ما زالت الخسائر مستمرة بالارتفاع في صفوف “قوات سوريا الديمقراطية” أو ما يعرف اختصارًا بـ”قسد”، نتيجة القصف التركي المتواصل على المواقع والقواعد العسكرية التابعة للتنظيم الكردي، الذي تعتبره أنقرة عدوها الأول في سوريا بالإضافة إلى تصنيفه على لوائح الإرهاب، فتركيا تقول إن هذا التنظيم من أفرع “حزب العمال الكردستاني” في سوريا، ومنذ أن أطلقت عملية “المخلب السيف” تكبدت “ٌقسد” خسائر فادحة.
ما زالت العملية الجوية التركية مستمرة ضد الميليشيات الكردية على طول الشريط الحدودي وفي عمق وجود “ٌقسد” وحلفائها، وكانت العملية العسكرية قد أطلقت ردًا على تفجير شارع الاستقلال في إسطنبول الذي راح ضحيته مدنيون ستة وعشرات الجرحى، وبحسب اعترافات منفذي التفجير الذين قبضت عليهم السلطات التركية فإن الأوامر أتتهم من الميليشيات الكردية الموجودة في منبج وتل رفعت في سوريا.
قسد على كل الحبال
مدينتا منبج وتل رفعت اللتان تسيطر عليهما القوات الكردية، هما أحد أهم الأهداف التركية منذ سنوات، لكن الظروف الدولية لم تتح لتركيا السيطرة عليهما، كما أن المنطقتين تحظيان بأهمية كردية عالية، وتتمركز قوات قسد بشقيها المدني والعسكري بشكل أساسي فيهما، لكن أنقرة أعلنت غير مرة أنها في صدد السيطرة على هاتين المنطقتين بالإضافة إلى مناطق أخرى منها عين العرب “كوباني” ورأس العين.
يؤكد المسؤولون في تركيا أن عملية “المخلب السيف” التي انطلقت منذ أيام ستتحول إلى عمليات برية مدعمة بالآليات والجنود الأتراك برفقة قوات المعارضة السورية، وذلك للقضاء على وجود الميليشيات والتنظيمات الكردية التي تهدد أمن تركيا، وخلال الأسبوع الماضي استهدفت القوات الكردية مناطق تركية وسورية بالقصف ردًا على الغارات التركية، وقد أوقع قصف “قسد” ضحايا مدنيين في قضاء قرقميش التابع لولاية غازي عنتاب، إضافة إلى ضحايا في مدينة أعزاز السورية.
تحاول “قسد” اللعب على كل الحبال لتفادي عملية عسكرية تركية قادمة، لأن العمليات السابقة التي حصلت لم تستطع القوات الكردية الصمود أمامها، وخلال 3 معارك أطلقت في السنوات الـ6 الماضية سيطرت تركيا على الكثير من المدن التي كانت “قسد” توجد فيها، وعلى الرغم من الدعم اللامتناهي من الأطراف المتعددة لهذه الميليشيا، فإنها لم تستطع المحافظة على نقاط وجودها.
هذه المرة أكد المسؤولون في “قسد” أنهم يعملون من أجل إيقاف هذه العملية التركية وذلك من خلال التواصل مع أمريكا وروسيا للضغط على أنقرة، وبالفعل أدت الضغوط الدولية على أنقرة إلى تعليق عمليتها العسكرية في مايو/أيار من هذا العام، حيث كانت تعتزم الدخول بقوة، لكن الضغوط والتفاهمات والظروف الدولية لم تكن في صالح أنقرة، ويبدو أن “قسد” تريد إعادة ذلك السيناريو من جديد.
جهود روسية أمريكية
إلى ذلك، تقود أمريكا جهودًا من أجل منع عملية تركية، كما تحاول روسيا إقناع تركيا بالعدول عن فكرتها من الهجوم البري، وقد نقل “تليفزيون سوريا” أن المبعوث الأمريكي إلى شمال شرقي سوريا، نيكولاس غرانجر، طرح مبادرة واشنطن لوقف التصعيد بين تركيا وقوات سوريا الديمقراطية، بما يفضي إلى ثني تركيا عن شن عملية عسكرية برية في مناطق سيطرة “قسد” ومنح تركيا تطمينات أمنية.
