ولي في ما أرى في المهرجان الكروي غير رأي المتخمرين بعدد المسلمين الذين إذا دخلوا في دين الله أفواجًا أمام الكاميرا لم يسألوا هل أقاموا الصلاة بعد ذلك. مهرجان الكرة العالمي في الدوحة أفلت من يد منظِّميه الرسميين، واتخذ سمت حملة دعوية تفرح بالعدد ولا تسأل عن النوع، ولا تملك طبعًا خطة للمستقبل سوى تجميع الكمّ بلا جدوى.
لست على الميدان لكن يمكنني أن أتوقع أن الغاية لم تكن نصرة المسلمين بزيادة عددهم، بل بزيادة ثروتهم وتوسيع مقعدهم في الساحة الدولية بالمال وسلطان المال، فالعدد لم ينصر المسلمين منذ قرون، فلم يكونوا في قلة أبدًا ولكن العدد غثاء بلا ثروة ولا حكمة.
بين خطة قطر الرسمية وما يجري على الأرض من نشاط دعوي، أمر يكشف اختلاف الخطط والمنهج بين فكرتَين وخطتَين في العمل الإسلامي، إحداهما تفسد على الأخرى أمرها، وسأفصّل بحسب ما فهمت من سياسة القطريين في نهضتهم السريعة، وما أعاين من نشاط دعوي تقليدي اغتنم المهرجان الكروي ليمرّرَ أجندته القاصرة.
قطر تملك خطة مختلفة
دولة صغيرة في الجغرافيا ولكنها ليست “معقّدة” من حجمها، مثلها مثل فتاها الذي قدّمته للحديث باسمها في المهرجان العالمي، فرضت نفسها في الساحة الدولية كفاعل نشط، وفازت بأدوار لافتة مثل وساطتها بين طالبان والأمريكان، وقديمًا لعبت في العراق دورًا محوريًّا خفف من معاناة الشعب العراقي زمن الحصار.
قطر أحسنت التصرف بثروتها الطبيعة وأحسنت توزيع الثروة على مواطنيها، فوضعتهم في فئة أعلى المداخيل الفردية في العالم، ولا شكّ أن شبكة “الجزيرة” الإخبارية والثقافية قد غيّرت المشهد السياسي والثقافي العربي بمقدار لا يمكن النكوص عنه مهما حصل من ردّة.
في كل هذا لم تقدّم قطر الرسمية خطابًا دعويًّا مباشرًا وحصريًّا يعمل على زيادة عدد المسلمين، بما يجعل خطتها تتضح خدمة المسلمين سياسيًّا وإعلاميًّا ووضعهم بلطف وكياسة في خريطة العالم، حتى الداعية الكبير يوسف القرضاوي رحمه الله لم يطلب ذلك وإنما اتخذ له ركنًا ضمن الخطة، وبثّ فكرة قوة الإسلام بالعلم والسياسة دون أن يحصي عدد المقبلين على نطق الشهادة.
في كل ما فعلت قطر بثروتها وشبكة علاقاتها ووسائل إعلامها كانت تؤلف ردًّا حكيمًا بلا ضجة على كل الخطاب القومجي المتفشي في الإعلام العربي منذ الخمسينيات، والذي حارب العالم حروبًا انتهت إلى هزائم ماحقة، كما كانت تردّ على صيغة من الخطاب الدعوي الإسلامي المتأثّر بالإخوان المسلمين (خط الزهد والشكوى إلى الله)، وخط الوهابية الشريعية التي تسارع إلى التكفير كما تسارع إلى التجميع بلا خطة.
خط إسلامي عروبي مختلف ومتأنٍّ من دون كرّاسات قومجية أو إسلامية إخوانية، لا يجعل قطر قاعدة إلا للقطريين أولًا ولمن يقبل بخطتهم دون استعمال بلدهم لغاياته الحزبية أو الإقليمية، ولذلك رأينا كما في مستهلّ الورقة أن ما يجري من حملة دعوية في قطر ليس ضمن الخطة القطرية، وإنما يتسلل داخلها ليفسدها ولو زاد في غثاء المسلمين.
