ترجمة وتحرير: نون بوست
قاد الفلسطينيون العديد من الانتفاضات منذ بداية الاستعمار الصهيوني لفلسطين، انطلاقًا من الثورة الفلسطينية الكبرى لسنة 1936 إلى الانتفاضتين الأولى والثانية وصولًا إلى انتفاضة الوحدة في سنة 2021. وتكمن أهمية هذه الثورات الكبرى في شموليتها واستيعابها لجميع ما سبقها من ثورات.
على مدى السنوات العشر الماضية، عملت على بناء شقة صغيرة في شعفاط شمال مدينة القدس القديمة بعد أن عشت في القدس لأكثر من عقدين. وتعتبر شعفاط واحدة من بين 18 منطقة صغيرة خاضعة لحراسة مشددة تم منحها للفلسطينيين في القدس. أستطيع رؤية منطقة الساحل غرب شرفتي. معظمها لا تزال فارغة ولم تطلها أعمال البناء، ولكنه مشهد غريب بالنسبة لمجتمع يعاني من قيود تمييزية على فرص السكن.
إن سياسات التهجير التي تمارسها السلطات الاستعمارية الإسرائيلية التي تستهدف الوجود الفلسطيني في المدينة تمنعنا بشكل منهجي من الحصول على تصاريح البناء. وإذا بنينا دونها بيوتنا هُدمت. وفي بعض الحالات، نضطر حتى إلى هدم منازلنا بأنفسنا.
طوال السنوات العشر التي أمضيتها في شعفاط، لم تُبن أي منازل فلسطينية في الساحل. سنة بعد سنة، على بعد بضع مئات الأمتار غربًا، ظهرت مباني مستعمرة رامات شلومو واستمرت في التوسع والاستيلاء ببطء على أراضي شعفاط.
صُودرت الأراضي الفلسطينية من قبل سلطات الاستعمار الإسرائيلي لبناء المزيد من المستعمرات ومدّ المزيد من الطرق الاستعمارية وإنشاء المزيد من المناطق الصناعية.
تحولت بعض الأراضي إلى متنزهات وطنية أو بلدية، وصُممت لتكون حواجز خضراء الهدف منها إعاقة قدرة المجتمع الفلسطيني على النمو
يكاد يكون أمرا مثيرا للسخرية. لقد فرض العقد الماضي إدراكًا متناقضًا ومشوهًا – حيث اكتست الأشجار معنى جديدًا في القدس لتصبح أداة للتهجير بدلاً من الازدهار.
التطور الاستعماري يتسلل إلى المساحات الحميمة
بالقرب من منزلي على الطريق الرئيسي في شعفاط، كانت محطة قطار القدس الخفيف مرئية وبعيدة عن الأنظار. بالنسبة لشخص غير مطلع، قد يبدو الترام الذي تم تدشينه في سنة 2011 مشروعًا تنمويًا لا يضر بسكان القدس، حتى الفلسطينيين منهم. لكن نظرة واحدة على الخريطة توضح أن ترام القدس قد استُخدم لربط الطرق وتعزيز المواصلات العامة التي تخدم المستوطنات في القدس وحولها.
إن هذه الشبكة مصممةٌ لتعزيز الروابط بين وسط المدينة والمستعمرات المحيطة، وتربط القدس ببقية المستعمرات الممتدة عبر شمال الضفة الغربية وجنوبها وشرقها. وبعد أكثر من عقد من الزمن، لا تزال أعمال البناء متواصلة. هذا العام، افتتحت أشغال أربعة خطوط جديدة تابعة لشبكة قطار القدس الخفيف لإتاحة وصول المستعمرات إلى المدينة.
لا تكمن المهزلة في الهندسة المعمارية للمدن والبلدات الاستعمارية وإنما في الطريقة التي يتسلل بها الاستعمار إلى مساحاتنا الأكثر حميمية.
خلال الانتفاضة التي تلت خطف وقتل محمد أبو خضير سنة 2014، عندما غضب الفلسطينيون بعد أن اختطف المستوطنون الإسرائيليون صبيًا يبلغ من العمر 14 عامًا وأحرقوه حيا، استهدفت الاحتجاجات محطات الترام في شعفاط.
