أثارت الزيارة الأخيرة التي قام بها قائد قوة القدس، إسماعيل قاآني، إلى بغداد الأسبوع الماضي، العديد من التكهُّنات، بعد تهديده بالقيام بأعمال عسكرية أحادية الجانب، من أجل كبح جماح المعارضة الكردية الإيرانية المتمركزة في إقليم كردستان، في حال لم تقُم الحكومة العراقية بواجباتها في نزع سلاح هذه المعارضة ومسك الحدود مع إيران.
تبعت هذه الزيارة تصريحات مماثلة من قبل السفير الإيراني في بغداد، محمد آل صادق، معبرًا في مقابلة تلفزيونية عن تصميم إيراني واضح على إنهاء هذا الملف، محمّلًا حكومة الإقليم مسؤولية استمرار الهجمات الإيرانية على مواقع المعارضة.
هذا الموقف الإيراني أعاد تسليط الضوء على الطريقة التي تتعاطى بها إيران مع ملف “السلاح الكردي” في العراق، ففي الوقت الذي تقدم فيه إيران دعمًا ماليًّا ولوجستيًّا وعسكريًّا واضحًا لحزب العمال الكردستاني (PKK)، وتوظفه في صراعها الجيوسياسي مع تركيا، نجدها من جهة أخرى تتخذ موقفًا متشددًا من المعارضة الكردية الإيرانية في الإقليم، وما بين الطرفَين تدرك إيران أن إدارة هذا الملف تحتاج إلى مزيد من البراغماتية السياسية من أجل إدامة هذه الميزة، طالما أنها تحقق بالنهاية المصلحة الوطنية الإيرانية.
التخادم الأمني بين إيران وحزب العمّال
قد يُطرَح تساؤل مهم هنا، هل إيران تمتلك علاقات وثيقة مع الحزب؟ يمكن القول بدايةً إن هناك علاقة تكتيكية تربط إيران بحزب العمال الكردستاني، وهذه العلاقة لا تبتعد في مساراتها عن العلاقة التي تربط النظام الإيراني بتنظيم القاعدة، أي أنها علاقة أشبه ما تكون بعملية “استثمار بالعدو”، لتحقيق أهداف استراتيجية بكُلَف سياسية أقل، إلا أنها لا ترقى لعلاقات إيران بالجماعات الشيعية المسلحة، إذ إن العلاقة هنا قائمة على أساس العقيدة والولاء وليس البراغماتية أو المصلحة.
قامت عملية التخادُم الأمني بين إيران وحزب العمال على أساس اتفاقات سرّية جرى توقيعها بين الطرفَين، حيث قضت هذه الاتفاقات بمنع عناصر الحزب من تنفيذ عمليات ضد إيران على الحدود الغربية، وكذلك منع مجموعات المعارضة الكردية الأخرى من العمل ضد النظام الإيراني، في مقابل الاستفادة من التعاون والدعم الإيراني، خاصة في العراق، بل أن الحزب أصبح اليوم ذراع إيران الطويلة للتأثير على حكومة إقليم كردستان.
تمكّنت إيران من القيام بعمليات التهريب وتجارة المخدرات وغسيل الأموال، عبر مناطق سنجار والإدارة الذاتية الكردية شمال سوريا نحو تركيا وأوروبا
وفي سياق هذا التخادم أيضًا، كثّف جهاز استخبارات الحرس الثوري، وعبر مقرّ رمضان العسكري المتواجد في مدينة كرمنشاه الإيرانية على الحدود العراقية الإيرانية، عملية التنسيق مع الحزب، للتأثير على تحركات جماعات المعارضة الكردية الإيرانية في الإقليم، عبر قواعد الحزب المتواجدة في جبل هاكورك، إلى جانب كبح جماح عمليات حزب الحياة الحرة الكردستاني الإيراني، وهو فرع تابع لحزب العمال على الساحة الإيرانية، إلا أن هذا الواقع لم يدُم كثيرًا، وهو ما أظهرته الاحتجاجات الأخيرة في إيران، وتحديدًا في مناطق كردستان إيران.
