عُرف عن السوداني أنه مسالم ذو مزاج صوفي يميل إلى الاعتدال، لكن أعمال العنف سواء ضدّ المحتجين السلميين أو القَبَلي أو التي تحدث على نطاق ضيق بدوافع السرقة والانتقام في البلاد خلال الفترة الماضية، ربما تجعلنا نشكّك في هذه الفرضية، وذلك دون أن نبتعد عن فرضية أخرى تقول إن أوقات الاضطرابات السياسية تشكّل دافعًا قويًّا لأخذ ما تعتقد أنه حقك بالقوة طالما تمتلكها.
صحيح أن السودان يعيش في أزمات سياسية واقتصادية متطاولة تركت أثرًا عميقًا في جميع مؤسسات الدولة وفي السكّان أيضًا، لكن هذا لا يمنعنا أن نتساءل: لماذا العنف؟
العنف في الاحتجاجات رغم العملية السياسية
ظلت لجنة أطباء السودان تنشر تقارير عن انتهاكات القتل والإصابات التي تُلحقها قوات الأمن والشرطة منذ استيلاء الجيش على السلطة في 25 أكتوبر/ تشرين الأول، وهذه الخطوة التي تعتبرها الأمم المتحدة انقلابًا عسكريًّا وجدت مقاومة سلمية واسعة، حيث تقول اللجنة إنه قُتل في سياقها 121 متظاهرًا، الكثير قضى بالرصاص والبعض الآخر قضى بأدوات عنف الدولة التي بينها الدهس بمركبات الشرطة.
جمعت منظمة حاضرين، وهي تنشط في علاج مصابي الاحتجاجات، بيانات اللجنة الطبية وسجلّات المستشفيات في تقرير شامل يغطي الفترة من لحظة سيطرة الجيش على السلطة إلى 4 أغسطس/ آب، يتحدث عن إصابة ما يزيد عن 7 آلاف محتجّ، منهم أكثر من 400 طفل، علاوة على رصدها 50 حالة عنف جنسي.
تقول النيابة العامة إنها تحقق في العنف ضد الاحتجاجات، دون أن تعلن توقيفها أي عنصر من الشرطة أو تقدّمهم للقضاء، وربما هذا ما أغرى عناصر القوات التي تفرّق المحتجين لارتكاب مزيد من الانتهاكات وبطرق مختلفة، حيث كانت تستخدم قبل فترة سلاح الخرطوش الذي بسببه قُتل 8 متظاهرين وأُصيب 747 آخرين، وهو سلاح محرّم دوليًّا لاستخدامه في تفريق الاحتجاجات.
حيث تتمثّل خطورة سلاح الخرطوش في تناثر مقذوفاته داخل جسم المصاب، وانتشارها داخل الأحشاء وقرب الشرايين والأوردة في الصدر والبطن والرأس، ما يصعّب التدخل الجراحي، وقاد هذا الأمر المدافعين عن حقوق الإنسان إلى انتقاد هذا السلاح على نطاق واسع، ما دفع القوات الحكومية إلى التخلي عنه واللجوء إلى أداة أخرى.
نبّه محامو الطوارئ، وهم مجموعة من المحامين يترافعون عن المتضررين من عنف الدولة مجانًا، قبل فترة قصيرة إلى أن القوات بدأت تحشو سلاح الأوبلن الذي يطلَق منه الغاز المسيل للدموع بالحجارة والزجاج المكسور وتوجيهه إلى المتظاهرين، وبعد أن قُتل به متظاهران في 23 و24 نوفمبر/ تشرين الثاني بدأ الأطباء في ابتدار حملة لإيقافه.
المكتـــــب الموحـــد للأطبـاء#الأوبلن_سلاح_قاتل
حول استخدام الأسلحة المحرمة دولياً من قبل السلطة الانقلابية
– الأسلحة القاذفة (سلاح الأوبلن)
في مـــــواكب 23، 24 نوفمبر 2022 فقط:
? شهيدان نتيجة استخدام السلاح القاذف المحشو بالحجارة
? (3) حالات فقد للعين نتيجة استخدام السلاح pic.twitter.com/zy050ntdHE
— لجنة أطباء السودان المركزية CCSD’S (@SD_DOCTORS) November 27, 2022
تمارس القوات الحكومية هذا العنف ضد الاحتجاجات بصورة أسبوعية، رغم دعوات الأمم المتحدة والدول الغربية المتكررة للسماح بحرية التجمع والتعبير، ومطالبات القادة السياسيين المنخرطين في تفاهمات مع قادة الجيش يتوقع أن تنتهي بتوقيعهم على اتفاق ينقل السلطة إلى المدنيين في بداية العام المقبل على أسوأ تقدير، نظرًا إلى تصريحاتهم في هذا الشأن.