كان محمد أبو خضير في الرابعة عشرة من عمره عندما أحرقوه حيا. عرف جميع أطفال وشباب القدس قصته. كانوا يعرفون عن كثب الشارع الذي اختُطف فيه، وكانوا جميعًا على دراية بالمستعمرة التي جاء منها المستوطنون. لم يُحرموا من العدالة فحسب، بل حرموا أيضًا من حق التعبير عن حزنهم وغضبهم.
جدت جريمة القتل البشعة لأبي خضير بعد أيام قليلة من الهجوم الإسرائيلي على غزة فيما يُعرف بـ “عملية الجرف الصامد”. وقد أشعلت جريمة القتل شرارة انتفاضة في القدس ضد الاحتلال.
ليس بعيدًا جدًا عن منزل عائلة أبو خضير ومنزلي، أصبح طريق شعفاط الرئيسي ساحة معركة. في شهر رمضان المبارك، تحول مسجد شعفاط إلى ساحة قتال، وكذلك ملجأ للشباب للراحة والأكل وشرب الماء والعزاء وملاذا أثناء المواجهات التي تم قمعها بوحشية من خلال أساليب العنف التي اعتاد المستوطنون الإسرائيليون وقواتهم المسلحة اتباعها.
بعد عقد من الزمان، ما زلنا نرى عمليات الضم نفسها المثيرة للحزن والاستياء، والزحف البطيء للاستحواذ على الأراضي الفلسطينية، وعمليات التهجير وتقلص المساحات المعيشية، وعنف المستوطنين والإفلات من العقاب.
لمدة عشر سنوات، أصبحت تلك الشرفة توفر مسحا دقيقا للأحداث التي جدت على مر السنين. فقط أسفل التل شرقًا بالقرب من الحاجز العسكري قرب مخيم شعفاط للاجئين، ما زلت أسمع صوت المواجهات حتى يومنا هذا بينما يحاول الشباب الفلسطيني إحباط القمع الإسرائيلي.
ما زلت أشعر بحرقة الغاز المسيل للدموع في رئتي. غالبًا ما كان يصل الى شرفتي أثناء الاشتباكات. وتصل رائحة الاحتراق مع أصوات المتفجرات حيث تطلق القنابل الصوتية بشكل متزامن.
إن مخيم شعفاط، والعيسوية، وسلوان، والطور هي أحياء في القدس اعتادت على مثل هذه الأحداث. ويدرك معظم الفلسطينيين في القدس هذا الواقع لأنهم تعايشوا معه لمدة سنوات وليس من خلال الشهادات غير المباشرة.
سخافة الاستعمار اليومي
أصبحت الطرق التي يؤثر بها الاستعمار الإسرائيلي على حياتنا ويسيطر عليها صادمة للغاية وأضحت الحياة اليومية بادرة تحدٍ كبرى. نظرًا لأن مكتبي يقع بالقرب من المدينة القديمة، فغالبًا ما كنت أستقل الحافلة إلى باب العامود، وهو من أجمل البوابات الثمانية للمدينة القديمة وأكثرها إثارة للإعجاب من الناحية المعمارية، اكتسب اسمه من العمود الحجري المنتصب بجانب البوابة منذ مئات السنين. مع أن العمود نفسه تلاشى منذ فترة طويلة، لا يزال الفلسطينيون يستخدمون هذا الاسم كتعبير جميل لحفظ ذاكرتنا الجماعية – مثل جذورنا في المدينة.
يعتبر باب العامود المكان الذي نمارس فيه انتماءنا إلى القدس. وغالبًا ما تكون البوابة الوحيدة التي يعرفها الفلسطينيون الزائرون من أجزاء أخرى من فلسطين. كما أصبح بؤرة توتر مركزية في مواجهة الاحتلال.
ترجع الأهمية التي يكتسبها هذا المكان إلى أن العديد من الهجمات خلال انتفاضة القدس 2015-2016 – عندما نفّذ فلسطينيون هجمات فردية ضد قوات الاحتلال أو المستوطنين الإسرائيليين – تركزت حول باب العامود. حتى اليوم، لا يزال باب العامود محوريًا في المواجهة ضد السلطات الاستعمارية والكفاح من أجل استعادة الهوية الفلسطينية للمدينة.