إذ تمتلك استخبارات الحرس الثوري علاقات وثيقة جدًّا مع جميل بايك، زعيم حزب العمال الكردستاني، وهو شيعي علوي، كما هو الحال مع أغلب قادة الصف الأول للحزب، وعلى إثر هذه العلاقات تمكّنت إيران من القيام بعمليات التهريب وتجارة المخدرات وغسيل الأموال، عبر مناطق سنجار والإدارة الذاتية الكردية شمال سوريا نحو تركيا وأوروبا، وشكّلت هذه العمليات مدخلًا لحصول إيران على ملايين الدولارات، في الوقت الذي تخضع فيه لعقوبات أمريكية مشدّدة.
المعارضة الكردية في الإقليم تحت النار
في الوقت الذي تشهد فيه إيران تصاعدًا في الاحتجاجات المناهضة للنظام، تأتي عمليات الهجوم بقذائف صاروخية وطائرات مسيّرة انتحارية من قبل الحرس الثوري، لأهداف عسكرية تابعة لمواقع تواجد جماعات المعارضة الكردية الإيرانية في إقليم كردستان، لتُثير العديد من التساؤلات حول طبيعة تواجد هذه الجماعات في الإقليم، والتهديدات التي تشكّلها لإيران.
توجد عدة أحزاب كردية معارضة للنظام الإيراني، بعضها متمركز داخل حدود الإقليم، والبعض الآخر على الحدود مع إيران، وتنتشر في عدة مدن مثل أربيل والسليمانية.
رغم أن تاريخ المعارضة الكردية يرجع إلى مرحلة ما قبل الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، إلا أنه توسّع بشكل أكبر بعد نجاح الثورة ارتباطًا بعدد من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي انعكست بدورها على وضع الأقلية الكردية في إيران.
وتبرز هنا الفتوى الشهيرة للقائد الأعلى للثورة الإسلامية، آية الله الخميني، في أغسطس/ آب 1979، عندما أعلن “حالة الجهاد” ضد “المتمردين” الأكراد، وتحديدًا في مدينة سنندج (التي تشهد احتجاجات حالية مناهضة للنظام).
هذا السلوك العنيف حيال السكان الأكراد، دفع بالعديد من قوى المعارضة الكردية للانتقال إلى الخارج، وتحديدًا إلى العراق وبعض الدول الأوروبية، وفي الوقت الذي كانت فيه المعارضة الكردية في مرحلة ما قبل الثورة تقتصر على حزبَين رئيسيَّين، هما الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني “حدك” وحزب عصبة الكادحين الثوريين الإيراني “كوملة”، إلا أنه في مرحلة ما بعد الثورة نشأت العديد من الأحزاب الكردية المعارضة للنظام، والتي بدأت تجدُ في “الكفاح المسلح” طريقًا للدفاع عن الحقوق القومية الكردية في إيران.
وتوجد اليوم عدة أحزاب كردية معارضة للنظام الإيراني، بعضها متمركز داخل حدود الإقليم، والبعض الآخر على الحدود مع إيران، وهي بمثابة الأحزاب الرئيسية للمعارضة الكردية، وتنتشر في عدة معسكرات في مدن أربيل والسليمانية.
رغم الانتشار الواسع لهذه الجماعات في إقليم كردستان، فإن هذا التواجد لم يشكّل في أي مرحلة من المراحل تهديدًا حقيقيًّا للداخل الإيراني
بدءًا من فبراير/ شباط عام 2017 تأسّس مكتب “مركز تعاون الأحزاب الكردستانية الإيرانية” لتنسيق نشاطاتها في الإقليم، وتمتلك معظم هذه الأحزاب أجنحة مسلحة، لكنها على عكس حزب العمال لا تقوم بنشاطات مسلحة واضحة داخل الإقليم، كما لا تمتلك معسكرات كبيرة أو أسلحة هجومية، وقدراتها العسكرية محدودة للغاية مقارنة بالقدرات العسكرية لدى حزب العمال، وترتكز بصورة رئيسية على السلاح الخفيف.
كما ينتشر أعضاؤها غالبًا في مقرّات إيواء لعائلات، إلى جانب مواقع عسكرية صغيرة في الجيوب الحدودية مع إيران، فضلًا عن محدودية نشاطها الإعلامي.
