في دورته الـ44، بحضورٍ كلاسيكي ونسخٍ مرممة، يعرض مهرجان القاهرة السينمائي الدولي لأسماء لامعة في تاريخ السينما المصرية والعالمية، بداية من اختيار المخرج المجري العالمي بيلا تار كضيف للمهرجان، وعرض فيلمين مرممين من أفلامه الثمانية على هامش برنامج كلاسيكيات القاهرة الذي قدم مجموعة من الأعمال الكلاسيكية المرموقة في تاريخ السينما، إلى جانب عروض مرممة في مسرح الهناجر وندوات تعريفية جرت في مسرح النافورة بالأوبرا، على هامش الاحتفاء بالفرنسي العبقري جان لوك جودار والإيطالي العظيم بيير باولو بازوليني، في سلسلة من العروض المرممة لخمسة من أفلامهم المتفاوتة في الجودة.
شهد المهرجان احتفاءً بعدة مخرجين مهمين في تاريخ السينما المصرية والعربية، مثل المخرج المصري الراحل علاء عبد الخالق بترميم أغنيته، والمخرج الكبير توفيق صالح وعرض نسخة جديدة من فيلمه “يوميات نائب في الأرياف”، وإجراء عروض خاصة لفيلم أسامة فوزي الرائع “جنة الشيطان”، وعرض نسخة مرممة من فيلم “الاختيار” ليوسف شاهين، بالإضافة إلى تكريم المخرجة كاملة أبو ذكري بجائزة “فاتن حمامة للتميز” وعرض فيلمها “يوم الستات” داخل برنامج الكلاسيكيات.
أسماء مميزة
في مناخٍ حيوي، يفتتح المهرجان دورته بأكثر أفلام المخرج الأمريكي ستيفن سبيلبيرج ذاتية وخصوصية: “آل فابلمن” يتقصى حكاية فتى عائلة فابلمن، “سامي” وعشقه للسينما وارتباطه بآلة التصوير منذ نعوة أظافره، إلى جانب ذلك يرصد الفيلم التقلبات الاجتماعية والمادية التي تصيب العائلة، وانتقالهم داخل درجات المجتمع الأمريكي على عدة مستويات، لكنه يفضل الالتزام بخطٍ سردي يلعب على العاطفة وتكوين سياق مشترك بين المتفرج بحبه للسينما والبطل الذي يحلم بها.
تجمع الدورة الرابعة والأربعون للمهرجان عدة أفلام قوية داخل وخارج مسابقته الرسمية، بعض هذه الإنتاجات اكتسبت سمعة مميزة داخل المهرجانات الثلاث الكبرى، كان والبندقية وبرلين، إلى جانب مجموعة من العروض الأولى وأخرى حصرية أضفت تنوعًا على الذائقة الجماعية للمهرجان.
وأتاحت خيارات جيدة ومتعددة، فمخرجون مثل الفلبيني لاف دياز والبولندي جيرزي سكوليموفسكي والفرنسية آني إرنو ـ الحائزة جائزة نوبل في الأدب لهذا العام – والإيرلندي مارتن ماكدونا وغيرهم، أضافوا ثقلًا للمهرجان حتى لو عرضت أفلامهم خارج المسابقة الرسمية، خصوصًا مع ضعف بعض الاختيارات داخل المسابقة.
يضم المهرجان 14 فيلمًا داخل مسابقته الدولية، و16 في القسم الرسمي خارج المسابقة، بينهم 2 من أهم إنتاجات العام، فيلم “جنيات إنيشيرين” لماكدونا الحاصل على جائزتي أفضل سيناريو وممثل في مهرجان البندقية، وفيلم “مقرب” للوكا دون الحاصل على الجائزة الكبرى في مهرجان كان، بالإضافة إلى 7 أفلام مشاركة في مسابقة أسبوع النقد الدولية، إلى جانب أقسام أخرى سجلت حضورًا ثقيلًا وكثيفًا داخل عروض المهرجان، قسم “العروض الخاصة” الذي يتضمن 8 أفلام من أهم إنتاجات العام، والبانوراما الدولية بـ19 فيلمًا.
