كانت الإمبراطورية العثمانية مظلة لجميع المسلمين على اختلاف مشاربهم وأصولهم وعرقياتهم، واحتضنت إلى جانب المسلمين أممًا من ديانات وملل عديدة، إلى أن دخل العالم في المرحلة الانتقالية التي تفتّتت فيها الإمبراطوريات إلى دول وكيانات صغيرة وظهرت الدولة الحديثة، فورثت الجمهورية التركية عن السلطنة المنحلّة مجتمعات تضمّ طيفًا واسعًا من الأعراق، وعدّتهم جميعًا أتراكًا بموجب دستورها.
نتتبّع في ملف “أعراق تركيا” من “نون بوست” الموطن الذي ينحدر منه مواطنو الجمهورية التركية، نتعرّف إلى تاريخهم وثقافتهم واندماجهم في المجتمع ونشاطهم السياسي.
التنوع العرقي وأزمة الدولة القومية
يشير مفهوم العرق إلى تقسيم الناس إلى مجموعات على أساس من الخصائص المادية، وما يتبع ذلك من عملية إسناد المعنى الاجتماعي لتلك المجموعات، إذ يعتقد بعض علماء الاجتماع أن التقسيمات طبقًا للعرق تعتمد على مفاهيم اجتماعية أكثر من اعتمادها على أسُس بيولوجية، ومثال ذلك تقديم الأشخاص أنفسهم أنهم من السكان الأصليين أو أمريكيين أفريقيين.
بينما تصف الإثنية الخصائص الثقافية المشتركة للناس في منطقة جغرافية معيّنة، بما في ذلك لغتهم وتراثهم ودينهم وعاداتهم.
ويعدّ التنوع العرقي أحد أشكال التعقيد الاجتماعي الموجود في معظم المجتمعات المعاصرة، حيث عبر التاريخ كانت القوة هي التي توحّد الشعوب المتنوعة تحت حكم مجموعة مهيمنة، إما بجلب الشعوب لاستخدام مهاراتهم في مصلحة وبناء الدولة، وإما بهجرة الناس لأسباب اقتصادية أو تعرضهم للاضطهاد الديني والسياسي الذي أجبرهم على الرحيل من مواطنهم الأصلية.
عندما ظهرت الدولة القومية في القرن العشرين، والتي تهدف أساسًا إلى الوحدة السياسية، وبالتالي الوحدة الاجتماعية، ظهرت أزمة التنوع العرقي، وتعرّضت الكثير من الأعراق للإبادة أو الطرد مثل سياسة النازيين ضد اليهود.
فيما اختارت دول أخرى حلولًا تبدو أقل وحشية ودموية، وقامت بفرض الثقافة السائدة على باقي المجموعات العرقية في البلاد، وفي أماكن أخرى من العالم كان الانسجام الاجتماعي الطوعي هو الحل.
طوّرت دول مثل سويسرا شكلًا من أشكال التعددية، حيث تتركز المجموعات العرقية الرئيسية الثلاث في كانتونات منفصلة، تتمتع بالسيطرة المحلية داخل اتحاد ديمقراطي.
جذور الوجود التركي في آسيا الوسطى
تعدّ منطقة الأناضول من أبرز المناطق الاستراتيجية المركزية في العالم، إذ تشرف على البحر الأبيض والبحر الأسود وبحر إيجه، وتتوسّط القارات الثلاث أفريقيا وآسيا وأوروبا، ما جعلها جسرًا لعبور الكثير من القبائل، فيما اتخذتها بعضها موطنًا وأقامت فيها الحضارات.
شهدت الفترة الممتدة بين القرن العاشر الميلادي والقرن السابع عشر الميلادي، هجرة القبائل التركية من موطنها الأصلي في أواسط آسيا إلى غرب آسيا وشرق أوروبا.
أصبحت أراضي الأناضول والمعروفة باسم آسيا الصغرى موطنًا للأتراك مع سيطرة السلاجقة عليها، بعد هزيمة الإمبراطورية البيزنطية في معركة ملاذكرد الشهيرة عام 1071م/ 463هـ، التي حدثت قرب الحدود الشرقية الحالية للجمهورية التركية قرب بحيرة وان.
