ترجمة وتحرير: نون بوست
تتدفق عبارات الدعم للمتظاهرين الإيرانيين من مختلف أنحاء العالم – من قادة مثل الرئيس الأمريكي جو بايدن والسيدة الأولى السابقة ميشيل أوباما والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيسة الوزراء النيوزيلندية جاسيندا أرديرن – بينما تتواصل الاحتجاجات في شهرها الثاني مع ازدياد شدتها والتحديات التي تطرحها.
لكن بصرف النظر عن التغطية الإعلامية، فإن الدول المجاورة لإيران ولا سيما جيرانها الخليجيين تلتزم الصمت بشكل واضح. ولعل الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو عدم صدور أي رد رسمي من المملكة العربية السعودية – وهو صمت يتوقع أنه يمثل دعما للثورة الشعبية ضد نظام تعتبره الرياض عدوها اللدود.
إن الصمت السعودي نابع من الدروس التي استوعبتها المملكة خلال الأحداث التي حولت الملكية الفارسية إلى جمهورية إسلامية: الانتظار حتى تتضح النتيجة، ثم الانتظار أكثر. فقد استمرت الاحتجاجات التي أطاحت بالشاه سنة 1979 أكثر من سنة. ومع أن احتجاجات اليوم تمثّل أكبر تحدٍ للجمهورية الإسلامية منذ ذلك الوقت، إلا أن التوصّل إلى نتيجة سريعة يبدو احتمالًا بعيد المنال. ومن هنا جاءت سياسة السعودية القائمة على الانتظار والترقب.
في ذلك الوقت، أخطأ السعوديون في تقدير النتيجة بعد الإطاحة بحليفهم الشاه لاعتقادهم أنه يمكنهم العمل مع خلفيته آية الله روح الله الخميني – ليتبين أنه خصمهم. ومهما كانت النتيجة هذه المرة، يبدو أن المملكة العربية السعودية عازمة على التحفظ عن موقفها مما يحدث بينما تدعم مكانتها.
قد يعتبر آل سعود مكانتهم في مأمن بالفعل بفضل الإصلاحات الأخيرة التي أدخلها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. ومن نواحٍ مهمة، قفزت المملكة إلى القرن الحادي والعشرين، حيث أصبح بإمكان المرأة قيادة السيارة، ولم يعد الحجاب إلزاميًا، وتراجع دور الشرطة الدينية إلى حد كبير. كما أصبح بإمكان السعوديين من الجيل زد من كلا الجنسين الاختلاط في الأماكن العامة والرقص في الحفلات الصاخبة والذهاب إلى دور السينما والتشجيع في ملاعب كرة القدم. وكل هذا يتناقض بشكل صارخ مع ما هو معمول به في إيران، حيث ينتفض الجيل زد ضد نظام قمعي مدفوع أيديولوجيًا ويستمر في فرض نمط حياة إسلامي متقادم يحرمهم من المرح والسرور بينما يفشل في توفير الوظائف والفرص لهم.
لذلك، إذا كان السعوديون يلتزمون الصمت، فإن صمتهم يحمل في طياته رضا عن ما يحدث في إيران. وفي الوقت الحالي، يبدو سجلهم في إدارة مثل هذه الضغوط الاجتماعية أفضل بكثير.
تمثل أحداث اليوم انعكاسًا مذهلاً لما كان عليه الوضع في الستينات، عندما ورد أن الشاه أرسل للملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود سلسلة من الرسائل تحثه على التحديث و”جعل المدارس مختلطة بين الرجال والنساء، والسماح للنساء بارتداء التنانير القصيرة، وتبني الانفتاح. وعدا ذلك لن يضمن بقاءه في العرش”. فرد الملك على الشاه بقوله إنه مخطئ “أنت لست شاه فرنسا. أنت لست في الإليزيه. أنت في إيران. 90 بالمئة من سكان بلادك مسلمون”.
مع ذلك، يصعب حاليًا تصديق أن مثل هذا التبادل الصريح والودي حدث بين حكام البلدين، ولكن كان ذلك قبل سنة 1979 عندما كانت المملكة العربية السعودية وإيران شريكين إقليميين – باعتبارهما ركيزتين في جهود الولايات المتحدة في الحرب الباردة في الشرق الأوسط لاحتواء الاتحاد السوفيتي. كان النظامان الملكيان – أحدهما سني والآخر شيعي – حليفين في شراكة استخباراتية تُعرف باسم نادي سفاري، الذي أدار عمليات سرية وأثار انقلابات حول إفريقيا لدحر النفوذ السوفيتي.
بالنظر إلى هذه العلاقة، اعتبر السعوديون في البداية الاحتجاجات التي اجتاحت إيران بعد سنة 1977 شأنًا داخليًا وامتنعوا عن التعليق. ولكن مع تنامي حركة الإطاحة بالشاه، شعرت كل من الرياض وواشنطن بالقلق من أن يتولى النظام الموالي للسوفييت الذي يهيمن عليه اليساريون والقوميون زمام الأمور.