وتتزامن المبادرة الأمريكية مع اقتراح روسيا نشر قوات من “الفيلق الخامس”، الذي تشرف عليه والعامل ضمن قوات النظام، في مناطق الشريط الحدودي وعودة القوات الأمنية للنظام ومؤسساتها بشكل كامل، وهو ما رفضته “قسد”، وقد أعلن المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى سوريا، ألكسندر لافرنتييف، أن بلاده “تدعو الشركاء الأتراك إلى ضبط النفس لمنع المزيد من التصعيد والتوتر في سوريا”، وشدّد على “ضرورة مواصلة العمل مع جميع الأطراف المعنية لمحاولة إيجاد حلّ سلمي للقضية الكردية”.
وأوضح لافرنتييف أن روسيا “فعلت كل ما في وسعها لمنع العملية التركية البرّية واسعة النطاق في سوريا”، مشيرًا إلى أن موسكو “تأمل أن يكون من الممكن إقناع الشركاء الأتراك بالامتناع عن الاستخدام المفرط للقوة على الأراضي السورية”.
أما بالنسبة للجانب الأمريكي، فقد تضاربت التصريحات، ففي البداية أكّد مسؤول في وزارة الدفاع الأمريكية أن “أي عمل عسكري يعرقل مهمة القوات الأمريكية في سوريا، يشكّل قلقًا للولايات المتحدة”.
وكانت “قسد” قد اجتمعت مع قائد القوات الروسية في سوريا ألكسندر تشايكو، وقد حذر تشايكو “قسد” من جدية التهديدات التركية بشن عملية عسكرية برية في مناطق غربي الفرات.
وأضاف أن روسيا أعلمت وفد “قسد” بأن “السبيل الوحيد لحماية المنطقة من هجوم تركي جديد هو الانسحاب الكامل من الشريط الحدودي إلى جنوبي الطريق الدولي (M4) أي بعمق 30 كيلومترًا”، وشارك في الاجتماع مسؤولون عسكريون من قوات النظام السوري.
من جانبه، وصف منسّق الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض، بريت ماكغورك، الوضع شمال سوريا بأنه “صعب”، داعيًا إلى “التوقف عن زعزعة الاستقرار في شمال سوريا”، مؤكدًا “التزام الولايات المتحدة وحرصها على إبقاء الحدود السورية التركية آمنة”.
بعد تلك التصريحات التي اُعتبرت رافضة لعملية تركيا على حدودها، خرج جون كيربي، منسّق الاتصالات الإستراتيجية في مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض، ليقول إن “تركيا لا تزال تواجه خطر الإرهاب في منطقتها الجنوبية، ولها الحق في الدفاع عن نفسها”.
المواقف الروسية والأمريكية وصفها قائد قوات سوريا الديمقراطية، مظلوم عبدي، بالضعف، وقال عبدي: “الغزو الروسي لأوكرانيا عزز من قيمة تركيا في نظر روسيا والغرب على حد سواء”، وقال عبدي: “ما لم تقف موسكو وواشنطن بحزم ، فمن المرجح أن تتابع تركيا التهديدات المتكررة لتحريك قواتها ضد قواته كما فعلت في عمليتين منفصلين في 2018 و 2019”.
وكان عبدي قد أشار إلى أنه “من دون إذن أمريكي روسي فلن تقوم تركيا بأي هجوم بري. وعلى أي حال، هو ما أومن به إذا كان هناك هجوم بري فسيكون بسبب منح هذا الإذن أو لأن روسيا والولايات المتحدة اختارتا الصمت”، وأشار إلى أن “موقف واشنطن الحاليّ هو رفض الهجوم التركي، يقولون لنا إنهم لا يوافقون على أي إجراء من هذا القبيل من جانب تركيا وأنهم سيعارضونه”.
شروط تركية تعجيزية
بالنسبة لتركيا، فإنها لم ترفض المساعي الأمريكية والروسية مبدأيًا، حيث نقلت مواقع إعلامية إن شروط تركيا لإيقاف عمليتها البرية تتمثل بـ”انسحاب قسد بشكل كامل من الشريط الحدودي بعمق 30 كيلومترًا، وإخراج عناصر حزب العمال الكردستاني من المنطقة، ووقف الدعم الأمريكي لقسد، وحل مؤسسات الإدارة الذاتية ونشر نقاط مراقبة تركية على طول الشريط الحدودي”.
وتطالب تركيا أيضًا بتسليم “قادة وأعضاء بارزين من حزب العمال الكردستاني موجودين في شمال شرقي سوريا إليها، ممن تتهمهم أنقرة بتنفيذ عمليات إرهابية ضد قواتها وداخل أراضيها”.
