ترجمة وتحرير: نون بوست
من أجل كسب حربه في أوكرانيا، يحتاج فلاديمير بوتين إلى أن يوقف الغرب دعمه لخصمه. ولعل هذا الشتاء هو أقرب فرصة له لدق إسفين بينهما. قبل الحرب، كانت روسيا تزود الاتحاد الأوروبي بنسبة 40 إلى 50 في المئة من واردات الغاز الطبيعي. وفي آب/ أغسطس، أوقف بوتين إمدادات الغاز عن خط أنابيب كبير يغذي أوروبا. ونتيجة لذلك، ارتفعت أسعار الوقود ما فرض ضغطًا على الاقتصادات الحليفة لأوكرانيا.
تجاوزت أوروبا هذه الصدمة حتى الآن بأخفّ الأضرار من خلال تخزين ما يكفي من الغاز. لكن الارتفاع في أسعار الطاقة بالجملة لا يزال يؤثر على العديد من المستهلكين. فرغم انخفاض أسعار الوقود في السوق عن ذروتها، يظل المتوسط الحقيقي لتكاليف الغاز المنزلي والكهرباء في أوروبا أعلى بنسبة 144 و78 في المئة من الأرقام المسجلة ما بين سنة 2000 و2019.
لكن هذه التكاليف لا تضاهي الرعب الذي يعاني منه الأوكرانيون إلا أنه لا تقل أهمية، ذلك أنه كلما انخفضت درجات الحرارة زاد احتمال وفاة الناس من البرد. وإذا تواصل تطبيق العلاقات التاريخية بين الوفيات والطقس وتكاليف الطاقة – وهو أمر غير ممكن بالنظر لارتفاع الأسعار الحالية – فإن عدد الوفيات بسبب “سلاح الطاقة” الذي يستخدمه بوتين يمكن أن يتجاوز عدد الجنود الذين لقوا حتفهم حتى الآن في حرب أوكرانيا.
رغم زيادة موجات الحَرّ، تظل درجات الحرارة المنخفضة عادةً أكثر فتكًا من ارتفاعها. وحسب المعدل الأسبوعي للوفيات، سُجلت وفيات أكثر بين الأوروبيين بنسبة 21 بالمئة من كانون الأول/ ديسمبر إلى شباط/ فبراير مقارنةً بالفترة من حزيران/ يونيو إلى آب/ أغسطس.
في السابق، كان للتغيرات التي طرأت على أسعار الطاقة تأثير ضئيل على الوفيات. لكن الزيادات في التكلفة هذه السنة كبيرة بشكل ملحوظ. وقد قمنا ببناء نموذج إحصائي لتقييم التأثير الذي قد تحدثه صدمة الأسعار الحالية.
يمكن أن تتغير العلاقة بين أسعار الطاقة ومعدل الوفيات المسجلة في الشتاء هذه السنة. ولكن إذا تكررت الأنماط السابقة، فإن أسعار الكهرباء الحالية ستؤدي إلى ارتفاع معدل الوفيات إلى أعلى من المتوسط التاريخي حتى في فصل الشتاء الأكثر اعتدالًا.
لا تزال معدلات الوفيات الدقيقة تعتمد على عوامل أخرى، لا سيما درجة الحرارة. في فصل الشتاء المعتدل، قد تقتصر الزيادة في الوفيات على 32 ألف حالة فوق المتوسط التاريخي (مع الأخذ بعين الاعتبار التغيرات في عدد السكان). قد ينجر عن فصل شتاء قاسي ما مجموعه 335 ألف حالة وفاة إضافية.
تؤثر أربعة عوامل رئيسية على عدد الوفيات المتوقع في أوروبا (باستثناء أوكرانيا) هذا الشتاء. أكثر هذه العوامل وضوحًا شدة موسم الأنفلونزا ودرجات الحرارة. يساعد البرد الفيروسات ويثبّط جهاز المناعة ويتيح للعوامل المسببة للأمراض بالبقاء على قيد الحياة لفترة أطول عندما تنتقل عبر الهواء ويدفع الناس إلى البقاء في منازلهم. ومع انخفاض درجة حرارة الجسم، تزداد كثافة الدم ويرتفع ضغطه مما يزيد من خطر الإصابة بالنوبات القلبية والسكتات الدماغية. ويمكن أن تؤدي المسالك الهوائية المتهيجة أيضًا إلى إعاقة التنفس.
عادةً ما تسجّل بريطانيا في الشتاء معدلات وفيات أسبوعية بسبب أمراض القلب والأوعية الدموية أعلى بنسبة 26 في المائة مقارنة بالصيف. أما نسبة الذين يتوفون نتيجة لأمراض الجهاز التنفسي أعلى بـ 76 في المائة. تتركز هذه الوفيات بين كبار السن. في جميع أنحاء أوروبا، يموت 28 في المائة من الأشخاص الذين لا يقل عمرهم عن 80 سنة – والذين يمثلون 49 في المائة من إجمالي الوفيات – في الأشهر الأكثر برودة مقارنة بالأشهر الأكثر دفئًا من السنة.
