الأنباط
كانت مملكة الأنباط واحدة من الممالك القوية التي حكمت شبه الجزيرة العربية خلال القرون القديمة، فقد بدأت في القرن الرابع قبل الميلاد وامتدت حتى عام 105م، بعد تدميرها على يد الإمبراطور الروماني تراجان الذي ضمّها إلى مملكته فيما بعد.
بلغت المملكة التي اتخذت من مدينة البتراء (الأردن حاليًّا) عاصمة لها، أوج عزها واتّساعها في القرن الأول الميلادي، حين امتدت حدودها إلى أطراف الفرات والأقسام الجنوبية من فلسطين وحوران وأدوم، حتى اتصلت بالبحر الأحمر ومدين إلى ديدان جنوبًا، كما ضمّت لها فيما بعد دمشق ووصلت جنوبًا حتى مدائن صالح وحدود مصر غربًا في سيناء.
كانت مقوّماتها الجغرافية عاملًا هامًّا في تعزيز نفوذها وحضورها، فقد كانت تتكوّن من أراضٍ صخرية حجرية وفيها جبال وشعاب ووفرة في المياه، كل ذلك جعلها واحة زراعية مزدهرة، كما أن موقعها الاستراتيجي على مفارق طريق البخور التجاري الشهير بين الشرق والغرب حوّلها إلى دولة تجارية محورية.
ويعدّ النبطيون من الموضوعات النقاشية التي كانت مثار جدل بين المؤرّخين والباحثين، سواء من حيث الأصول أو الإسهامات الحضارية، وهو ما يفسّر حجم التجاهل لتلك الحقبة المهمة من التاريخ العربي، رغم أن معالم تلك المملكة لا تزال حاضرة حتى اليوم في مدينة البتراء الأردنية، والتي تحتوي على جبل الرقيم الصخري المقدس، وهو الآن موجود عند وادي موسى، علاوة على منطقة أمّ الجمال في الشمال الأردني ومدائن صالح شمال غرب السعودية والنقب في فلسطين.. فماذا عن تلك المملكة التي غابت عن اهتمام المؤرّخين لقرون طويلة؟
من هم الانباط
أبناء ثمود
يشير الباحث التاريخي عزام أبو الحمام في كتابه “الأنباط: تاريخ وحضارة” إلى أن هناك تبايُنًا في وجهات النظر بين الباحثين حول أصل الأنباط، فيما ذهب الغربيون منهم إلى أن تلك الحضارة ليست عربية بالمرّة وأنها لشعوب قادمة من خارج الجزيرة العربية، مستبعدين أن تكون تلك الحضارة لشعوب بدوية رعوية، وهو الرأي الذي ثبت تطرفه فيما بعد.
من بين تلك الآراء ما أشار إليه ابن منظور من أن النبط هو الماء الذي ينبط من البئر، وأيضًا ما يتجلّب من الجبل كأنه عرق من عروق الصخر، فيما ذهب آخرون إلى أن أصل الأنباط جاء من “نبايوت” الوارد في التوراة (سفر التكوين، 13:25 و9:28)، ونبايوت هذا هو الابن البكر للنبي إسماعيل حسب التوراة.
يربط أنصار هذا الرأي الأنباط باسم “نبيت” الوارد في سجلّات الملك الآشوري تجلات بلاسر (727-745ق.م) التي تحكي تاريخ الحروب التي وقعت بين قبائل متعددة قادمة شمال شرقي الجزيرة العربية والقوات الآشورية، غير أن ثمة مؤشرات لغوية تدحض أي رابطة بين “نبيت” و”نبطو” بحسب أبو الحمام.
وثمة من يشير إلى أن الأنباط أصلًا لم يكونوا قبيلة واحدة مثلما يعتقد البعض، بل أنهم تجمُّع واسع من القبائل الجزرية إضافة إلى بعض العناصر البشرية من مجموعات أخرى من الشمال ومن بلاد الشام، وهو الرأي الذي ذهب إليه المؤرّخ فريدمان عام 1992.
بعض الاجتهادات تميل إلى أن الأنباط قَدِموا من الساحل الغربي للخليج العربي، فيما مالت أخرى إلى أنهم قَدِموا من جنوب بلاد الرافدين، مستندين في ذلك إلى ورود اسم الأنباط من بين القبائل الرافدية أي النبطيين، وخصوصًا في كتب الإخباريين المسلمين.
