“المدينة الصحراوية السمراء”.. “مدينة الشمس”.. “روما الشرق”، مسميات عُرفت بها مملكة “الحضر” التاريخية، أحد أهم وأبرز الممالك التي احتضنتها منطقة الهلال الخصيب قبل الإسلام، تميزت بهندستها المعمارية التي سبقت عصرها بأزمنة غابرة، وتمتعت بثراء فني متنوع.
تعود نشأة مملكة “الحضر” أو كما تعرف أيضًا بـ”مملكة عربايا” إلى القرن الثاني قبل الميلاد، واستمر حكمها إلى عام 241 من الميلاد، عندما سقطت على يد الملك الساساني شاور الأول، وتقع في قلب بادية الجزيرة الشمالية بمحافظة نينوى العراقية (شمال)، فيما تتوسط نهري دجلة والفرات عن الجانب الشمالي الغربي، ويجري على شرقها وادي الثرثاء الذي يمر منها بنحو 3 – 4 كيلومترات، وتبعد نحو 110 كيلومترات إلى الجنوب الغربي من الموصل ونحو 50 – 60 كيلومترًا شمال مدينة آشور القديمة (الشرقاط بمحافظة صلاح الدين العراقية).
أكثر ما يميز الحضر أنها كانت ضمن كوكبة من الممالك التي زخرت بها منطقة الهلال الخصيب في تلك الفترة، منها مملكة الأنباط وعاصمتها البتراء، ومملكة تدمر وعاصمتها تدمر، ودولة المناذرة وعاصمتها الحيرة، والغساسة وعاصمتها الجابية، فرغم وجودها بين هؤلاء الكبار، استطاعت أن تفرض نفسها كقلعة معمارية ذات إسهامات حضارية متعددة المجالات، كما أنها تعد أول موقع أثري عراقي يُدرج ضمن لائحة التراث العالمي لليونسكو عام 1985.
على أنقاض الآشوريين
حين أفل نجم الحضارة الآشورية (911 – 612 ق. م) نهاية القرن السابع قبل الميلاد، تفرقت القبائل التي كانت تسكنها، وكان الشمال باتجاه الفرات من أكثر المناطق التي احتضنت القبائل الآشورية المهاجرة، ففي تلك البقعة حيث دجلة والفرات ازدهرت المراعي وتوافرت جداول المياه، وكلاهما مقومات الحياة لعشرات القبائل على مدار قرون عدة.
وفي القرن الثاني قبل الميلاد بدأت مملكة الحضر في الظهور، كمركز حضري للقبائل الآشورية المهاجرة، ثم زادت أهميتها بعد اندلاع الحروب بين الإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية الفارسية الفرثية في القرن الأول قبل الميلاد، إذ جعلها موقعها الحدودي الإستراتيجي بين الإمبراطوريتين لأن تكون خط الدفاع الأول في المواجهة العسكرية بين الطرفين.
ومما زاد من أهمية المملكة بعد نهاية الرومان، أنها ظلت نقطة الارتكاز الحدودية التي تلتقي عندها الإمبراطورية السلوقية والساسانية والفرثية، فباتت بذلك حلقة وصل تاريخية، كما أصبحت الملاذ الآمن للقبائل العربية والآرامية، ما أهلها لأن تكون بعد ذلك إمبراطورية تجارية مزدهرة، ونقطة اتصال مركزية في التجارة بين الشرق والغرب، وفي الوقت ذاته كانت قلعة كبيرة محصنة بأبنية شاهقة.
ورغم ذهاب معظم المؤرخين إلى أن الظهور الحقيقي للحضر كان في القرن الثاني قبل الميلاد، فإن بعض الروايات التاريخية تشير إلى أن الأمر أسبق من ذلك بكثير، مستندين في ذلك إلى تلك الوثيقة التي تعود إلى القرن الثامن عشر قبل الميلاد التي حوت اسم هاشوارو (Haṣaru)، وهو مبني على نفس الجذر السامي الذي يعني “السياج أو السور” وهو الاسم الأثري لمملكة الحضر.