من المثير للدهشة أن الفجوة في معدلات الوفيات الموسمية أكبر في البلدان الدافئة منها في البلدان الباردة. ففي البرتغال، يكون معدل الوفيات الأسبوعية في الشتاء أعلى بنسبة 36 بالمئة مقارنة بالصيف، مقابل 13 في المائة فقط في فنلندا. وتتمتع البلدان الأكثر برودة بأنظمة تدفئة وعزل أفضل، كما أنها أغنى بشكل غير معتاد ومعظم سكانها من الشباب. لكن عند مقارنة درجات الحرارة داخل البلدان وليس بين بعضها، تؤكد البيانات أن البرد هو المتسبب في الوفيات. في فصل شتاء أبرد بمقدار درجة مئوية واحدة عن المعتاد في بلد معين، تزداد الوفيات بنسبة 1.2 في المائة.
من المرجح أن تكون درجات الحرارة في شتاء 2022 – 2023 بين أعلى وأدنى مستوياتها في العقود الأخيرة. الآن بعد أن تم تخفيف معظم القيود المفروضة على التنقل المتعلقة بفيروس كورونا، من المحتمل أن تكون تأثيرات الأنفلونزا ضمن النطاق الذي شوهد ما بين 2000 و2019.
كما أن أسعار الطاقة، وهي العامل الرئيسي الثالث الذي يؤثر على الوفيات في الشتاء، مقيدة أيضًا نسبيًا. وعلى الرغم من تقلب تكاليف الوقود بالجملة، فقد فرضت العديد من الحكومات سقفًا لأسعار الطاقة المنزلية معظمها أعلى بكثير من تكاليف السنة الماضية، لكنها ستحمي المستهلكين من المزيد من ارتفاع الأسعار في السوق.
لكن العنصر الأخير، وهو العلاقة بين تكاليف الطاقة والوفيات، ليس مؤكدًا: نحن نقدر هذا باستخدام نموذجنا الإحصائي الذي يتوقع بعدد الأشخاص الذين يموتون في كل أسبوع شتاء في كل منطقة من أصل 226 منطقة أوروبية. وينطبق هذا النموذج على دول الاتحاد الأوروبي السبعة والعشرين، باستثناء مالطا، بالإضافة إلى بريطانيا والنرويج وسويسرا؛ ويتنبأ بالوفيات على أساس الطقس والديموغرافيا والإنفلونزا وكفاءة الطاقة والدخل والإنفاق الحكومي وتكاليف الكهرباء، التي ترتبط بدورها ارتباطًا وثيقًا بأسعار مجموعة متنوعة من وقود التدفئة.
باستخدام بيانات ما بين 2000 و2019 – مستبعدين سنتي 2020 و2021 بسبب جائحة كوفيد-19 – كان النموذج دقيقًا للغاية بإظهار 90 بالمائة من التباين في معدلات الوفيات، وعندما اختبرنا تنبؤاته على سنوات أخرى لتجربته حصلنا على نفس النتائج تقريبًا.
قد يؤدي ارتفاع أسعار الوقود إلى تفاقم تأثير انخفاض درجات الحرارة على معدل الوفيات، وذلك من خلال ردع الناس عن استخدام وسائل التدفئة وزيادة تعرضهم للبرد. وبالنظر إلى الطقس، وجد النموذج أن ارتفاعًا بنسبة 10 بالمائة في أسعار الكهرباء مرتبط بزيادة بنسبة 0.6 بالمائة في الوفيات، على الرغم من أن هذا الرقم يكون أكبر في الأسابيع الباردة وأقل في الأسابيع المعتدلة. وقد أنتجت دراسة أكاديمية للبيانات الأمريكية في سنة 2019 تقديرًا مشابهًا.
توجد أكثر الوفيات المتوقعة في إيطاليا بسبب ارتفاع تكاليف الكهرباء وعدد السكان المسنين، علما بأن النموذج لا يأخذ في الحسبان الإعانات الإيطالية السخية الجديدة للأسر التي تركز على المستخدمين الأكثر فقرًا
لم يكن لأسعار الطاقة الاستهلاكية في العقود الأخيرة سوى تأثير متواضع على معدل الوفيات في فصل الشتاء، لأنها تأرجحت ضمن نطاق ضيق إلى حد ما. ففي بلد أوروبي عادي، ومع ثبات العوامل الأخرى، لم تتسبب زيادة أسعار الكهرباء ما بين 2000 و2019 من أدنى مستوى إلى أعلى مستوى لها سوى بزيادة قدرها 3 بالمائة فقط في معدلات الوفيات الأسبوعية وفقًا لتقديرات النموذج؛ بينما تسبب انخفاض درجة الحرارة من أعلى مستوى إلى أدنى مستوى له في نفس الفترة لزيادة معدلات الوفيات بنسبة 12 بالمائة.