وبحسب المؤلف، فإن الراجح أن يكون الأنباط جزءًا من قبائل ثمود الوارد ذكرها في القرآن الكريم، والتي كانت تنتشر في وسط الجزيرة العربية وشمالها، وهو ما توثّقه النقوش المكتشَفة في مناطق الجزيرة التي كانت موطنًا للكثير من القبائل التي تحمل الصفات والخصائص نفسها، وهناك الكثير من الشواهد التي تميل إلى هذا الرأي، فالوجود النبطي المتأخّر في شمال غرب الجزيرة العربية وحتى جنوب بلاد الشام وشرقها يعتبر امتدادًا طبيعيًّا لوجود الثموديين.
مملكة الانباط
4 مقاطعات رئيسية
في كتابه “مملكة الأنباط: دراسة في الأحوال الاجتماعية والاقتصادية”، يقسم الباحث خالد الحموري مملكة الأنباط إلى 4 مقاطعات رئيسية كوّنت فيما بينها تلك المملكة الممتدة قرابة 5 قرون كاملة، وهي:
أولًا: مدينة البتراء التي كانت عاصمة الأنباط الرئيسية، واسمها إشارة إلى كل جبل مقدّس يصعب صعوده، وتعني لغويًّا “الصخرة” أو “الحجر”، وكان العرب يطلقون عليها “الرقيم”، وتقع بقايا تلك المدينة اليوم في وادي موسى في المكان الذي يسمّى “الجي” شمال الأردن.
مسرح نبطي من القرن الأول الميلادي في البتراء، الأردن
ووفق الدراسات، فقد مرّت البتراء بالعديد من محطات الازدهار والركود، إذ بدأت في زمن التسلُّط الفارسي ثم العهد الهلنستي، والذي أثّر كثيرًا في إمكانات المدينة، وهو ما جعلها تتحول إلى قلعة اقتصادية كبيرة ومحطة تجارية دولية، حيث وصل التجّار النبطيون إلى صيدون شمالًا وبيتولي في إيطاليا.
ثانيًا: مدينة الحجر (مدائن صالح) التي تقع على بُعد 20 كيلومترًا شمال مدينة العلا السعودية وعلى بُعد 400 كيلومتر جنوب شرق البتراء، وكانت تُعرَف لدى البعض بـ”هيجرا” أو “هجرا”، لكنها عربيًّا أُطلق عليها “مدائن صالح” نسبة إلى نبي الله صالح الذي أقام بها لدعوة أهل ثمود.
عرف المجتمع النبطي الطبقية والتمايز المجتمعي من خلال تعدد الشرائح وفق الثروات والوظائف والنفوذ المالي والتجاري.
تشير الدراسات إلى أن نشأة تلك المدينة يرجع إلى أوائل الألف سنة قبل الميلاد، وقد تعاقب على حكمها الكثيرون، بداية من الديدانيين ثم اللحيانيين حيث اتخذوها مدينة وعاصمة لهم في القرن الثاني قبل الميلاد، ثم تنامى نفوذها في عصر الحارث، الملك الرابع للأنباط (9ق.م-40م)، وكانت إحدى القلاع الاقتصادية كذلك.
مدائن صالح في السعودية ثاني أكبر مدينة في المملكة النبطية.
ثالثًا: أمّ الجمال وتقع على مسافة 12 كيلومترًا شرق مدينة المفرق الأردنية، مبنية من الحجر الأسود الناري، وتمتد شرقًا فتتداخل مع حدود جبل الدروز حتى تصل إلى بلدة بصرى الموجودة حاليًّا في سوريا.
تمتّعت تلك المدينة بمركز تجاري مهم لموقعها الاستراتيجي على طريق وادي السرحان، وزادت أهميتها في زمن الملك النبطي رابيل الثاني، عندما نقلَ العاصمة من البتراء إلى بصرى فازدادت أهمية الطريق التجاري إلى الصحراء السورية عبر وادي السرحان الذي تقع أمّ الجمال على امتداده.