كنت أسير من بوابة دمشق نحو الشرق باتجاه باب هيرودس المعروف بباب الساهرة، في إشارة إلى الحراس الذين اعتادوا حراسته ليلا. في الماضي كان الباب الوحيد في السور الذي يظل مفتوحًا أثناء الليل لحماية المدينة القديمة من المتسللين، مع ضمان أن يتمكن القادمون المتأخرون ليلًا من دخول المدينة.
كان باب الساهرة البوابة التي لا تُغلق أبدًا، الآن غالبًا ما يتم إغلاقه من قبل الشرطة الاستعمارية الإسرائيلية مما يمنع الفلسطينيين من الوصول إلى البلدة القديمة. والقدس، التي تحرم على أهلها حيًا تلو الحي، احتلها المستوطنون.
محو الموتى والسيطرة على الأحياء
إذا واصلت المشي تجاه الشرق بعيدًا عن باب الساهرة، ستجد مقبرة اليوسفية التي لا تزال قائمةً رغم تجريف أجزاء منها من قبل السلطات الاستعمارية بهدف تحويلها إلى حديقة. في سنة 2021 اكتسح الألم والغضب العائلات الفلسطينية التي لها أحباء مدفونون في المقبرة، وبذلك أدركوا أن الاحتلال لا يرحم ولا يحترم الإنسان الفلسطيني حيًا كان أو ميتًا. وقبل ذلك بسنة، حاولت إسرائيل تدمير واستبدال مقبرة إسلامية عمرها 200 عام في مدينة يافا.
تعد اليوسفية إحدى أهم المقابر الإسلامية في القدس، وقد تعرضت لاعتداءات إسرائيلية ممنهجة من خلال أعمال التنقيب والتجريف. يتم محو التاريخ العربي في القدس الإسلامي منه والمسيحي بشكل منهجي كجزء من محاولة فاشلة لإنكار ومحو الهوية الفلسطينية للمدينة.
تُعرف مقبرة اليوسفية أيضًا باسم مقبرة باب الأسباط. أصبح باب الأسباط الذي يطلق عليه أيضًا اسم “باب الأسود” وباب “ستي مريم” رمزًا للإرادة والمقاومة في وجه الغزو العدواني. بعد انتفاضة القدس في سنة 2017 قُتل أكثر من 255 فلسطينيًا على أيدي الشرطة والمستوطنين المسلحين، بينما قُتل 40 إسرائيليًا في عمليات منفردة. وقد بشّرت سنة 2017 أيضًا ببروز إرادة الفلسطينيين في التأثير على واقعهم.
حاولت السلطات الاستعمارية في صيف سنة 2017 ترسيخ مراقبتها الملتوية على الفلسطينيين من خلال وضع أجهزة كشف المعادن داخل البلدة القديمة، استعدادًا لوضعها عند مداخل المسجد الأقصى.
تجمّع آلاف الفلسطينيين ردًا على ذلك للاحتجاج عند البوابة ليلة بعد ليلة. جاء الفلسطينيون كي يدعموا الاحتجاجات من شتى أنحاء فلسطين المحتلة بما في ذلك من الضفة الغربية. رفض المصلون دخول المسجد في ظل القيود الجديدة، وصلى الآلاف في الشارع احتجاجًا على هذه القيود. أتذكر روح المدينة وقتها بين أولئك الذين صلوا والذين لم يصلوا، كنا جميعًا نحمي قدسية العبادة كفلسطينيين ومسلمين.
لم يكن مفاجئًا مهاجمة قوات الاحتلال المتظاهرين والمصلين بالضرب وإطلاق النار والاعتقالات. لقد دنّسوا المسجد وداسوا على المصاحف، ولم يسلم منهم الأطفال وكبار السن ولا حتى الصحفيين والمسعفين.
لكن هذه الهجمات لم تردع الفلسطينيين واستمروا في التجمع خارج البوابة لعدة أيام حتى تنازلت السلطات الاستعمارية عن أجهزة الكشف عن المعادن وإزالتها. كانت انتفاضة باب الأسباط تذكيرًا هامًا بأن سكان القدس على استعداد لحماية مدينتهم والحفاظ على هويتهم الفلسطينية رغم القمع والعنف الممنهج.
