلة الحساسة التي تشهد الانتخابات الأهم في تاريخ تركيا الحديث”.
يشير سرميني إلى أن “قطر تعارض بشدة أي مسار يقود للمصالحة أو فك العزلة مع النظام السوري، لذلك فإن عودة حضورها للمشهد السياسي والعسكري قد يؤثر على اتجاهات هذا المسار، وإن كانت التوقعات تشير أصلًا إلى أن أنقرة لا تتجه إلى تطبيع للعلاقات مع دمشق، وإنما تستخدم هذا المسار بشكل تكتيكي”، ووفقًا له فإنه “يُفترض أن يكون هذا الدور ملائمًا لتركيا لأن تعدد الفاعلين في مناطق المعارضة لا يخفف العبء عنها فحسب خلال المفاوضات مع النظام وحلفائه، بل يتيح لها قدرة أكبر على المناورة وتحديد سقف واتجاه المباحثات”.
بالمحصلة، استطاعت قطر عبر دعمها للثورة السورية من الأيام الأولى لانطلاقتها حجز دور كبير لتكون أحد الفاعلين الرئيسيين في المشهد، لكن منذ عام 2017 تراجع دورها بضغط دولي، وفي حال عودتها اليوم إلى المشهد السوري فإنها ستخفف الضغط على حليفتها تركيا كما ستستعيد دورها ونفوذها في واحدة من أهم وأكبر القضايا التي تشغل المنطقة والعالم حاليًا.