رابعًا: النقب وتقع جنوب الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهي مدينة ثلاثية الشكل، يحدّها غربًا شبه جزيرة سيناء ومن الشرق وادي عربة وشمالًا تتصل بالسهل الساحلي المطلّ على البحر الأبيض المتوسط، وشهدت نهضة زراعية كبيرة في العهد النبطي رغم أنها ذات طبيعة صحراوية جافة، حيث الطفرة الكبيرة في استصلاح الأراضي واستنباط المياه، وتتكون تلك المدينة من العديد من المناطق الصغيرة مثل عبدة وخلاصة وعوجا الحفير وسبيطة.
الطبقية والتبايُن المجتمعي
كبقية الممالك الاقتصادية الكبرى، عرف المجتمع النبطي الطبقية والتمايز المجتمعي من خلال تعدُّد الشرائح وفق الثروات والوظائف والنفوذ المالي والتجاري، فالفئة العليا هي من تسيطر على البلاد لما تملكه من إمكانات مادية، تليها الفئة الأقل التي تتحوّل إلى أدوات لتنفيذ أهداف وطموحات ومشاريع الطبقة العليا، ثم الفئة الأدنى التي تقوم على خدمة الفئتَين الأولى والثانية، وأخيرًا الفئة الأجنبية المتواجدة في البلاد بصورة مؤقتة، وتنقسم تلك الفئات إلى 4، هي:
فئة الارستقراطية العربية
تضمّ أصحاب المعابد ورجال الدين وملّاك الأراضي الكبيرة وشيوخ القبائل وكبار التجّار والموظفين ونواب الملك في المحطات التجارية، وكانت تهيمن تلك الفئة على مقدرات الأمور والسلطة في المملكة، بما لديها من نفوذ مالي وثراء مادي لا يتوفر لغيرها، فكانت عصب البلاد ومسيّرها الأول.
فئة المواطنون الأحرار
تتكون من الفلاحين والصنّاع والتجّار من متوسطي رؤوس الأموال، وكانت تُمنَح تلك الفئة بعض الإقطاعات الزراعية الصغيرة لسدّ رمقها وتجنُّب ثورتها، كما كانت تخضع للضرائب، وفي أوقات الحروب والأزمات كانت تحوَّل تلك الفئة إلى التالية، وهي العبيد.
يعدّ النبطيون من أكثر شعوب العرب تديُّنًا، حيث للآلهة مكانة خاصة مقدسة لديهم.
فئة العبيد
محرومة تمامًا من أي حقوق سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، وهي في الغالب تابعة للأرض تعمل بها وتخدم أسيادها، وبعض كتب الأدب كانت تصفها بـ”الصعاليك” وكان دورها تلبية حاجات الطبقة الارستقراطية وخدمة المجتمع في الزراعة والتجارة، وكانت هذه الفئة منتشرة في كثير من الممالك وليس الأنباط فقط.
مجسمات حجرية لملوك الأنباط
فئة الأجانب
في ظل تحول البتراء إلى مدينة تجارية عالمية في ذلك الوقت، فإنها كانت قبلة للتجّار من كافة بلدان العالم، ومن ثم كان بها شريحة كبيرة من التجّار الأجانب يتمركزون بها، بعضهم لفترات طويلة وآخرين لفترات قصيرة حتى انتهاء معاملتهم التجارية ثم يعودون إلى أوطانهم مرة أخرى، وكان هذا حال المدن التجارية الكبرى الأخرى كميسان وتدمر.
تعاقب على حكم الأنباط أكثر من 11 ملكًا، أبرزهم حارثة الأول (169-120ق.م)، حارثة الثاني (120-95ق.م)، عبادة الأول (95-88ق.م)، رب إيل الأول (88-87ق.م)، حارثة الثالث (87-62ق.م)، عبادة الثاني (61-60ق.م)، مالك الأول (62-30ق.م)، عبادة الثالث (30-9ق.م)، مالك الثاني (40-70م) ورب إيل الثاني (70-106م).
الحياة الدينية
يعدّ النبطيون من أكثر شعوب العرب تديُّنًا، حيث للآلهة مكانة خاصة مقدسة لديهم، ورغم عدم توفر الكثير من الوثائق حول ديانة الأنباط، إلا أن الراجح في ضوء ما وصل أنهم كانوا وثنيون حيث عبدوا الشمس في احتفالات أقيمت على قمم المعابد، وقاموا بتكريم آلهتهم في المنازل والشوارع من خلال احتفالات خاصة.
