مضت 18 عامًا على توقيع اتفاقية التبادل الحر بين المغرب وتركيا، ونتيجة لذلك توطّدت علاقات الشراكة الاقتصادية التي تجمع بين البلدَين، يؤكّدها ارتفاع حجم التبادل التجاري إلى ما يقرب 38 مليار دولار في عام 2021، والذي من المتوقع أن يصل إلى 50 مليار دولار كهدف منشود.
مؤخرًا، وصف وزير التجارة والصناعة المغربي، رياض مزور، علاقات بلاده التجارية مع تركيا بأنها “تشهد تحولًا كبيرًا، وتحققت فيها الكثير من الإيجابيات”، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن الميزان تمَّ تعديله ليصير متكافئًا كما أراد المغرب، بل أن عجزه التجاري تفاقم مع تركيا بمقدار 5.8 مليارات درهم (حوالي 540 مليون دولار) عام 2021، ليبلغ 23.2 مليار درهم (2.16 مليار دولار)، ما دفع الرباط إلى طرح شروط جديدة أخرى على أنقرة من أجل استمرار اتفاق التبادل الحر.
أشار الوزير المغربي كذلك إلى أن “المغرب يجلب استثمارات كبيرة من تركيا، وأن الأتراك أصبحوا يستثمرون بقوة في الصناعة، سواء لوحدهم أو بالشراكة مع المستثمرين المغاربة”، والواقع هو أن الإحصاءات تقول إن استثمارات الأتراك في المغرب تمثل أقل من 1% من مجموع الاستثمار الأجنبي في البلاد، بمبلغ لم يتجاوز 2.9 مليار درهم (حوالي 270 مليون دولار) خلال العشرية الأخيرة.
إغراق السوق يدفع إلى مراجعة الاتفاقية
قبل أزيد من عامَين، اتفقت الرباط وأنقرة على مراجعة بعض بنود اتفاقية التبادل الحر، بحكم الخسارة الكبيرة التي حصدها الطرف الأول بتكلفة تناهز مليارَي دولار أمريكي، وكان وزير التجارة والصناعة المغربي آنذاك، مولاي حفيظ العلمي، قد لوّح بـ”تمزيق الاتفاقية”، متّهمًا تركيا بإغراق الأسواق بالمنتجات، خاصة منتجات النسيج، ما تسبّب في فقدان 119 ألف منصب شغل في القطاع المحلي للألبسة.
وكان المصنّعون المغاربة يذهبون إلى النسيج التركي، نظرًا إلى أنه يتمتّع بإمكانية خفض الضرائب، واسترجاع الضريبة على القيمة المضافة، زيادة على انخفاض أسعار فوائد القروض.
يرى مراقبون أن اتفاقية التبادل الحر بين المغرب وتركيا لم تقُم على أساس مبدأ “رابح-رابح”، لهذا طالب المغرب بتعديل الاتفاقية
غير أن الشكوى لم تقتصر على الواردات التركية من النسيج فحسب، فقد لجأ قطاع الصلب المغربي إلى تحكيم منظمة التجارة العالمية في عام 2017، بسبب ما اعتبره إغراقًا للسوق بالمنتجات التركية.
وبالفعل دخلت تعديلات التبادل الحر حيز التنفيذ، بدءًا من مايو/ أيار 2021، بالتالي أصبحت بعض المنتجات التركية خاضعة لرسوم جمركية لمدة 5 سنوات، قابلة للتمديد 5 سنوات أخرى، لتبلغ 90% من قيمة الرسوم الجمركية المطبّقة، كما يلتزم الطرفان بمراجعة تطبيق الاتفاقية بنحو دوري، لإجراء التعديلات بتوافق مشترك، بهدف تقليص المنتجات التي تشملها الرسوم الجمركية أو تخفيض الرسوم إن أمكن.
الكفّة دائمًا تميل للأتراك
يرى مراقبون أن اتفاقية التبادل الحر بين المغرب وتركيا لم تقُم على أساس مبدأ “رابح-رابح”، لهذا طالب المغرب بتعديل الاتفاقية من أجل إعادة التوازن لعمليات التبادل التجاري، خاصة بعدما عرف حجم الصادرات التركية نحو المغرب ارتفاعًا صاروخيًّا بنسبة 72% بين عامَي 2013 و2018، في حين أن الصادرات المغربية نحو تركيا لم تتعدَّ 500 مليون يورو، بينما رقم الصادرات التركية نحو المغرب يتعدّى 1.4 مليار يورو.
