لم يكن صباح الأربعاء 23 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022 عاديًّا بالنسبة إلى المنظومة الأمنية الإسرائيلية، بعد التفجير المفاجئ الذي أدّى إلى مقتل إسرائيلي وإصابة 22 آخرين بجراح متفاوتة، في عملية تعيد إلى الأذهان سلسلة العمليات التي كانت المقاومة تنفّذها خلال انتفاضة الأقصى.
وجاءت العملية لتواصل سلسلة العمليات المتواصلة منذ بداية عام 2022، والتي سجّلت أعدادًا هي الأكبر منذ عام 2005، تجاوزت معها أعداد القتلى في صفوف الاحتلال الإسرائيلي الـ 30 قتيلًا، وهو أكبر من أعداد القتلة التي سُجّلت خلال انتفاضة القدس عام 2015.
وبحسب إحصاءات مركز المعلومات الفلسطيني “معطى”، فقد كانت من أبرز العمليات النوعية خلال العام الجاري، عملية دهس وطعن نفّذها الشهيد محمد أبو القيعان في بئر السبع المحتلة في 22 مارس/ آذار، أدّت إلى قتل 4 جنود وإصابة 2 آخرين.
وبتاريخ 27 مارس/ آذار، تمَّ تنفيذ عملية إطلاق نار نفّذها الشهيدان إبراهيم وأمين اغبارية في الخضيرة المحتلة، قتلا فيها إسرائيليَّين اثنَين وجُرح 12 آخرين، إلى جانب عملية إطلاق نار نفّذها الشهيد ضياء حمارشة في تل أبيب المحتلة، في 29 مارس/ آذار، قُتل فيها 5 وأُصيب 6 آخرين.
اللافت في الفترة الأخيرة هو تنوع أدوات العمل المقاوم، سواء عبر عمليات الطعن أو الدهس مرورًا بالاشتباك من نقطة صفر.
وفي 7 أبريل/ نيسان، تمَّ تنفيذ عملية إطلاق نار نفّذها الشهيد رعد خازم في تل أبيب المحتلة أدّت إلى مقتل 3 وجرح 15 إسرائيليًّا، فيما نفّذ الأسيران يحيى مرعي ويوسف عاصي في 29 أبريل/ نيسان عملية إطلاق نار في مستوطنة آرئييل بسلفيت، أدّت إلى مقتل إسرائيلي.
ووفقًا للإحصاءات، فقد شهد يوم 5 مايو/ أيار عملية إطلاق نار وطعن نفّذها الأسيران أسعد الرفاعي وصبحي عماد في مستوطنة العاد شرق تل أبيب، قُتل فيها 3 وأُصيب 4، ونفّذ الشهيدان أحمد عابد وعبد الرحمن عابد عملية إطلاق نار في 14 سبتمبر/ أيلول، قرب حاجز الجلمة في جنين، قُتل فيها إسرائيلي.
وشهد شهر أكتوبر/ تشرين الأول تنفيذ 3 عمليات، ففي 8 أكتوبر/ تشرين الأول نفّذ الشهيد عدي التميمي عملية إطلاق نار في القدس المحتلة أسفرت عن مقتل إسرائيلي وإصابة اثنَين، كما جرى تنفيذ عملية إطلاق نار نفّذتها مجموعات عرين الأسود قرب مستوطنة شافي شمرون شمال غرب نابلس في 11 أكتوبر/ تشرين الأول، أدّت إلى مقتل إسرائيلي.
وفي 29 أكتوبر/ تشرين الأول، نفّذ الشهيد محمد الجعبري عملية إطلاق نار قرب مستعمرة كريات أربع شرق الخليل، قتل فيها إسرائيلي وأُصيب 5 آخرين، فيما نفّذ الشهيد محمد صوف في 15 نوفمبر/ تشرين الثاني عملية طعن في مستوطنة أرئيل المقامة على أرض مدينة سلفيت شمال الضفة الغربية المحتلة، وقتل خلالها 3 مستوطنين وأصيب 3 آخرين بجروح خطيرة.