هناك عشرات الآلهة التي عبدها النبطيون، أبرزهم الإله “ذو الشرى” الذي يأتي على رأس مجموعة الآلهة النبطية، فهو الرب الأكبر الذي اتّسم بطبيعة كوكبية متمثلة بالشمس، واشتهرت عبادته في العاصمة البتراء، ومنها انتشرت عبادته إلى سائر الأنحاء، وكان يقصده الحجيج كل عام في يوم 25 ديسمبر/ كانون الثاني للتقرُّب إليه وسؤاله وتعبُّده.
علاوة على ذلك، كانت هناك آلهة أخرى منتشرة في معظم مدن المملكة، منها اللات، وهبل، وشيع القوم، والكتبا، ومناة، والعزى، وقوس، وقيس، ومناف، وسعد، وسعيد، ورضا، وإيزيس، وأعرا، وبُصرى، والجي، وداد أو حدد، وتره أو تهره، وأتارجاتيس.
كما اهتم الأنباط بالمعابد الدينية فجعلوا لها أفضل المباني وأضخمها تمجيدًا للآلهة، وكانت تختلف أشكال المعابد، فمنها ما هو مربّع وآخر مستطيل، إلا أن معظمها كان تكعيبيًّا، وهو الأسلوب الأكثر انتشارًا في سوريا والجزيرة العربية والعراق، ومن أشهر المعابد التي بناها النبطيون معبد خربة الذريح ومعبد خربة التنورو ومعبد قصر البنت ومعبد اللات في وادي رم والخزنة.
العمارة والتحضر
تميّز الأنباط في تدشين مبانيهم على أسُس معمارية فريدة، فهم من الممالك القليلة التي نجحت في تحويل الصخر والحجارة إلى مدن وقرى لا تزال حاضرة حتى اليوم، وتنوّعت المباني المشيَّدة لتشمل بيوت الشَّعر أو الخيام البدوية، كذلك الكهوف والمغاور التي بُنيت من الطين والحجر، وقد حلّت لاحقًا محل الخيام.
ومع التطورات اللاحقة انتقل النبطيون إلى البيوت الحجرية، والتي لا يزال بعضها في جنوب الأردن حتى اليوم، وكانت تلك البيوت أقل كلفة وأطول عمرًا، ثم انتقلوا إلى البيوت الحجرية الطينية وكانت في الغالب حُجرة أو حُجرتَين ثم زادت حتى وصلت إلى عدة حُجرات، وما زال هذا النمط منتشرًا في بعض القرى حتى اليوم.
في الأخير جاءت البيوت الحجرية المهندَسة، وكانت سمة المباني العامة وبيوت الطبقة الأرستقراطية، إذ كانت تتمتّع بطرز معمارية جيدة ومتقدمة مقارنة بما كانت عليه معظم البيوت في ذلك الوقت، وتشير الدراسات إلى أن العمارة النبطية كانت مزيجًا من عدة أنماط مختلفة من العمارة، منها العمارة الدينية مثل المعابد، والعمارة السكنية مثل القصور والمساكن العامة، ثم العمارة العامة مثل المسارح والحمّامات والمخازن، وأخيرًا العمارة الجنائزية مثل القبور وغيرها.
إضافة إلى المظاهر العمرانية، اهتم الأنباط بالفنون والآداب بشتى أنواعها، سواء ومن أبرزها الفنون الشفهية مثل الشعر الذي برعوا فيه، إذ كانت قيمة الرجل تحدّد عندهم بناءً على إمكاناته الشعرية، إلى جانب الفنون جسدية مثل الفروسية والصيد، هذا بجانب الرسوم والنحت، وهو ما توثّقه النقوش التي عُثر عليها على جدران المعالم الأثرية المتواجدة في الأردن.
أولى الأنباط أيضًا -بحسب الوثائق والنقوش- أهمية كبيرة للمرأة وحقوقها المتساوية مع الرجل، فكانت لهنّ حقوق الملكية والوراثة وبيع الممتلكات والمقابر الخاصة، ورفع الدعاوى القضائية، وتمثيل أنفسهنّ في المحكمة، بالإضافة إلى أن بعض أكثر الآلهة شعبية لدى النبطيين كانت من الإناث، مثل العزة ومنوات وعلات، ووصل حد الاهتمام بالمرأة أن وُضعت صورتها على بعض المعادن المتداولة.