اختيرت المخرجة اليابانية نعومي كاواسي كرئيسة للجنة تحكيم مهرجان القاهرة، إلى جانب 6 أعضاء آخرين وهم: المخرج المكسيكي خواكين ديل باسو الفائز بجائزة الهرم الذهبي بمهرجان القاهرة العام الماضي والممثل والمخرج الفرنسي سمير قواسمي والملحن ومؤلف الموسيقى المصري راجح داوود والمصورة السينمائية المصرية نانسي عبد الفتاح والممثلة الهندية سوارا بهاسكار والمخرجة والممثلة الإيطالية ستيفانيا كاسيني.
فيلم “الحب بحسب دالفا”
شهد المهرجان حضورًا لأفلام ذات نوعية جديدة وخارجة عن الأنماط التقليدية المألوفة، فتم عرض فيلمين عن المتحولين جنسيًا: الفيلم الباكستاني المميز “جويلاند” للمخرج صايم صادق في أسبوع النقد، ليحصل بدوره على جائزة فتحي فرج (جائزة لجنة التحكيم الخاصة)، وفيلم “شيء قلته الليلة الماضية” للمخرج لويس دي فيليبس، والغريب أن الفيلمين إلى جانب أفلام أخرى منعتهم الرقابة، لذلك تم حصر مشاهدتهما على الصحافة وحاملي البطاقات فقط، ما أثار غضب الجمهور.
في مسابقة آفاق السينما العربية وبلجنة تحكيم عربية بالكامل، تتنافس 8 أفلام عربية ما زال بعضها لم يعرض بعد، أقلها بالطبع فيلم “جلال الدين” لحسن بنجلون الذي يصنع فيلمًا أقرب للدراما التليفزيونية
منحت لجنة التحكيم إيمانويل نيكو، مخرجة فيلم “الحب بحسب دالفا” الذي شارك ضمن المسابقة الدولية، جائزة الهرم الفضي (جائزة لجنة التحكيم الخاصة لأفضل مخرجة)، وهو إنتاج مشترك بين بلجيكا وفرنسا لعام 2022، كما فازت الممثلة زيلدا سمسون بجائزة أحسن ممثلة ضمن المسابقة الدولية، وحصل الفيلم البولندي “خبز وملح” على جائزة الهرم البرونزي لأفضل عمل أول.
حضور عربي لافت
كالعادة، تضمن المهرجان حضورًا عربيًا مميزًا وكثيفًا على مستوى الإصدارات والإنتاجات الحديثة، ينافس 3 منها داخل المسابقة الرسمية، فيلم “19 ب” للمخرج المصري المميز أحمد عبد الله السيد، الذي شهد المهرجان عرضه الأول للفيلم عربيًا وعالميًا، من بطولة النجم المصري سيد رجب وناهد السباعي وأحمد خالد صالح، يتحرك آخر أفلام عبد الله السيد نحو مساحة جديدة بالنسبة له.
وبالنسبة للسينما المصرية في العموم، نوعية مختلفة ومنهجية ذات رؤية إبداعية تكتسب قيمتها من المكان، إذ يقتصر الفيلم على مكان واحد أو اثنين فقط، ما يزيد الأمر صعوبة، إلا أن الفيلم بالطبع ليس أفضل أفلام أحمد عبد الله، لكنه محاولة جيدة وجريئة على عدة مستويات، خصوصًا من ناحية التحدي البصري، ليحصل مدير التصوير مصطفى الكاشف على جائزة هنري بركات لأحسن إسهام فني، ويحصد الفيلم ذاته جائزة أفضل فيلم عربي، بالإضافة إلى جائزة الفبريسي.
على الجانب الآخر، كانت مفاجأة المسابقة الرسمية حصول الفيلم الفلسطيني “علَم” للمخرج فراس خوري على جائزة الهرم الذهبي لأفضل فيلم في المهرجان (الجائزة الكبرى بالمهرجان)، العمل إنتاج مشترك بين عدة دول، يتقصى حياة خمسة مراهقين فلسطينيين من فلسطيني الداخل، في محاولة واضحة ومباشرة للتصدي لحركة محو التاريخ الفلسطيني والمحافظة على الهوية وشعلة المقاومة.