تحميل قطر وِزر الخطط الإسلامية الفاشلة
ما يجري في الدوحة على هامش المهرجان الكروي هو استعادة لخطط الدعوة الإسلامية الكلاسيكية التي فشلت في تحرير المسلمين والإسلام، وإن أفلحت في زيادة العدد في أماكن كثيرة، فنحن نطّلع على أرقام مليونية لمسلمين أدخلهم دعاة محترفون إلى الإسلام في أفريقيا وفي آسيا وأحيانًا في أوروبا.
لكن لا أحد من الذين يبشروننا بالعدد قدّم لنا ورقة أو بيانًا علميًّا عن فعالية هذا العدد، وهل تحول إلى قوة فعل اقتصادي أو سياسي، فأرقام المسلمين في أفريقيا قادمة من بلدان تخضع الآن للاحتلال الفرنسي غير المباشر، والمسلمون القدامى والجدد فيها مضطهدون ولا وزن لهم ولا اعتبار، وبعد سنوات من الازدهاء بالعدد لم ينتجوا أفكارًا تمنحهم مكانة أو تجعلهم قادة لفكرة ذات مرجعية دينية ولا ديمقراطية، بل بالعكس اخترقتهم التنظيمات الإرهابية وجعلتهم عنصرًا مخيفًا في محيط متوجّس.
الآن يجري الاستبشار بالدعاة وبعدد المسلمين، ويقوم إعلام دعوي محترف بإبراز ذلك كحدث رئيسي يتفوق على حدث المهرجان الكروي، ويحوّل قطر الدولة الذكية إلى قاعدة دعوية غبية، ونعتقد أن هذا لم يكن ضمن خطة قطر الرسمية لتنظيم كأس العالم.
ليست قطر وحدها من يعارض تغوُّل تيار المثلية في العالم، هناك في الغرب نفسه حركات ثقافية ومجاميع علمية وأكاديمية تكافح ضد هذا التيار، الذي تحوّل إلى تيار سياسي يسعى إلى الهيمنة، وقطر اختارت الموقف العقلاني ووفّقت بين حديث الهوية العقلاني ورفض المثلية التي صارت مثلية سياسية لا علاقة لها بحديث الحريات.
في الطريق، قفز الدعاة عشّاق العدد بلا فكرة على هذا الموقف العقلاني، وجيروه إلى دعوة دينية بإسناد ديني (متناسين كل تراث الشذوذ الجنسي في الإسلام)، وأخسروا قطر (بحسن نية طبعًا) كل استثمارها الدعائي في المهرجان لتتحول إلى قوة اقتصادية فاعلة في العالم بلغة العالم الاقتصادي وبلغة السياسة وليس بلغة إسلام بلا قوة. لقد صغّروا قطر ولم يخدموا الدعوة.
يتضح الخيار الاستراتيجي رغم ذلك
إذا رغبت أن تخدم الإسلام، تقول قطر، فرتّب أمرك على تملُّك القوة الاقتصادية، فهي الإسلام الجديد والحقيقي، ويجب أن تنظر أيها الداعية الطيب أو الغبي إلى قيمة المكسب الاقتصادي لدول الغرب التي رضخت في الأخير للشرط القطري ونزلت عنده، مضحّية بكل التيار المثلي ووزنه السياسي في صناديقها الانتخابية.
قد يقول أردوغان كلامًا مماثلًا للمتحمسين من المسلمين في أطراف الأرض لسياساته، إنه رجل اقتصاد يخدم دينه بتقوية دولته بالمال والنفوذ في البورصات، وليس بزيادة عدد المسلمين المهمَّشين.
بين شغل الدعاة وما فهمته من سياسات الدولة القطرية مسافة زمنية كبيرة قطعها القطريون وحدهم، وقد يجدون على أكتافهم بعد الدورة الكروية حملًا إضافيًّا وضعه هؤلاء الدعاة فأفسدوا عليها أمرها.
خطّان للدعوة وخدمة الإسلام لا رابط بينهما حتى حسن النية، فبعض النية غبية وحَمَلتها أغبياء. رسالة التسامح القطرية الرسمية لم تمرَّ إلى أوسع من جمهورها الضيق، وهي التي استهدفت رأيًا عامًّا عالميًّا متنوعًا يقبل الإسلام والعرب كقوة فعل منتجة ومتفاعلة، لا كقوة حرب تتشهّى الفتوحات القديمة وإخضاع الكفّار لدولة الإسلام التي لم توجد إلا كشهوة لم تقُم على أرض.