في مطلع سنة 1979، أعرب ولي العهد السعودي الأمير فهد بن عبد العزيز آل سعود علانية عن دعمه للشاه باعتباره الحاكم الشرعي لإيران. ولكن بحلول منتصف كانون الثاني/ يناير، رحل الشاه وفي غضون أسبوعين عاد الخميني منتصرًا إلى طهران. اعتقد الثوار العلمانيّون أن بإمكانهم استغلال الدعم الديني لآية الله والسيطرة عليه لكنهم كانوا مخطئين. فقد استغل الخميني الثورة بشكل فعال وحوّل إيران إلى جمهورية إسلامية.
سرعان ما تقبلت السعودية النتيجة وشعرت بالارتياح لرؤية الرجل الذي يتبنى لغة الدين يرتقي إلى القمة بدلاً من الثوار اليساريين. هنأت المملكة العربية السعودية رئيس الوزراء الإيراني الجديد مهدي بازركان، وأشادت بالثورة الإيرانية لتضامنها مع “النضال العربي ضد العدو الصهيوني”. وفي نيسان/ أبريل، تحدث الأمير عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، الحاكم المستقبلي للمملكة، عن ارتياحه لأن إيران الجديدة “تجعل الإسلام منظم التعاون” بين بلديهما عوضًا عن الأسلحة الثقيلة.
قبل فترة طويلة، كان السعوديون يواجهون تمردًا من قبل المتعصبين. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 1979، حاصر المتطرفون الدينيون الحرم المكي لمدة أسبوعين. وكانت المملكة المحافظة للغاية قد بدأت حينها في تخفيف بعض قيودها عبر إدخال التلفزيون وفتح دور السينما. وقد وصلت التطورات المثيرة للجدل حينها إلى نهاية مفاجئة. وخوفًا من ملاقاة مصير الشاه، راهن آل سعود على مستقبلهم بالتحفظ السني من خلال زيادة تمكين المؤسسة الدينية وضخ الأموال في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
يتناقض الصمت السعودي الرسمي بشأن الاحتجاجات مع الموقف الأكثر نشاطا إلى حد ما حيث يُعتقد أن الديوان الملكي يمول قناة “إيران إنترنشنال” معارضة
لم يكن السعوديون يعرفون سوى القليل عما يخبئه الخميني، ثم سرعان ما أصبح آية الله يصدّر الثورة الإسلامية إلى جميع أنحاء المنطقة، ويستخدم الدين كسلاح ويتحدى مكانة آل سعود كزعماء للعالم الإسلامي. ولو أن السعوديين قرأوا كتابات الخميني المبكرة، لاكتشفوا حقيقة ازدرائه لهم. بالتالي، لمواجهة جهود إيران لتوسيع نفوذها، روّج السعوديون للإسلام السني المتشدد الخاص بالمملكة من مصر إلى باكستان.
بينما أدخلت الثورة الإيرانية بعض التغييرات على المنطقة، فإن الصدمة المتمثلة في مواجهة عدو عنيد غرس في السعوديين خوفًا عميقًا من الانتفاضات الشعبية، سواء داخل مملكتهم أو في الدول المجاورة. وكان هذا الخوف يسيطر على أذهانهم في سنة 2011 عندما شاهدوا ملايين المتظاهرين يتجولون في الشوارع لإسقاط زعيم آخر مدعوم من الولايات المتحدة، لكن هذه المرة في العالم العربي وخلال الانتفاضات العربية، وهو الرئيس المصري حسني مبارك.
اليوم، ترحّب السعودية وجيرانها بقرار تغيير القيادة في إيران، لكن عدم تأكدهم من النتيجة يجعلهم يتوخون الحذر. ومن غير المرجح أن تؤدي الاحتجاجات إلى الإطاحة بآية الله سواء على المدى القصير أو المتوسط. فهل سيحاول النظام نزع فتيل الضغوط الداخلية من خلال الرضوخ لبعض المطالب، وكبح جماح الشرطة الدينية، والتركيز أكثر على السياسة والاقتصاد الداخليين لإيران وبدرجة أقل على الهيمنة الإقليمية؟ أم أن القيادة الحالية ستعتمد القوّة في مواجهة المتظاهرين، دافعة بذلك النظام إلى تصعيد القمع الداخلي ودعم الميليشيات العميلة في المنطقة؟
بالنظر إلى الضغط الداخلي، قد تطلق الجمهورية الإسلامية العنان لبعض حلفائها لشن هجمات تضليليّة ضد الخصوم الإقليميين. وفي أيلول/ سبتمبر، هاجمت إيران – بالفعل – المناطق الكردية في شمال العراق باستعمال صواريخ باليستية. وفي تشرين الأول/أكتوبر، شاركت المملكة العربية السعودية معلومات استخباراتية مع الولايات المتحدة تحذر من هجوم وشيك على المملكة – إذ تشعر الرياض بالقلق من أن علاقتها المشحونة حاليًا مع الولايات المتحدة قد تجعلها أكثر عرضة للهجمات. (لم يتضمن تقرير تشرين الأول/أكتوبر تفاصيل محددة، لكن الولايات المتحدة رفعت مستوى تأهب قواتها في المنطقة).