فيلم “السد”
تميز الفيلم في أكثر من جانب، أهمها عين الكاميرا الراصدة والكاشفة للتوغل الثقافي القهري والاندفاع الهوياتي لدى قوى الاحتلال لإخفاء وتغيير وتركيب الحوادث بما يتناسب مع مصالحهم الخاصة، بيد أن القصة ذاتها في حاجة إلى تكثيف وإضافة طبقات أخرى، فالفيلم ذاته يقع في فخ الفجاجة والتوجيه والمباشرة، ولا يسمح بإعمال الخيال، فكان في حاجة إلى قصة مركبة أكثر، فالأمر لا يقتصر على صراع الأجيال أو رصد المحو، لكنه فيلم ضروري على أي حال.
في عرضه الأول بالشرق الأوسط وداخل المسابقة الرسمية، عرض فيلم “السد” للمخرج اللبناني علي شري، الذي ينتقل من الغطاء الأخضر اللبناني إلى الصحراء والماء في السد، ويتعرض لانتفاضة الشعب السوداني بشكلٍ رمزي عبر تشييد سد رمزي يأتي “ماهر” بطل الفيلم كل يومه ليرممه ويحميه من الانهدام، يتخلل تلك الرحلات القصيرة للصحراء بالدراجة النارية عدة أحلام وتخيلات بصرية تضفي على الفيلم مناخًا كابوسيًا، وتزيحه إلى خانة أفلام الرعب في أكثر من موضع، إلا أن طبيعة الفيلم الهادئة وإيقاعه البطيئ، يرد الفيلم مرة أخرى إلى عالمه الأساسي الأشد واقعية، إلى جانب كاميرا شري المميزة والعين الفاحصة التي تنغمر بين صحراء وطين ومياه النيل.
الجدير بالذكر أن “ماهر” بطل الفيلم، هو في الحقيقة عامل في بناء السدود داخل السودان، تلاقى مع المخرج خلال جلسات تسجيلية واستكشافية، وعلى الرغم من جهله التام بأدوات ومنهجيات التمثيل، حتى سطحيًا، قدم ماهر واحدة من أفضل الإنتاجات داخل المهرجان، ليستحق جائزة أفضل ممثل مناصفة مع بطل فيلم “عَلَم” محمود بكري، لكن على مستوى الفيلم ذاته، الذي يكثف الزمن بشكل جيد، ورغم بعض اللمحات التي بدت مشتتة للمتفرج، إنما تبقى تجربة جيدة داخل المهرجان.
فيما عرض فيلم “السباحتان” للمخرجة المصرية الويلزية سالي الحسيني خارج المسابقة الرسمية للمهرجان، من إنتاج نتفليكس، يدور حول أختين يمارسان السباحة في سوريا إلى أن تضربها الحرب ويضطرا لخوض رحلة شديدة الخطورة أملًا في الحصول على حياة أكثر استقرارًا في أوروبا، والوصول لأولمبياد ريو في البرازيل، قوبل الفيلم باحتفاء كبير، خصوصًا على المستوى التقني، لما فيه من صعوبات التصوير في المياه وتحتها.
فيلمه “بركة العروس”
والحقيقة أن فيلم “السباحتان” يقع تحت بند الضروري، مثل فيلم “علَم” الفلسطيني، كلها أفلام تكتسب قيمتها من قوة وضرورة القضية التي تدافع عنها، حشدٌ من المشاعر والعواطف والمشاهد التي يمكن التنبؤ بها في الكثير من الأحيان، تجارب ممتعة، لكنها ليست أفضل الأفلام على أي حال.