اللافت في الفترة الأخيرة هو تنوع أدوات العمل المقاوم سواء عبر عمليات الطعن أو الدهس مرورًا بالاشتباك من نقطة صفر، أو استخدام عبوات ناسفة وتفجيرها عند مرور الجنود والاشتباك مع دوريات الاحتلال الإسرائيلي.
مقاومة بلا انتماءات فصائلية
ميزتان أساسيتان هما الأبرز للتصعيد الحالي، الأولى أن الجيل الفلسطيني الشاب، الذي أسّس تشكيلات المقاومة مثل “عرين الأسود” في نابلس أو “عش الدبابير” و”كتيبة جنين”، هو الجيل الذي تشكّل بعد عام 2000.
ولا يمكن اعتبار المواجهة الحالية في الضفة الغربية شبيهة بنظيراتها السابقة بعد أوسلو، فهي لا تتبع الفصائل، ولا تمتلك هياكل تنظيمية وقيادة واضحة، ولا تبحث عن ثمار سياسية أو منافع اقتصادية، وتعود جذور هذه التجربة إلى فترة 2014-2015 تقريبًا، حين برز جيل جديد مشتبك بعيدًا عن الضوابط الفصائلية.
وإضافة إلى ذلك، تلعب مواقع التواصل الاجتماعي دورًا في اتساع رقعة المساندة الشعبية لها ولمنفّذيها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما تعبّر عنه مخاوف المنظومة الأمنية للاحتلال من تحول تلك العمليات من حالات فردية إلى توجُّه عام، وانتقال ما يجري في نابلس وجنين إلى محافظات ومناطق أكثر.
يمثل هذا النموذج المستجدّ سرَّ قوة وضعف المواجهة الحالية، فمن جهة يعطيها قوة أمام الاحتلال العاجز عن استخدام مقارباته التي درج عليها خلال وبعد انتفاضة الأقصى (2000-2005)، المتمثلة في سياسة “جز العشب”، فقد عمد الاحتلال خلال انتفاضة الأقصى إلى استهداف قيادات الأذرع العسكرية عبر تسلسل طبقي، فاغتال في المرحلة الأولى قادة الصف الأول عبر الطيران والصواريخ الموجهة والسيارات المفخخة.
يمكن فهم الفعل الميداني الحالي على أنه مسار مختلف تكوّن في الميدان، درسَ منظومة القمع الإسرائيلية، وبنى تجربته على أساس ذلك.
وفي مارس/ آذار-أبريل/ نيسان 2002، انتقل الاحتلال إلى استهداف قيادات الصفَّين الثاني والثالث عبر الاغتيال والاعتقال، ما خلق فراغًا قاد إلى تراجُع حادّ وفوضى في عمل هذه الأجنحة، وصولًا إلى تلاشي تلك التجربة، التي كانت متصلة مع تجربة انتفاضة الحجارة.
استمر الاحتلال بعد ذلك في انتهاك مناطق الضفة، عبر عمليات استهدفت قتل أية فرصة تعيد إحياء الأجنحة المسلحة، من خلال تثبيت قاعدة غياب الحواضن الآمنة المحصّنة، التي تسمح بترعرع هذه الحالات، على التوازي مع القتل والاعتقال المباشر.
هذا بالتحديد أدّى إلى تراجع دور السلطة الفلسطينية الأمني، التي لم تجد منذ 28 سبتمبر/ أيلول 2000 مساحة تمارس عليها السيطرة الكاملة، وتقدمها نواة للدولة المبتغاة.
من هنا، يمكن فهم الفعل الميداني الحالي على أنه مسار مختلف تكوّن في الميدان، ودرس منظومة القمع الإسرائيلية، وبنى تجربته على أساس ذلك، فقد نجحت المجموعات المقاومة الشابة في بناء حواضنها الشعبية داخل البلدة القديمة في نابلس ومخيم جنين، وحوّلت هذه الحواضن إلى مراكز جذب وبناء وعي سياسي، الأمر الذي مكّنها من تحويل العمليات المنفردة التي برزت في العامَين 2014 و2015، إلى حالة عامة تنتقل من مكان إلى آخر.