رابط فيلم تعريفي بمعركة ملاذكرد
مع ازدياد الضغط على الأتراك من الشرق من قبل الغزو المغولي، تدفّق المزيد منهم إلى آسيا الصغرى حيث أقاموا دويلات صغيرة، وعلى العكس ممّا يحدث عادةً لم تفقد القبائل التركية ثقافتها وهويتها بالذوبان مع السكان المحليين، بل تعلق السكان المحليون (ذوو الأصول اليونانية والأرمينية) بالقادة الأتراك واكتسبوا منهم الثقافة واللغة والدين الإسلامي، واندمجت الفئتان وراثيًّا وشكّلتا العرق التركي الذي هيمن على آسيا الصغرى حتى يومنا.
يجدر بنا الإشارة إلى أن تحول الشعوب التي أقامت في آسيا الصغرى قبل الأتراك إلى الدين الإسلام، كان يعني أيضًا أنهم أصبحوا أتراكًا، ومع سيادة الدولة العثمانية لاحقًا أصبحت اللغة التركية هي السائدة رسميًّا في الأناضول، وأصبحت هذه المنطقة تضمّ أكبر تجمع للشعوب الناطقة بالتركية.
الهجرة إلى الأناضول وتراكيا خلال حقبة الإمبراطورية العثمانية
تحدث الهجرات عادة نحو مركز الدولة لأسباب اقتصادية أو سياسية أو إدارية، أو من خلال استقدام الخلفاء للصناعيين والحرفيين لتنفيذ مشاريع خاصة وبناء المدن والمنشآت.
توسّعت الدولة العثمانية نحو بلاد البلقان أثناء حكم السلطان محمد الفاتح، ودخل الألبان تحت حكم الإمبراطورية عام 1468م، حيث انتقل بعضهم إلى مدينة إسطنبول وأسّسوا منطقة أرناؤوط كوي.
إلا أن موجات الهجرة المهمة من البلقان حدثت أثناء الحرب الروسية العثمانية عام 1877، حيث غادر بلغاريا مليون ونصف مسلم، وصولًا إلى عام 1912 حين خسرت الدولة العثمانية حرب البلقان وخرجت جميع أراضي البلقان باستثناء تراكيا الشرقية عن السيطرة العثمانية، ووصل إلى أراضيها حوالي 3 ملايين إنسان.
كانت للهجرات التي شهدتها الدولة العثمانية، مع تقلُّص جغرافيتها السياسية، دور أساسي في تكوُّن البنية الاجتماعية والاقتصادية للأناضول بشكلها الحالي.
أدّى توسع روسيا وسيطرتها على القرم، ونفي سكان شبه الجزيرة خارج أرضهم، إلى بدء موجات من الهجرة من عام 1772 واستمرت حتى عام 1922، ويقدَّر عددهم بنحو 2 مليون إنسان.
إثر حرب القرم أيضًا، قررت روسيا التضييق على مسلمي القفقاس بحجّة عدم تقديمهم الدعم الكافي لها أثناء الحرب، إذ تعرّضت قراهم وبيوتهم للنهب والحرق، كما لقيَ عشرات الآلاف منهم حتفهم أثناء تهجيرهم فترة 1862-1865؛ والقفقاس هم المجموعات الإثنية المختلفة من الشركس والأبخاز والشيشان.
أسّس العثمانيون بنية إدارية مستقلة لتنسيق شؤون هؤلاء اللاجئين، وإسكانهم وتأمين المأوى لهم، والحيوانات والبذور للزراعة، وتنسيق المعونات التي يحصلون عليها من الدولة أو من السكان المحليين.
بالعموم، شهدت أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين موجات هجرة قسرية من رعايا الدولة العثمانية باتجاه الحدود الحالية للجمهورية التركية، بسبب انهيار الإمبراطورية العثمانية وخسارتها حرب البلقان عام 1912 والحرب العالمية الأولى، وتعرّض السكان المسلمون العثمانيون للاضطهاد في أراضيهم ومواطنهم التي خرجت من عباءة الحكم العثماني، حيث وجدوا في تركيا وطنهم الأمّ القادر على حمايتهم.
كما كانت أراضي الإمبراطورية العثمانية وجهة قسم من المهاجرين من الطبقة المثقّفة، التي هاجرت من بولونيا عقب إلحاق بلدهم بالقيصرية الروسية عام 1830، وأسّسوا منطقة بولونيزكوي في إسطنبول.