الشروط التركية بالنسبة لـ”قسد”، “مرفوضة وتعجيزية وغير قابلة للتطبيق والمناقشة”، لكن واشنطن حثت “قسد” على اتخاذ إجراءات عاجلة من شأنها منح تركيا تطمينات أمنية، وشددت على ضرورة “إخراج مقاتلي حزب العمال الكردستاني” من المنطقة وعدم التصعيد مع تركيا”.
ميدانيًا
بالتوازي مع النقاشات الكردية مع الفاعلين الدوليين في سوريا، تحاول “قسد” تعزيز مواقعها ودفاعاتها تحضيرًا للهجوم التركي، حيث استقدمت “قسد” تعزيزات عسكرية إلى مناطق الشريط الحدودي في محافظة الحسكة، وشملت التجهيزات العسكرية مدن المالكية والقامشلي وصولاً إلى مدينة الدرباسية بالقرب من مناطق التماس مع الجيش الوطني السوري في رأس العين.
التعزيزات الكردية هذه أتت بعد تصريحات لمظلوم عبدي، قائد قسد، بإشعال الحدود السورية التركية في حال هجوم الجيش التركي، وقال عبدي: “تركيا تتحضر لشن هجوم على كوباني ومنبج وتل رفعت، بالتزامن مع مساعٍ أمريكية لإيقاف هذا الهجوم”، وبيّن عبدي، أن أمريكا وروسيا تعارضان الهجوم التركي وهي “مواقف جيدة، لكن المواقف الدولية يجب أن تكون أقوى لأن تركيا مصممة على الهجوم”.
وشدد عبدي أن عملياتهم ضد القوات التركية هي ضمن الأراضي السورية، مهددًا “إذا ما بدأت تركيا الحرب ستشتعل الحدود السورية التركية بكاملها”.
في الطرف المقابل، فإن غارات الطيران التركي لم تتوقف، وفي الساعات الماضية نفذت القوات التركية، سلسلة غارات جوية تبعها قصف مدفعي على مواقع “قسد” في ريف حلب، بالتزامن مع إرسال تعزيزات عسكرية جديدة إلى الحدود مع سوريا، وطالت الغارات الجوية مطار منغ العسكري، وقرى شوارغة والمالكية ومراش الخاضعة لسيطرة لـ”قسد” بريف حلب الشمالي.
التلويح بورقة “داعش”
لوحت “قسد” للدول الفاعلة بورقة تنظيم “داعش” من أجل الضغط عليهم لإيقاف المخطط التركي، حيث أعلن مظلوم عبدي، وقف العمليات العسكرية ضد تنظيم “داعش” بسبب الهجمات التركية، مؤكدًا أن التنسيق مع قوات التحالف بشأن محاربة التنظيم قد تم تعليقه، للانشغال بجبهات المواجهة المحتملة مع تركيا. ومرارًا وتكرارًا يحذر تنظيم “قسد” من “النتائج السلبية لأي هجوم تركي على محاربة داعش وإمكانية أن يستغل المعارك للعودة والظهور في مناطق سوريا عدة لا سيما شمال شرقها”. وبالطبع فإن ورقة “داعش” التي تمسك بها القوات الكردية في سوريا هي أحد أهم نقاط القوة لديها بوجه الغرب والتحالف الدولي.
حيث تعتبرها “مصدر شرعية” والرابط الأساسي في علاقتها مع الدول الأخرى والفاعلين في الشأن السوري، كما أن “ٌقسد” اكتسب شرعيتها بعد قضاء التحالف على التنظيم بالتعاون مع قواتها، كما أنها تشرف على سجون تضم مئات المنتسبين لـ”داعش” من المواطنين الغربيين.
وترى “قسد” أنها الوحيدة حاليًا في مضمار الحرب مع تنظيم “داعش” وفي حال استطاعت تركيا القضاء على “قسد” في سوريا فإن قوى التحالف لن تجد حلًا أو قوةً بديلةً لمواجهة التنظيم المتطرف، ما يخلق مشكلة جديدة لدى أمريكا وحلفائها.
إذن، تحاول “قسد” العمل في كل الاتجاهات من أجل إيقاف العمليات التركية ضدها، وتعمل الميليشيا الكردية في اتجاهات مختلفة دوليًا ومحليًا، لكن في الطرف المقابل يبدو أن أنقرة حسمت أمرها وتريد تحقيق شروطها بأي شكل كان بالحسابات التي تريدها سلمًا أو حربًا، وفي حال لم يحصل تدخل أمريكي ودولي جدي، فإن مصير قسد لن يكون أحسن من مصيرها في عمليات نبع السلام وغصن الزيتون ودرع الفرات.