مع ذلك، خرجت الأسعار في الوقت الحالي عن نطاقها السابق. تقدر نسبة ارتفاع تكاليف الكهرباء المعدلة حسب التضخم منذ سنة 2020 بأنها أكبر بـ 60 بالمائة من الفرق بين أعلى وأدنى الأسعار المسجلة ما بين 2000 و2019. ونتيجة لذلك، سيكون للعلاقة بين تكاليف الطاقة والوفيات تأثير مختلف هذا العام عما كانت عليه في الماضي. ففي حالة إيطاليا على سبيل المثال، حيث ارتفعت تكاليف الكهرباء بنسبة 200 بالمائة تقريبًا منذ سنة 2020، ينتج عن استقراء العلاقة الخطية تقديرات عالية لمعدل الوفيات.
فضلا عن ذلك، يمكن لمتغيرين آخرين غائبين عن البيانات طويلة المدى التأثير على معدلات الوفيات هذه السنة: أدخلت العديد من الدول أو وسعت خطط التحويلات النقدية لمساعدة الأشخاص على دفع فواتير الطاقة، والتي ينبغي أن تقلل الوفيات إلى ما دون توقعات النموذج إلى حد ما. كما يمكن أن يرفع كوفيد-19 معدل الوفيات – بكونه أكثر احتمالًا للانتشار في الطقس البارد – أو يخفضه، خاصة أن الفيروس قتل بالفعل العديد من كبار السن والضعفاء الذين هم أكثر عرضة للإصابة بالإنفلونزا في الطقس البارد.
إن حالة عدم اليقين تجعل التنبؤ بالوفيات في أوروبا لهذا الشتاء صعبًا وأقل دقة، لكن الاستنتاج المؤكد الوحيد الذي يقدمه نموذجنا هو أنه إذا استمرت أنماط ما بين 2000 و2019 في سنة 2022-23، فإن سلاح الطاقة الروسي سيثبت فعاليته العالية. ومع اقتراب أسعار الكهرباء من مستوياتها الحالية، سيموت حوالي 147000 شخص (4.8 بالمائة أكثر من المتوسط) في فصل الشتاء العادي أكثر مما لو عادت هذه التكاليف إلى المتوسط المسجل ما بين 2015 إلى 2019. وإذا أخذنا بعين الاعتبار درجات الحرارة المعتدلة – اعتمادًا على أدفأ شتاء خلال العشرين عامًا الماضية لكل بلد – سينخفض هذا الرقم إلى 79000 شخص، بزيادة 2.7 بالمائة. أما في حالة البرودة الشديدة، حسب بيانات أبرد شتاء في كل بلد منذ سنة 2000، يرتفع معدل الوفيات إلى 185000 شخص، بزيادة قدرها 6.0 بالمائة.
يختلف حجم هذا التأثير حسب البلد. توجد أكثر الوفيات المتوقعة في إيطاليا بسبب ارتفاع تكاليف الكهرباء وعدد السكان المسنين، علما بأن النموذج لا يأخذ في الحسبان الإعانات الإيطالية السخية الجديدة للأسر التي تركز على المستخدمين الأكثر فقرًا. ومن المفترض أن تكون هذه التحويلات فعّالة للغاية لتعويض مثل هذه الأسعار المرتفعة. ويعد أداء إستونيا وفنلندا ضعيفًا أيضًا على أساس الفرد.
على النقيض من ذلك، فإن فرنسا وبريطانيا اللتين فرضتا سقوفًا للأسعار تحققان نتائج جيدة إلى حد معقول. أما في إسبانيا، فمن المتوقع أن تكون معدلات الوفيات ثابتة تقريبًا. ومن المتوقع أن تنخفض معدلات الوفيات في النمسا التي ستضع سقفًا لأسعار الكهرباء يصل إلى 0.10 يورو للكيلوواط/ الساعي لحد الاستخدام المتوسط.
بالنسبة لأوروبا ككل، فإن تقدير النموذج للوفيات الناجمة عن الزيادات في أسعار الطاقة يتجاوز عدد الجنود الذين يُعتقد أنهم لقوا حتفهم في أوكرانيا، والذين يتراوح عددهم بين 25 إلى 30 ألفًا لكل جانب. وعند المقارنة وِفقًا لسنوات العمر المفقودة تكون النتيجة مختلفة، لأن القذائف والرصاص تقتل الصغار في الغالب بينما يقتل البرد كبار السن. كما لقي ما لا يقل عن 6500 مدني مصرعهم في الحرب. وبالنظر إلى الهجمات الروسية على البنية التحتية الأوكرانية، فإن الدولة الأوروبية التي سيزهق فيها البرد أكبر عدد من الأرواح هذا الشتاء ستكون أوكرانيا بالتأكيد.
إن الضرر الذي يلحقه بوتين بأوكرانيا هائل، بينما تعتبر التكلفة على حلفائها أقل وضوحا. ولكن بحلول فصل الشتاء، سيقاس التزامهم ليس بالمساعدات والأسلحة فقط، ولكن بالأرواح أيضًا.
المصدر: إيكونوميست