هذه التفاهمات التي تيسّرها آلية ثلاثية مؤلَّفة من بعثة الأمم المتحدة في السودان والاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية للتنمية “إيقاد”، يرفض منظّمو الاحتجاجات الانضمام إليها لعدم ثقتهم في القادة العسكريين الذين أنفسهم نقضوا اتفاق تقاسم السلطة الذي أبرموه في أغسطس/ آب مع ائتلاف الحرية والتغيير، بعد أشهر من عزل الرئيس عمر البشير، كما أنهم يخشون ألّا يحقق الاتفاق المرتقب مطالبهم في الحكم المدني وتحقيق العدالة لرفاقهم.
تتحدث تسريبات عن أن القوى السياسية منحت قادة الجيش تعهُّدات بالإفلات من العقاب عن الانتهاكات التي يعتقد منظّمو الاحتجاجات أنها تحدث بناءً على أوامر صادرة عنهم، ورغم نفي الحرية والتغيير هذا الأمر إلا أن تأجيلها بحث العدالة والعدالة الانتقالية في الوقت الحالي يعزز من مصداقية هذه التسريبات.
النزاع الأهلي
بات العنف الأهلي الذي توسّع إلى مناطق كانت تشهد بعض الاستقرار، مميتًا في أغلب حالاته وغالبًا ما يندلع في سياق المنافسة على الأراضي، إذ تظلّ الحدود بين المزارعين المستقرّين والرعاة الرحّل سببًا في النزاع القَبَلي، لكن السبب الجوهري يكمن في نظرة المجتمع المحلي خاصة في دارفور والنيل الأزرق إلى الأرض، باعتبارها مدخلًا قويًّا إلى النفوذ السياسي والسلطة، دون إغفال أن الدولة تعترف بالملكية العرفية للأرض أي أن القبائل تمتلك الأرض التي قطنها أجدادهم.
هذا العام، أودى الصراع الأهلي بحياة 829 شخصًا وتشريد 165 ألفًا آخرين، وهذه الإحصائية الصادرة عن الأمم المتحدة لا تشمل الضحايا في نزاعَين اندلعا في نوفمبر/ تشرين الثاني في دارفور وكردفان، أعنف نزاعَين في سلسلة الصراع في إقليم النيل الأزرق جنوبي السودان، إثر رفض القبائل والعشائر، التي تعدّ نفسها مالكة للأرض اتجاه قبيلة أخرى، تكوين إدارة أهلية، وهي نظام حكم محلي يقف على رأسه الناظر الذي يخضع له جميع أفراد قبيلته بصورة أو بأخرى.
عادة تنشر الحكومة قواتها للفصل بين القبائل المتنازعة وتشجّعهم على إبرام اتفاقيات وقف العداء، رغم تأكيد التجربة عدم صمودها لوقت طويل، وذلك لعدم اتخاذها إجراءات قانونية بحق من يرتكب العنف وعدم نزع السلاح المنتشر بكثافة، حيث يتطلب إنهاء النزاع الأهلي حلّ أزمة ملكية الأرض، لكن لا أحد يعرف كيفية التوصُّل إليه في ظل تقاعس الدولة عن مهامها التي تأتي في مقدمتها احتكار أدوات العنف.
في الخرطوم ومدن أخرى، تنشط عصابات تستقل درّاجات نارية دون لوحات مرورية في نهب المارّة والهرب سريعًا، تطوّر بمرور الوقت نهجها إلى استخدام السلاح الأبيض وأحيانًا السلاح الناري، وعلى الرغم من الدعوات الشعبية المكثّفة للدولة بإنهاء نشاطها إلا أنها مستمرة.
العميد طبيب طارق الهادي: إذا لم تنفذ حدود الله وتطبق حد الحرابة في ٩ طويلة لن يرتدع الناس عن الإجرام.
واذا عجزت الأجهزة الأمنية من جيش وشرطة عن القيام بواجباتها يستقيلوا يشوفوا ليهم شغلة تانية ?? pic.twitter.com/FSWXchA4W8
— Anwar Ali أنور علي???? (@anwar_ali2025) November 27, 2022
في ظل هذا الوضع، ربما يظل طموح الشاب الذي أخبره لمفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، فولكر تروك، خلال زيارته إلى السودان بأن يظل على قيد الحياة، هو تطلُّع معظم السودانيين.