متّحِدون في الشتات
حاول الفلسطينيون أن يتحدوا معًا وسط بشاعة النهب الاستعماري والانقسام الداخلي في محاولات ملهمة تشوبها العيوب.
توّج هذا العقد الأخير الذي شهد لحظات من الثورة والمقاومة أخيرًا بانتفاضة الوحدة سنة 2021. استمدت الانتفاضة اسمها من واقع الانقسام الكامن الذي شرعت الثورة في إصلاحه فجأة، وقد شاركت فيها كامل فلسطين المحتلة، من الأراضي التي تم الاستيلاء عليها في سنة 1948 إلى تلك التي تم الاستيلاء عليها في سنة 1967 من الضفة الغربية وقطاع غزة. تجاوزت انتفاضة الوحدة الحدود الرسمية وشارك بها الفلسطينيون من المنفى القسري الذين يشكلون أكثر من نصف الشعب الفلسطيني، وحتى السوريين في مرتفعات الجولان المحتلة.
صعدت الشرارة الأولى من حي الشيخ جراح في القدس حيث كان المواطنون الفلسطينيون يكافحون للبقاء في منازلهم رغم المضايقات القضائية وعنف المستوطنين وإطلاق النار والاستهداف الممنهج للمقيمين والزوار من قبل شرطة الاحتلال وسلطاته. وعلى مسافة قصيرة من باب العامود، كان حي الشيخ جراح رمزًا لأساليب منظمات الاستيطان والمؤسسات الصهيونية الرسمية التي عملت معًا لطرد الفلسطينيين والاستيلاء على أراضيهم ومنازلهم.
واجهت ست عائلات تهديدًا وشيكًا بالطرد القسري في نيسان/ أبريل 2021. كانوا يعرفون ما يعرفه كل فلسطيني، أنه ليس تهديدًا أبدًا، وإنما كان تحذيرًا بأن الإرهاب سوف يسود حتى يتم طردهم. بدأ الحي الصامد والعازم على حماية منازله ومجتمعه في تنظيم احتجاجات انضم إليها العديد من الفلسطينيين من القدس، بالإضافة إلى الفلسطينيين من أراض فلسطين المحتلة الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية الرمزية.
دائمًا ما تعرض الفلسطينيون من الأراضي المحتلة إلى السياسات التي تهدف إلى محو هويتهم الفلسطينية وفصلهم عن بقية الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة منذ سنة 1967. لكن جذورهم وإحساسهم بهويتم في مواجهة الاستعمار الاستيطاني العنيف يأبيان ذلك.
اندلعت انتفاضة الوحدة خلال شهر رمضان المبارك، حين عبّر عشرات الآلاف من الفلسطينيين عن انتمائهم إلى القدس بالصلاة في المسجد الأقصى. رأت السلطات الإسرائيلية في ذلك، شأنها شأن القوات الاستعمارية الأخرى، أن هذه الممارسات تشكل تهديدًا لسيادتها على الأرض. شرعوا بالهجوم على المصلين داخل المسجد وغيرهم ممن كانوا يجلسون فقط على درج باب العامود، مما أثار الاحتجاجات والاشتباكات عند البوابة.
لم يستغرق الأمر الكثير حتى انضمت أجزاء أخرى من فلسطين إلى الانتفاضة. نزلنا إلى الشوارع من كل مكان من أرضنا المحتلة، ورفعنا أصواتنا وأعلامنا، ونظمنا مجتمعاتنا في نموذج من التكافل الملهم.
شهد هذا العقد فترات من المد والجزر بين القمع والولادة من جديد. لكن على المستوى الأساسي، وبالنسبة للفلسطينيين، لم تشكل الأحداث الكبرى هذا العقد بل التفاصيل الدقيقة التي تشكل حياتنا، حيث يمثل كل يوم إضافة جديدة. لقد كان عقدًا من النسج والنظم وإعادة التخيل. لقد كان عقدًا جدد شجاعتنا بأن نحلم بفلسطين حرة ننقشها في المساحات التي نسكنها.
المصدر: موندويس