تشير النقوش الكتابية إلى أن اسم المملكة كُتب بالآرامية بصيغة “حطرا”، ومن ذلك ما نُقش على المسكوكات المضروبة فيها من الحضريين أنفسهم شعارًا لعملتهم الوطنية الخاصة، وذلك في عبارة “حطرا دي شمش”، وتعني الحضر مدينة الشمس أو العائدة للشمس.
وتنوعت الصيغ التي كتبت بها اسم مملكة الحضر بين المصادر المختلفة، ففي المدونات اللاتينية القديمة وردت باسم “حطرا” (HATRA) بمعنى بلاد العرب، أما في السريانية والآرامية، فوردت بصيغة “حوطرا”، وتعني الحظيرة، وفي النصوص الأوغاريتية تكررت لفظة “حظر” عدة مرات، وتعني القصر، أما الحضريون أنفسهم فسجولها على عملتهم الوطنية الخاصة بـ”حطرا دي شمش”، وتعني الحضر مدينة الشمس أو العائدة للشمس.
ملوك الحضر
ظلت مملكة الحضر تحت هيمنة الحكم الروماني مئات السنين، ولم تزدهر وتصبح مملكة لها حضورها المستقل وثقلها الإقليمي إلا بعد سقوط الرومان، وقد تناوب على حكمها 4 ملوك عرب فقط، خلال 84 عامًا، كان أولهم الملك ولجش الذي حكم خلال الفترة من 158 – 165 ميلادية، تم التعرف عليه من أكثر من 20 نقشًا من النقوش التي وجدت في مدينة الحضر.
وتلاه في الحكم شقيقه الملك سنطروق الأول خلال الفترة من 165 – 190 ميلادية، وقد وجدت كتابة على أحد المباني الأثرية بالمملكة تقول: “سنطروق هو ملك العرب”، ثم تولى الحكم نجله الأكبر الملك عبد سيما الذي دام حكمه عشر سنوات فقط من 190 – 200 ميلادية.
أما الملك سنطروق الثاني وهو ابن الملك عبد سيما فهو الأطول حكمًا للمملكة، فقد دام حكمه أكثر من 40 عامًا من عام 200 – 241 ميلادية، وفي عهده شهدت الحضر أكبر ازدهار لها، على المستوى الجغرافي التوسعي أو الاقتصادي، فامتدت البلاد إلى ما بعد نهر الفرات في الغرب، ووصلت إلى تخوم بلاد الشام الخاضعة حينها للحكم الروماني.
انتقل أهل الحضر في تدينهم من الوثنية ابتداءً، حيث كانوا يعبدون آلهة عدة منها اللات وشمش وتعني الحقيقة المطلقة عند الحضريين، كما نعتوا الشمس بالإله الأكبر وقد تخيلوه على هيئة كهل عاقل كما توضح رسومهم على أقواس وإسكفات في المعبد الكبير، ثم تحولوا إلى الديانة المسيحية، وأصبحت مملكتهم مملكة دينية ذات حكم ديمقراطي، فقد كانت تتمتع بأرقى معاني الديمقراطية وحرية إبداء الرأي مقارنة بالممالك الأخرى.
قلعة معمارية
شهد القرنان الأول والثاني أوج التفوق المعماري لمملكة الحضر التي تُصنف على أنها قلعة معمارية، تجمع بين فنون العمارة والعسكرة، فهي واحدة من الممالك القلائل التي استعانت بالإيونات (الحجرات المحصنة) في هندستها المعمارية، فالمدينة بنيت في الأساس على شكل مستدير بما يسهل مهمة الدفاع عنها أمام الإمبراطوريات الغازية في ذلك الوقت، محاطة بأسوار وقلاع تجعل اختراقها أمرًا صعبًا.
ويبلغ قطر تلك المدينة العاصمة نحو كيلومترين، كدائرة في المنتصف، يحيط بها خندق محكم، يلفها من كل جانب، ومن فوقه سور عظيم مكون من جدارين عرضهما 2.5 و3 أمتار، وبينهما مسافة تقدر بنحو 12 مترًا عند البوابة الشرقية، والسور مدعم بأكثر من 160 برجًا، وفي الخارج وعلى بعد نصف كيلومتر من السور، يوجد خط ترابي يحيط بالمدينة من جميع الجهات وبه عدد من القلاع الدفاعية.
