يفاجئنا فرع الأدب من جائزة نوبل منذ عدة سنوات بأسماء بعيدة نسبيًا عن مركزية المشهد الأدبي العالمي المعاصر، ولم تكن هذه عادة الجائزة قديمًا، فقد حصل الروائي والفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر على الجائزة في 1964، بعد إصدار أكثر من عشرة كتب توزعت بين المسرحية والرواية والدراسة الأدبية والفلسفية، بينما حصل الأمريكي ويليام فوكنر على نوبل 1949، بعد صدور رائعته “الصخب والعنف” في 1929، الجدير بالذكر هنا أن “الصخب والعنف” هي العمل الأكثر شهرة لفوكنر، التي حولته إلى أديب ذي حضور عالمي، لا سيما من جهة الانتشار النقدي والتجاري.
على جهة أخرى، فاجأت نوبل قُراء الأدب ونقاده بفوز المُغني الأمريكي بوب ديلان، ربما في هذه الحالة كانت الجائزة مضاعفة، لأنها كشفت عن شاعر مختبئ وراء أغنيات ديلان، بالإضافة إلى كونية مرجعيته الإنسانية ودفاعه المخلص عن الأقليات ومناهضة حرب فيتنام.
لدينا أولغا توكارتشوك، الناشطة البولندية التي حصدت نوبل تكريمًا لقدرتها النافذة على قراءة العالم من خلال الخيال، وفي السنة السابقة حصل البريطاني من أصول تنزانية مغربية عبد الرزاق قرنح، تقديرًا لرواياته الملخصة لأدب ما بعد الاستعمار.
تأتي الروائية الفرنسية آني إرنو، الفائزة بنوبل 2022، كحدث إضافي في ثيمة التنوع التي تلتزم بها نوبل مؤخرًا، فلدينا خمس أرضيات متباينة في السنوات الخمسة الأخيرة دفعت نوبل لاختيار أصحاب الجوائز، لكن إرنو، رغم التوقعات الكثيرة لحصدها الجائزة، تأتي فرديًا لتساعد في صعود صنف أدبي مُجهل قليلًا من حيث تراتبية جودة الأدب، نوع أدب السيرة.
ولدت آني في فرنسا عام 1940، ورغم أنها أصدرت أول أعمالها في مطلع ثلاثينيات عمرها، فإنها أثبتت حضورها منذ عملها الأول “خزائن فارغة” وطرحت مشروعها الواقعي المتلزم القائم على مساءلة الذاكرة وإعادة إنتاج العالم المحيط من خلال الحدث الشخصي والنبش الدائم، المُبطن بالشك، في جنبات الماضي.
بعيدًا عن رحابة الخيال واحتماءً بالهامش، تابعت إرنو كتاباتها انطلاقًا من سؤال كوني، وهو النظر في الزمن ببعد واحد، يتداخل فيه الماضي والحاضر والمستقبل، وتكون فيه الذاكرة مشاعية.
كتبت إرنو بحرية وشجاعة تضرب بحيثيات الاحتماء الفردي وصعوبة الكشف الذاتي ضرب الحائط، كتبت عن والديها، عن أحداث ماضية كُبرى في حياتها، عن شعورها بالخيانة لموقعها الطبقي العُمالي، وعن التجرد من كل شيء، من حتى نوعها جنسي، ومُساءلة الذات والكتابة من قاعدة (شخص مُجرد يكتب).
السؤال الخلاق
في حوار لها تقول آني عن أسئلة الكتابة عن عملها الأول “خزائن فارغة”: “علمت أن ما أكتبه غير نمطي إلى حد ما، لكنني لم أطرح على نفسي سؤالًا يتعلق بالكتابة، في أثناء كتابتي لهذا العمل، لم أكن أعرف ما إذا كان سيتم نشره أم لا بعد ذلك”. منذ أول كتاباتها، أدركت إرنو عدم نمطية منتجها، وهو أول حاجز، قلِق، يضعها أمام ضعف احتمالات الوصول للجمهور، لأن الأخير بطبعه يميل إلى أشياء أكثر انتماءً للألُفة وللرائج المُتفق عليه، غير أن صاحبة رواية المكان لم تتوقف عند هذا الحد، لدينا مثلًا فوكنر الذي كتب “الصخب والعنف”، وهو مؤمن أن مستقبله الأدبي محكوم عليه بالفشل، لذلك حاول الوصول إلى أكثر شيء يُرضيه في الكتابة، وكانت “الصخب والعنف” بوابته للحضور العالمي.
بالنسبة لإرنو، انشغلت أكثر بعملية الكتابة ذاتها، بعيدًا عن حيثيات النشر وأسئلة مدى الانتشار، ربما لذلك تواجدت بالفعل منذ روايتها الأولى.