وفي هذه المرحلة الحسّاسة من التاريخ التركي، يذكر الباحث سلمان سالم كسغين نقطة مهمة في التحول البنية الاجتماعية للبلاد: “.. فالنخب العثمانية التي تحركت بدافع الحفاظ على بقاء الدولة، أبدت موقفًا سياسيًّا يركّز على التركية، وهذا أدّى إلى تطوير فكرة تنادي بنقل غير المسلمين خارج الأناضول، ثم انتقلت هذه الفكرة إلى الجمهورية التركية باعتبارها أجندة سياسية مهمة. وتحولت البنية المجتمعية العثمانية التي كانت قبل هذه الهجرات بنية فسيفسائية متعددة الجنسيات واللغات والأعراق، إلى بنية ذات أغلبية مسلمة كانت تعيش قبل الهجرات في مناطق جغرافية أصغر”.
الهجرة إلى تركيا بعد إعلان الجمهورية عام 1923
بعد الإعلان عن تأسيس الجمهورية التركية بحدودها الحالية على يد مصطفى كمال أتاتورك، وتوقيع اتفاقية لوزان، كان تنفيذ اتفاقية مبادلة السكان بين اليونان وتركيا أول موجات الهجرة في العهد الجمهوري، حيث وصل إلى البلاد حوالي 384 ألف شخص من اليونان، مقابل مغادرة أكثر من مليون شخص إلى اليونان، وكان ذلك خطوة في إنجاز خيال الدولة الوطنية المتجانسة الذي أشار إليه الباحث في الأعلى.
وبحسب دائرة الهجرة التركية، فقد قَدِمَ إلى تركيا خلال العهد الجمهوري حتى عام 1950 حوالي 300 ألف شخص من مقدونيا – يوغسلافيا، إضافة إلى موجات لجوء استمرت حتى عام 1989 من بلغاريا شملت حوالي 800 ألف إنسان.
شهدت تركيا بعد ذلك موجات نزوح ولجوء واسعة مرتبطة بالأحداث الدموية والقمعية والحروب التي مرّت بها المنطقة المجاورة، فاستقبلت لاجئين من تركستان الشرقية بعد احتلال الصين للإقليم، وحوالي مليون شخص بعد قيام الثورة الإيرانية، وآلاف الهاربين من العراق بعد أحداث حلبجة وحرب الخليج عام 1991، ولاجئين من أفغانستان، إضافة إلى ملايين اللاجئين السوريين بعد الثورة السورية عام 2011، وأخيرًا أتراك أهيسكا ولاجئين أوكرانيين.
بطبيعة الحال، لم يدخل جميع المهاجرين ضمن النسيج الاجتماعي التركي، ولم يستقر جميعهم على الأراضي التركية، ولا تزال تركيا تكافح لتأمين حدودها للحدّ من الهجرة غير المنظمة.
العرقيات التركية وفق معاهدة لوزان
قانونيًّا، تنص المادة 66 من القانون التركي على أن كل من يحمل الجنسية التركية هو تركي.
من المهم عند الحديث عن التنوع العرقي في تركيا الإشارة إلى أن معاهدة لوزان 1923 لم تتطرّق إلى ذكر الأقليات العرقية ووضعها في تركيا، بل اقتصرت على ذكر الأقليات الدينية من غير المسلمين (الأرمن – اليونانيون – اليهود)، وضمان حقوقها والتحدث بلغاتها والسماح لها بممارسة شعائرها الدينية، وهي المعاهدة التي وقّعها المجلس الوطني الكبير (البرلمان) التركي من جهة، وممثلون عن المملكة المتحدة وفرنسا وإيطاليا واليابان واليونان ورومانيا وبلغاريا والبرتغال وبلجيكا ويوغوسلافيا من جهة أخرى.
وبالتالي، فقدت العرقيات المتنوعة الأخرى حقها القانوني في التعبير عن نفسها، وواجهت مشكلات في الحفاظ على ثقافتها ولغتها، وسنتناول كل هذا بالتفصيل في التقارير القادمة بإذن الله.
بالمحصلة، الإحصاءات العامة تشير إلى وجود عشرات الأعراق بنِسَب مختلفة ضمن أراضي الجمهورية التركية، وهم عرب، وزازيون، وشركس، وجورجيون، وأرمن، ويونانيون، وألبان، وآشوريون، وآراميون، وبوسنيون، وشيشانيون، وبلغاريون، ولازيون، وروس، وألمان، وإستونيون، ورومانيون، ومجموعات عرقية من قفقاسيا وأوزبك وقرغيز وقازان وتتار وأذريين وغيرهم؛ الأمر الذي يكشف عن تنوع عرقي كبير في هذه الأرض، يحظى بعضهم بكامل حقوقه، ويناضل آخرون لنيل ما يرونه حقوقًا مسلوبة.