كان من الممكن قراءة الفعل الميداني قبل أسابيع على أنه حالة متموضعة في جنين ونابلس، حتى مع بداية حصار الاحتلال لنابلس، بدا وكأن الأمر مسعى إسرائيلي لعزل الحالة، لكن نجح عدي التميمي في نقل الفعل الميداني من التموضع إلى التدحرج، ثم جاءت عملية الخليل التي نفّذها الشهيد محمد الجعبري لتؤكد حالة التدحرج وتعزز من العجز الإسرائيلي.
وتشير هذه المعطيات إلى نموذج من نماذج التوسع في الاشتباك، أفقيًّا على مستوى الانتشار في الضفة الغربية، من الشمال إلى الوسط والجنوب، وعموديًّا عبر انخراط أكبر في المواجهة بكل محافظة، مع بقاء الحالة القائمة بعيدة عن التنظيم السياسي الفصائلي، أو حتى الوصاية الأبوية السياسية التي تميّز بها الاشتباك مع المشروع الاستعماري خلال العقود الثلاثة الماضية.
وإضافة إلى الكرة المتدحرجة، فإن ثمة حالة من التكيُّف واضحة من قبل الفلسطينيين في الضفة والقدس المحتلتَين في التعامل مع الإجراءات والعقوبات الإسرائيلية المفروضة، وحتى الملاحقة للمطاردين والمقاومين في الفترة الأخيرة، ما من شأنه أن ينتج نماذج جديدة بشكلٍ مستمر ودائم، دون أن يؤدي ذلك إلى نجاح الاحتلال في إنهاء ما يتم حاليًّا من محاولات لضبط المشهد في ساحة الضفة.
بين حكومتَين.. هل يختلف التعامل الإسرائيلي؟
مع مغادرة الحكومة الائتلافية التي قادها رئيس وزراء الاحتلال يئير لابيد وشريكه نفتالي بينيت، وقرب وصول بنيامين نتنياهو إلى الحكم من جديد بعد أقل من عامَين على مغادرته، يبدو السؤال الأبرز هو كيفية التعامل الإسرائيلي مع المشهد في الضفة.
اتّبع نتنياهو خلال فترة وجوده في الحكم سياسة الاحتواء وضبط المشهد دون الولوج في مواجهات مفتوحة مع الفلسطينيين، خصوصًا في الضفة المحتلة، وسعى كثيرًا إلى تحييد جبهة الضفة الغربية والقدس المحتلة عن المواجهة.
لكن يبدو هذه المرة أن المشهد والصورة مختلفة بالكلية، خصوصًا مع حضور شخصيات متطرفة في حكومة نتنياهو مثل بن جبير وسموتيريش، وسعيهم إلى تعزيز الاتساع الاستيطاني وإعادة نشر البؤر الاستيطانية في الضفة الغربية.
لا يغفل الاحتلال عينه كثيرًا عن جبهة غزة التي تواصل تطوير قدراتها العسكرية، وسط اتهامات إسرائيلية متواصلة لها بالوقوف وراء تشكيل المجموعات في الضفة وتمويلها
والمرجّح أن صعود الأحزاب اليمينة المتطرفة في الاحتلال سيسهم في إشعال المشهد أكثر ممّا هو عليه الآن، ويعزز من حالة الاشتباك وتنفيذ العمليات من قبل الفلسطينيين، سواء المجموعات المقاومة أو بالشكل الفردي الذي يطلق عليه الاحتلال اسم “الذئاب المنفردة”.
بالتوازي مع ذلك، لا يغفل الاحتلال عينه كثيرًا عن جبهة غزة التي تواصل المقاومة الفلسطينية تطوير قدراتها العسكرية، وسط اتهامات إسرائيلية متواصلة لها بالوقوف وراء تشكيل المجموعات في الضفة وتمويلها ومساعدتها عسكريًّا وماليًّا.
وسط كل ذلك، من المتوقع ألا يكون تفجير القدس هو العملية الأخيرة، حيث سيتكرر الأمر عدة مرات مع اتساع رقعة المقاومة في مختلف مناطق الضفة والقدس المحتلتَين، مرورًا بتصاعد التطرف الإسرائيلي وعمليات الاستيطان وابتلاع الأراضي.