ذاتية الأسئلة عند إرنو، لم تكن حاجز بينها وبين النظر إلى العالم وتضمينه في الكتابة، وتحقيق عامل التواصل بين كتابتها ومختلف القراء، كتبت آرنو انطلاقًا من سؤال مبدئي: كيف يمكننا تقدير الأسئلة البسيطة التي تدور حول ما نعيشه بشكل عادي؟ هناك سلطة سحرية للعادي، اختبأت بين كتابات إرنو، ونزعت عن الأبعاد السياسية مركزية حضورها، لكنها لم تغفلها تمامًا، لأن الحيز السياسي عندها كان نتاج السؤال الخلاق الذي يشمل الذات أولًا، وينتقل بها إلى العالم، حيث كل علاقة ورمز أخلاقي وكود اجتماعي، وكيف نتداوله في حياتنا ونحيله إلى واقع، هو ممارسة سياسية مختبئة داخل الحكاية.
سؤال الكتابة الخلاق عند إرنو، لا يدفع حكاياتها إلى تعددية المكاشفة، سواء كانت ذاتية أم عمومية منفتحة على العالم، ربما نشأ سؤال الكتابة عند إرنو قبل التفكير أصلًا في الكتابة، لأنه كان، بشكل مسبق عندها، هو سؤال النظر إلى الآخر.
نشأت إرنو ضمن طبقة عُمالية، تعلمت ودرست اللغة الإنجليزية من بين سيدات كثيرات طمحن أكثر للعيش المستقر، ومن خلال والدتها التي كانت قارئة نهمة، أدركت إرنو كيفية تقدير ذاتها، لأن والدتها كانت تساعدها على الإيمان بذاتها، وتخبرها أنها تستطيع تحقيق ما هو غير ممكن ولم يتمثل في محيطها من النسوة.
لهذه النشأة القائمة على كسر تابوه النوع وتفاوت الأحقية في الحياة والتجربة، واجهت إرنو كتابتها بمعايير حادة، إذ اعتمدت على الجملة القصيرة الخالية من الجماليات، التناول المباشر للأشياء دون حواف منمقة للحكي، وطالما حولت الكتابة إلى “نبش أليم في جروح الذاكرة بمشرط حاد”، مثلما تقول الكاتبة دينا قابيل في مقال “آني إرنو.. كاتبة منا”.
سيرة فرد أم سيرة جماعة؟
تقول الكاتبة جون ديدون إن الكتابة في أحد أشكالها “فعل عدائي تمحور حول قول أنا، كأن الكاتب يقول انصت إلي، انظر بعيني، غير رأيك!”، تنتمي هذه المقولة إلى أدب آرنو بشكل كبير، لأنها حينما تعيد إنتاج أجزاء من سيرتها، فإنها لا تُسائل ماضِ حياتها فقط، بل تسائل ماضي قُرائها أيضًا، وهنا تكمن أحد الآثار المركزية لأدب السيرة، أنه يجعلنا منفتحين أكثر على الآخر، مُسلحين بمزيد من الحكايات لخلق رؤى أكثر امتدادًا عبر الحياة والعيش.
في مقدمة رواية “الحدث” تقول المترجمة هدى حسين إن آرنو “تكمل عندي جملًا لم أقلها، وتنهي مراحل لا أرغب في أن أعيشها كاملة”، وفي نفس السياق، تقول المترجمة نورا أمين في مقدمة “البنت الأخرى – لم أخرج من ليلي” إنها عاشت قصص إرنو كأنها حكاياتها الشخصية، غاصت فيها وتجسدتها، توحدت معها حتى خُيل إليها أحيانًا أنها تُكتب من قبل آرنو بشكل شخصي.
الانطباعات النقدية السابقة ليست لمجرد قارئتين، بل لمترجمتين تجاوزتا حدود القراءة العابرة، وتعرضتا من خلال سياقات متنوعة لدواخل الكتابة عند آرنو، نتج عن ذلك حالة من المكاشفة، استعادة قيمة الكتابة الذاتية وتمثيلات سيرة الجماعة فيه، إذ إن هذا النوع، متمثلًا في آرنو، يعمل على بتر مساحات كبيرة من حياة القارئ، ويعمل أيضًا على إتمام مساحات أخرى كانت تحتاج إلى ذلك.
تتحول القراءة إلى مشروع مكاشفة مُتفق عليه مسبقًا بين القارئ والحكاية، لا توجد وساطات، ولا توجد احتمالات التواطؤ والعبور بالحكاية إلى قراءة آمنة ومتدفقة، يظل التدفق حاضرًا، لكنه يمر بداخلنا، ويجعل الحكاية هي حكاياتنا أيضًا.
كانت إرنو واعية منذ البدء بنوع الكتابة الذي تكتبه، لأنها نشأت في مرحلة ذروة أدب المقاومة، أو الأدب القومي الكبير حسب تعبير ميلان كونديرا، قرأت إرنو في مطلع شبابها جان بول سارتر ورفاقه من طليعي الأدب الفرنسي آنذاك، لكنها مع ذلك حولت فعل المقاومة بالكتابة إلى مساحة مختلفة، تتعلق بالعادي وسلطته الخفية علينا.
مثلما بدأت إرنو الكتابة من خلال الأسئلة، تظل حتى الآن ابنة بارة للسؤال أيضًا، يبدو ذلك في حوار حديث لها، تقول فيه: “لكن على مدار العامين الماضيين، بدأت أشعر بضغوط الغناء للعديد من الأنماط على الصفحة، وبدأت أتساءل: كيف يبدو صوتي، متحررًا من القالب؟ هل لدي حتى واحدة؟”.