ينضم المخرج اللبناني باسم بريش للفائزين في “مسابقة آفاق السينما العربية”، بحصوله على جائزة لجنة التحكيم الخاصة عن فيلمه “بركة العروس”
في مسابقة آفاق السينما العربية، وبلجنة تحكيم عربية بالكامل: الممثل ميشيل كمون (لبنان) والمنتجة مفيدة فضيلة (تونس) ومصممة الملابس ريم العدل (مصر)، تتنافس 8 أفلام عربية ما زال بعضها لم يعرض بعد، أقلها بالطبع فيلم “جلال الدين” لحسن بنجلون، الذي يصنع فيلمًا أقرب للدراما التليفزيونية، ليس على مستوى الكتابة والأداء التمثيلي فقط، بل على أصعدة الكاميرا والألوان التي تنتمي بشكل كبير إلى دراما تليفزيونية رديئة، يحاول الفيلم التعاطي مع مكنون التصوف، بحكاية ساذجة، أشبه بالحكايات الشعبية الطفولية أو الأفلام الهندي الرخيصة، ولا يضيف شيئًا إلى هذه النوعية، ربما لفقر الميزانية.
فيما منحت اللجنة جائزة أفضل فيلم – جائزة سعد الدين وهبة لأفضل فيلم عربي – لفيلم “أرض الوهم” في عرضه العالمي الأول، للمخرج اللبناني كارلوس شاهين، يدور الفيلم عام 1958 في إحدى قرى لبنان، تنغمر ليلى في حياتها الروتينية كأم، وفي وقت اندلاع الحرب الأهلية، تقابل شابًا فرنسيًا وتقع في الحب.
يتعاطى الفيلم مع الواقع من منظور الأم، ويحاول التصدي للتابوهات التقليدية، فيما يرصد واقع المرأة المقهورة، ويرصد تأثير المجتمع عليها كامرأة لا تملك إرادةً مستقلةً، بل تخضع دائمًا للرقابة من كل فئات المجتمع وتضطر للخنوع، إلا أن علاقة الشاب الفرنسي تغلغلت داخلها، وغيرت وجهة نظرها تجاه نفسها وتجاه الواقع المعاش، إلى جانب ذلك يرصد الفيلم في بعض لقطاته حموة الحرب الأهلية والعنصرية التي تمارس حتى على مائدة الطعام، والنظرة الفوقية التي كانت سائدة آنذاك.
في نفس المسابقة حصل الفيلم الوثائقي المصري “بعيدًا عن النيل” للمخرج شريف قشطة، على جائزة أفضل فيلم غير روائي في المسابقة، حيث يرصد مشروعًا يضم 12 موسيقيًا من 11 دولة تطل على النيل، ويحاول التغلغل بخفة إلى نموذج عابر للحدود والثقافات الشخصية، ويروم إلى ما يشبه تكوين أشد تلقائية، ما ساعد الفيلم هو قدرته على الحركة، داخل الطريق وداخل النموذج الغنائي نفسه، الموسيقى ذاتها حركة، وهو ما دفع الفيلم للأمام في أكثر من نقطة رغم فقر السيناريو والأحداث داخل الهيكل الغنائي الثري، لكنه يبقى من أمتع أفلام المهرجان على مستوى الترفيه والسماع.
ينضم المخرج اللبناني باسم بريش للفائزين في “مسابقة آفاق السينما العربية”، بحصوله على جائزة لجنة التحكيم الخاصة، عن فيلمه “بركة العروس”، ليصدم الجمهور بفيلم جمالي ذي إيقاع أبطأ من المعتاد، لدرجة أن بعض الجمهور كان يتساءل عن دور كاتب السيناريو في هذا الفيلم، بيد أنه فيلم مهم، يتنبأ بولادة مخرج لبناني واعد، ورغم مشكلات السيناريو في بعض الأوقات، فإن اللغة السينمائية التي مرر بها باسم أفكاره كانت أقرب إلى الأفلام الشاعرية، قدرته على رصد الوجود الإنساني على هامش البيئة في لقطات واسعة وبطيئة تحملنا إلى توقع شيء أهم وأكبر من هذا المخرج في السنوات القادمة، إلى جانب ذلك، فقد حصلت الممثلة اللبنانية كارول عبود على جائزة أحسن أداء تمثيلي عن الفيلم.