يتوسط المدينة نصب حجري مصنوع من الطوب اللبن، يقال إنه ضريح يضم عدد من المعابد، كما كان موقعًا للحج السنوي لعرب بلاد ما بين النهرين، واحتل مكانة مقدسة لدى سكان الحضر، وقد عثرت فرق التنقيب الإيطالية والبولندية بالقرب من السياج المقدس على بعض الآثار الخاصة بجدران مبنية من الحجر والطوب اللبن، يبدو أنها بقايا لسور كان يحيط بالحضر قبل بناء السور الحاليّ، هكذا فسر الباحثون.
حضور فني وثقل ديني
كشفت النقوش البارزة على جدران الحضر المستوى المتقدم من الفن الذي كان يتمتعون به، وكان يرتكز على المنحوتات في المقام الأول، وهي السمة الأبرز لحضارات بلاد ما بين النهرين، ويبدو من خلال تلك النقوش حجم المزج بين الفنون اليونانية الرومانية وهو ما توثقه الزخازف المستخدمة التي تزين الجدران.
وقد جمع الحضريون في منحوتاتهم بين التي توثق حياة البشر والآلهة معًا، فهناك تماثيل للناس على خزائن الإيونات العظيمة، بعضها يتضمن صورًا وأشكالًا لحيوانات مختلفة، وعلى الجانب الآخر كان النصيب الأعظم من تلك التماثيل للآلهة، وكانت منحوتة من الحجر الجيري والمرمر، وغالبًا ما تكون منقوشة.
ومن أشهر التماثيل المنحوتة في وسط العاصمة تمثال إله الشمس (Sun-God) الذي تم نحته على صورة شاب أصلع يحمل قرنين، مع أشعة الشمس المنبعثة من رأسه، ويرتدي سترة ذات أكمام قصيرة ومزينة بشكل غني ومثبتة حول خصره بحزام مصنوع من قطعة ملفوفة من القماش، كذلك إله الكراهية الذي يظهر على صورة رجل ملتح، عار، متكئ على عصا.
وتتميز التماثيل الحضرية بأنها طبيعية الحجم، بمعنى أنها تظهر بالحجم الحقيقي لصاحبها، هذا فيما يتعلق بالتماثيل الخاصة بالأشخاص، فيبلغ ارتفاعها 190 سنتيمترًا تقريبًا، وفي الغالب يكون الشخص رافعًا يده اليمني التي تشير إلى الصلاة والتعبد لدى بلاد ما بين النهرين في ذلك الوقت، ويرتدي سراويل وسترة مزخرفة ولديهم شعر ناعم وتسريحة مميزة، وأحيانًا يكون عليها تاج إذا كان الشخص صاحب التمثال من ذوي الوجاهة الاجتماعية.
وتنقسم التماثيل في مستواها من حيث الحجم والأحجار والزينة المستخدمة حسب الدرجة الاجتماعية والاقتصادية للأشخاص، أما الحضور النسوي في تلك التماثيل فكان ضعيفًا للغاية، فمن بين مئات التماثيل الموجودة ليس هناك إلا 13 تمثالًا فقط للمرأة، وكن يرتدين ثيابًا طويلةً وأغطية رأس عالية ويمتلكن الحلي التي تعكس مستوياتهن الاجتماعية.
وعلى المستوى الديني فكانت الحضر مركزًا دينيًا من الطراز الأول، ولها ثقل وحضور قوي في هذا المجال، إذ كانت تضم عددًا من المعابد والتماثيل لأهم الآلهة الشهيرة التي كانت تتنوع بين الإغريقية والآشورية والبابلية والعربية، ومن أشهر تلك الآلهة التي كان لها تماثيل في الحضر “نرغال” أهم إله في أكّاد وآشور وبابل، و”هيرميس” و”اللات” التي عبدها العرب قبل الإسلام، و”أترعتا” وهو من أشهر الآلهة التي كانت في الجزء الشمالي من سوريا، وكذلك عند الأنباط جنوبًا، وإله الشمس “أوتو”، و”بعل شميم” رب السماء في عموم سوريا.