وفي هذا السياق أيضًا، رغم الانتشار الواسع لهذه الجماعات في إقليم كردستان، فإن هذا التواجد لم يشكّل في أي مرحلة من المراحل تهديدًا حقيقيًّا للداخل الإيراني، والأكثر من ذلك أن هذه الجماعات، ونتيجة لطبيعة النفوذ الإيراني في العراق، لم تنجح في توفير منافذ دعم لوجستي ومالي وعسكري كما هو الحال مع حزب العمال، ما جعلها تعتمد نهج المعارضة السياسية للنظام الإيراني، إضافة إلى المناوشات العسكرية البسيطة عبر خلاياها المتواجدة في مناطق كردستان إيران، أكثر من الدخول في مواجهات مسلحة غير متكافئة معه.
الحكومة العراقية الحلقة الأضعف
واجه العراق تحديات كبيرة في سياق التعاطي مع ملف تواجد جماعات المعارضة الكردية في إقليم كردستان، وهي تشبه التحديات التي يواجهها حيال ملف تواجد حزب العمال، إذ ترفض حكومة إقليم كردستان إشراك الحكومة الاتحادية في ملفات تتعلق بنشاطات داخل حدود إقليمها، وترفض نشر قوات اتحادية داخل الإقليم أو على الحدود مع إيران.
وتوجد بين مناطق إقليم كردستان وإيران 3 منافذ رسمية، واحد منها على حدود محافظة أربيل، واثنان في السليمانية، فيما أشارت معلومات ميدانية إلى أن هناك أكثر من 39 منفذًا غير رسمي بين الأراضي الإيرانية وإقليم كردستان، وهي منافذ تمثل تحديًا أمنيًّا يواجهه العراق، إذ يتمّ استخدام بعضها من قبل جماعات المعارضة الكردية في التنقُّل عبر الحدود والتسلُّل إلى الداخل الإيراني.
طهران تعتقد أن إخماد الاحتجاجات التي انطلقت أولًا في المدن الكردية سيكون مفتاحًا لإخمادها في بقية مناطق البلاد، فمقارّها مكشوفة للاستخبارات الإيرانية
يضاف إلى ذلك، عدم وجود اتفاق سياسي عام في العراق حول المعارضة الكردية في الإقليم، ففي الوقت الذي تحاول فيه حكومة الإقليم إبقاء هذا التواجد بعيدًا عن المناقشات السياسية، تحاول أطراف سياسية عراقية مقرّبة من إيران إنهاء هذا التواجد، وتحديدًا الفصائل المدعومة من الحرس الثوري التي شنّت منابرها الإعلامية هجومًا قويًّا على حكومة الإقليم، بسبب احتضانها للمعارضة الكردية.
وأجبرَ هذا الواقع الحكومات العراقية المتعاقبة على اعتماد سياسة الاحتجاج الدبلوماسي على الهجمات التي تشنّها إيران داخل الإقليم، وهو ما حدث في الهجمات الأخيرة المستمرة.
إجمالًا، إن عدم تمكُّن العراق من معالجة هذا الملف بصورة فاعلة، جعل إيران توظفه لحسابات السياسة الداخلية والخارجية كلما دعت الحاجة، ففي الهجمات الحالية جاء التوظيف الإيراني عنيفًا، بغية الضغط على الحزبَين الكرديَّين الحاكمَين في الإقليم (الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني)، للتأثير على أقرانهما داخل إيران من أجل تهدئة الاحتجاجات، لأن طهران تعتقد أن إخماد الاحتجاجات التي انطلقت أولًا في المدن الكردية سيكون مفتاحًا لإخمادها في بقية مناطق البلاد.
كما أن مواقع المعارضة الكردية تبدو هدفًا سهلًا، فمقارّها مكشوفة للاستخبارات الإيرانية، باستثناء قسم منها متوارٍ في الجبال، ما يمنح طهران إمكانية الحصول على مكاسب سريعة للاستهلاك المحلي، في ظل غياب أي دور عراقي فاعل لإنهاء هذه المعضلة الأمنية.