يتناقض الصمت السعودي الرسمي بشأن الاحتجاجات مع الموقف الأكثر نشاطا إلى حد ما: يُعتقد أن الديوان الملكي يمول قناة “إيران إنترنشنال”، وهي قناة تلفزيونية فارسية مقرها لندن تم إنشاؤها في سنة 2017 كمحطة معارضة، والتي تبث الآن صور الاحتجاجات مرة أخرى. وعلى الرغم من أن أطباق الأقمار الصناعية غير قانونية، إلا أن ما يقدر بنحو 70 بالمئة من الأسر الإيرانية تمتلك واحدا، حيث أصبحت إيران إنترنشنال مصدرًا حيويًا للمعلومات داخل البلاد والشتات.
الدرس الأهم الذي يمكن تعلمه مما حدث في سنة 1979 هو أن التداعيات الجيوسياسية للتغيرات القادمة داخل إيران ستؤثّر على المنطقة بأكملها، وأي فترة انتقاليّة من شأنها أن تكون فوضوية
دعت الجمهورية الإسلامية مرارا السعودية إلى إغلاق القناة. وقال القائد العام للحرس الثوري الإيراني، حسين سلامي، الشهر الماضي: “هذا تحذيرنا الأخير لكم لأنكم تتدخلون في شؤوننا الداخلية من خلال هذه الوسائط. أنتم متورطون في هذا الأمر وتعلمون أنكم معرضون للخطر.” كرر المستشار العسكري للمرشد الأعلى، اللواء يحيى صفوي، هذا التحذير، كما اعتقلت السلطات الإيرانية امرأة متهمة بأن لها علاقة بالقناة.
بالإضافة إلى ذلك، تنقل القناة أيضًا أخبارًا من المنطقة ومن داخل المملكة العربية السعودية، حيث شهدت حياة الشباب السعودي تغيرًا كبيرًا في السنوات الأخيرة. في أوائل آذار/مارس 2020، نظمت المملكة حفلا موسيقيا بعنوان “ليلة فارسية” في المنطقة الصحراوية الشهيرة في العلا، ودعت شخصيات إيرانية بارزة مثل المغني آندي للغناء حتى لو كانوا ممنوعين من الأداء في بلدهم. كان الحدث، الذي تم بثه على تلفزيون إيران إنترنشنال، رمزًا لاستعداد آل سعود لمواكبة تطورات العصر والاتجاهات الاجتماعية على عكس القيود المفروضة من قبل حكام إيران، الشاه وآية الله على حد سواء. ويحب السعوديون إجراء مثل هذه المقارنات للتأكيد على مدى تخلف إيران عن الركب.
في المقابل، لم تكن الإصلاحات الاجتماعية والثقافية الجديدة داخل المملكة، والوتيرة السريعة التي تم تنفيذها بها، محط إعجاب الجميع في النظام الملكي المحافظ – وهذا هو السبب في أن الحريات الجديدة تضبطها حدود صارمة أيضًا. في عهد بن سلمان، أصبحت المملكة العربية السعودية أكثر استبداديّة، فإلى جانب مقتل الصحفي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول، قامت المملكة بقمع أي شخص ينتقد التغييرات عن بُعد. وتشمل هذه التهديدات التي تبدو بسيطة؛ تعرّض أم شابة سعودية تدرس في ليدز للسجن أثناء زيارتها لمنزلها بتهمة إعادة نشر تغريدات المعارضين السعوديين ونشر معلومات “كاذبة”، كما حُكم على مواطن أمريكي سعودي مزدوج الجنسية بالسجن 16 عامًا بعد ذلك، بتهمة مشاركة تغريدات انتقادية.
في ظل الأحداث التي تشهدها إيران، قد يهنئ ولي العهد السعودي نفسه على إخماد فتيل السخط الاجتماعي الذي كان يتصاعد داخل المملكة منذ سنوات، لكنه سيستمر على الأرجح في فعل ذلك سرا- رغم تغطية إيران إنترنشنال- لأن الدرس الأهم الذي يمكن تعلمه مما حدث في سنة 1979 هو أن التداعيات الجيوسياسية للتغيرات القادمة داخل إيران ستؤثّر على المنطقة بأكملها، وأي فترة انتقاليّة من شأنها أن تكون فوضوية.
المصدر: الأتلانتيك