ممر تجاري مهم
سمح الموقع الإستراتيجي لمملكة الحضر على الطريق التجاري الرئيسي بين الشرق والغرب في أن تكون ممرًا تجاريًا محوريًا، وهو ما أهلها للسيطرة على طريق قوافل الحرير والتوابل والبخور والأخشاب المارة ببادية الجزيرة، لتزدهر المدينة الرئيسية بالتجار الحضريين والأجانب على حد سواء، وهو ما أنعش الحالة المعيشية للسكان.
وقد كشفت الكثير من النقوش الجدارية عن حجم ما وصل إله الحضر من مكانة اقتصادية وتجارية ومن بينها الكتابات الأثرية المكتشفة في المنطقة التي تشير إلى ممارسة أهل الحضر جباية الأموال والضرائب من القبائل العربية، كما ساعدت المكانة الدينية للمملكة في إنعاش قدراتها الاقتصادية، حيث كان التجار يغرقون معابدها المنتشرة بالنذور والهدايا والمال بشكل يومي وهو ما كان ينعش خزائن البلاد.
وأسال موقع المملكة الإستراتيجي وثقلها الديني والاقتصادي لعاب الرومان والفرس معًا، فشنوا ضدها عشرات الهجمات على مدار سنوات طوال، لكن تحصيناتها الدفاعية وتأهيلها القتالي العمراني حال دون اختراقها، ما أجبر الإمبراطور الروماني تراجان على فرض حصار مشدد عليها، وكان ذلك عام 116 ميلاديًا، وعلى الجانب الآخر، نجحت في كسر هذا الحصار إثر مقاومة شرسة، كما هزمت الفرس في معركة “شهرزور” الشهيرة عام 238 ميلاديًا.
وفي عام 241 ميلاديًا فرض الإمبراطور الساساني، شابور الأول (حكم في الفترة بين 240-270) حصارًا آخر على المملكة، واستمر هذا الحصار قرابة عامين كاملين، ونجح في اختراق المدينة وتدميرها بالكامل، وقُتل الملك الحضري سنطروق، وهنا تباينت الروايات بين الباحثين عن كيفية سقوط الحضر على أيدي الساسانيين.
بعض الروايات بحسب الباحث الأثري الأردني خالد بشير تشير إلى أن ابنة سنطروق وتدعى “النضيرة” هي من ساعدت في إسقاط المملكة وذلك حينما وقعت في علاقة غرامية مع الإمبراطور شابور، ودلته على خندق يمكن من خلاله دخول المملكة دون علم الجيش الحضري، وهي الرواية التي صاحبها الكثير من الجدل بشأن هوية “شابور” الحقيقية وهل هو الإمبراطور “سابور ذو الأكتاف” أم قائد الجيش “شابور الجيوش”، ورأي ثالث يشير إلى أنه “سابور بن أردشير الأول”، وهو “سابور الثاني” هذا بجانب الخلاف بشأن الملك الحضري الذي كان يحكم المملكة في ذلك الوقت وطريقة قتله وهناك روايات عدة في تلك المسألة.
وأيًا كان الروايات عن سقوط المملكة وطبيعة الخيانة التي منيت بها على يد ابنة الملك، ورغم الجرائم التي ارتكبها تنظيم الدولة “داعش” في 7 مارس/آذار 2015، حين هدم بالجرافات كثيرًا من مباني المدينة الأثرية وحطم الأصنام والتماثيل باستخدام الفؤوس والقنابل بدعوى أنها “أصنام وشركيات” محرمة في الدين الإسلامي، فإن مملكة الحضر كانت وستظل إحدى الممالك التي أثرت الحضارة الإنسانية في القرن الثاني الميلادي، وكانت منارة في العمارة وقلعة في الاقتصاد ومركزًا دينيًا له ثقله وحضوره، ولا تزال معالمها الأثرية الناجية من الهدم خير شاهد على مآثرها الخالدة.