تعمل في المغرب 160 شركة تركية في عديد من المجالات، في مقدمتها البناء والتشييد، والتجارة بالجملة والتقسيط والنسيج
مضى عامان على توقيع الاتفاقية عام 2004 لكي تدخل إلى حيز التنفيذ، إلا أنها ظلت غير متوازنة حتى عام 2016، ثم ارتفعت فجأة حتى فاقت 170% لصالح تركيا، حيث كانت أسواق المغرب تستقبل العديد من السلع والمواد الغذائية، الأمر الذي أدّى إلى تضييق الخناق على المقاولات المغربية، التي لم تستطع أن تنهض بنفسها نظرًا إلى قوة الشركات التركية.
حتى مع تطبيق التعديل، اتضح أن الميزان التجاري لم يتوازن بعد، حيث أن كفته بقيت تميل لصالح تركيا، ولو أن المغرب تمكّن من تقليص عجزه التجاري نسبيًّا، فقد ظلت الخسائر هي نفسها تقريبًا التي أغضبت الطرف المغربي سابقًا، فخاض بالتالي معركة من أجل مراجعة اتفاق التبادل الحر مع تركيا.
الأكثر إبرامًا للتبادل الحر.. الأكثر تضررًا
الواقع هو أن اتفاقيات التبادل الحر التي أبرمها المغرب مع نحو 56 دولة، تبدو في مجملها غير متكافئة ولا تصبّ في صالح الاقتصاد الوطني للمغرب، لهذا ارتأت السلطات الاقتصادية أنه بات من الضروري إعادة تقييم هذه الاتفاقيات ومراجعتها.
أجرى المغرب، مطلع عام 2022، مفاوضات مع مصر حول الصعوبات التي تواجه اتفاق التبادل الحر بين البلدَين، انتهت بالاتفاق على ولوج سيارات “رونو” المنتَجة بمنطقة طنجة (شمال البلاد) إلى السوق المصرية بإعفاء تام من الرسوم الجمركية.
أما الاتفاق السابق مع تركيا (التعديل)، فقد نصَّ على إدراج قائمة سلبية تضم أكثر من 1200 منتج تحت 630 تعرفة جمركية تشمل عدة قطاعات، حيث تمَّ استبعادها من الامتيازات الجمركية.
حجم الاستثمارات التركية لا يساير حجم مبيعاتها في المغرب، ومع ذلك قد يُكتب لهذه الاستثمارات قفزة نوعية، خاصة أن العلاقات في تطور ونمو
على صعيد استثتمار، تعمل في المغرب 160 شركة تركية في عديد من المجالات، في مقدمتها البناء والتشييد، والتجارة بالجملة والتقسيط والنسيج وغيرها، كما يقدَّر حجم استثمار رجال الأعمال الأتراك في المغرب بقيمة المليار دولار، مع توفير فرص عمل لقرابة 8 آلاف مغربي.
ويستثمر المغاربة في تركيا بقطاع التجارة من خلال استيراد المواد الغذائية والأثاث والملابس والسيارات والأجهزة الكهربائية وغيرها، ويستثمرون أيضًا في العقار قصد كسب امتيازات عديدة، بما فيها الحصول على الإقامة القانونية أو الجنسية، والتي تتطلب بنص القانون شراء عقار في البلاد بقيمة لا تقلّ عن 400 ألف دولار أمريكي، كما تعدّ تركيا وجهة سياحية رئيسية سنوية لدى العديد من المغاربة.
في الواقع، يبدو أن حجم الاستثمارات التركية لا يساير حجم مبيعاتها في المغرب، ومع ذلك قد يُكتب لهذه الاستثمارات قفزة نوعية، خاصة أن العلاقات في تطور ونمو، وتشهد على ذلك الرسائل الإيجابية التي يتبادلها قادة البلدَين، وتحتفي بها وسائل الإعلام التركية والمغربية، كما من المرتقب أن يتبادل البلدان زيارات رفيعة المستوى من أجل تعزيز فرص التعاون في العديد من المجالات، على رأسها الاقتصاد والتجارة والدفاع والتعليم.