ملتقى تجارة العالم
يعدّ تفوق الأنباط الاقتصادي هو السمة الأبرز لحضارتهم القديمة، فليس هناك ثمة خلافات بين الباحثين على أن التفوق التجاري الزراعي الصناعي للنبطيين هو سرّ اهتمام العالم بهم في هذا الوقت، حيث كانوا ملتقى تجارة الدول والممالك والحضارات المتواجدة آنذاك، بعدما تحوّلوا إلى محطة أساسية تربط بين تجارة الشرق والغرب.
عرف الأنباط تجارة القوافل منذ زمن بعيد، وكانوا قبل بناء مملكتهم ونزوحهم إلى منطقة جبال الشراة، يعملون كمقدّمي خدمات وفي تأمين القوافل، وهو ما أهّلهم بعد ذلك في أوج قمتهم لأن يكونوا متمرّسين في هذا المجال، حتى باتوا بارعين فيه بصورة جعلتهم قبلة التجّار من كافة الدول المجاورة.
من أبرز السلع التي كان يتاجر فيها الأنباط العطور اليمنية والمنسوجات الحريرية من دمشق والصين، بجانب الحناء العسقلاني، واللآلئ من الخليج العربي، إضافة إلى الذهب والفضة
وممّا صنع المركز الاستراتيجي للأنباط كقلعة اقتصادية كبيرة، شبكة الطرق والمواصلات التي كانت تشرف عليها وساعدت في تعزيز ثقلها الإقليمي، ومن أبرز تلك الطرق الطريق إلى اليمن (إيله – العلا – تيماء – مكة)، الطريق إلى الشرق (وادي السرحان – تيماء – الخليج)، الطريق إلى الغرب (إيله – عصيون جابر – النقب – غزة – العريش – الإسكندرية)، الطريق إلى الشمال (البتراء – تراجان السلطاني – بصرى)، ثم الميناء البحري على البحر الأحمر (لويكي – كومي).
استمدَّ الأنباط مكانتهم الاقتصادية كما أُشير سابقًا من موقعهم التجاري، حيث البضائع الغنية لشمال المنطقة العربية التي كانت تأوي إلى البتراء، ثم يُعاد توجيهها إلى مصر وسوريا واليونان وإيطاليا من خلال الإسكندرية وغزة، وبعضها كان يبحر من البحر الأحمر، هذا بجانب العوائد المادية الكبيرة التي كانوا يحصّلونها من ضرائب مرور القوافل التجارية العابرة من بلادهم.
ومن أبرز السلع التي كان يتاجر فيها الأنباط العطور اليمنية والمنسوجات الحريرية من دمشق والصين، بجانب الحناء العسقلاني، واللآلئ من الخليج العربي، إضافة إلى الذهب والفضة وبعض المنتجات الأخرى كمواد التجميل والبخور وزيت السمسم، كما تاجروا في المعادن الحديدية كالأسلحة والعملات الفضية والنحاس والبرونز، علاوة على الفخار النبطي الذي كانت تتميز به المملكة.
كما كانت تربية المواشي والثروة الحيوانية من الأنشطة الاقتصادية المألوفة، فقد ساعدتهم على ذلك المساحات الشاسعة من الأراضي والمراعي واستغلال موارد المياه المتواجدة لدعم تلك الثروة التي احتلت مكانة كبيرة لدى مجتمع النبطيين، الأمر ذاته في القطاعات الخدمية الأخرى كالبناء والنحت والرسم وغير ذلك من فنون الحياة الاقتصادية.
ويبدو أن هذا الرخاء الاقتصادي والأهمية الاستراتيجية للمملكة النبطية كانا مثار غيرة ملوك الممالك الأخرى ممّن أرادوا الهيمنة على طرق التجارة التي كانت تشرف عليها الدولة النبطية، وبالفعل هاجمها الإمبراطور الروماني تراجان عام 106م ليحوّل بعد ذلك خط سير الطريق التجاري المارّ من البتراء إلى مدينة بصرى، وهو ما سرّع من انهيار المملكة بعد قرون من الريادة.