تُعرف السينما كوسيط بصري، لُغة جماليّة حتى في قسوتها، تُثير عاطفة أو تُحفّز سلوك من خلال تطويع مُفرداتها اللغويّة الخاصة، أبجديّة مُستلهمة تستعير حروفها من فنون الكون الستة، فتخلق اللّفظ وتكوّن الجُملة، وتؤسس قاموساً مُضطرب يتعاطى مع القُبح والفِتنة وما يقع بينهما، لذلك فهو جامع في شموله، وذاتي في خصوصيّته، لا يشيخ أو يتلاشى، بل يتلوّن ويركب الموجة، فتن العيون منذ ولادته في نهايّة القن التاسع عشر، ليخلق علاقة الأخذ والعطاء مع التاريخ الإنساني، فالتاريخ في إجماله يشمل السينما كأداة شاهدة، والسينما تحتويه بين أطراف أرشيفها، تستدعيه وتراوغه، تتخيّله وترصده.
هذا ما فهمه الحُكام والمؤسسات، أن السينما تطوّع الأفكار، وتُخضِع الرؤى والتصوّرات، فتحصُر العالم في مجال البصر، وترهِن الاعتقادات بغزارة المعروض وأفكاره، وبهذا يُمكن توجيه العامة لفكرة أو زرع مفهوم معيّن وتأصيله كأنه ولِد من مئة عام، ومن هُنا خرج مفهوم تطويع السينما كأداة دعائية للبروباغندا، تخدِم منظرو أحادي، وتوجّه رسالة مُركّزة لتؤثّر في سلوك العامة، وتنسل داخل رؤوسهم.
فن تمرير الأفكار
لا يُمكن التأثير على شخصٍ ما بالبروباغندا إلا بوسيط ذا قيمة جماليّة، بحيث يُفتن بالأداة أولاً، بوعد ذلك يفتح الإعجاب الظاهري أبواب النفس، وينجح في تمرير أفكاره بسهولة، والحق أن العالم وقع في حُب السينما منذ البداية، الاختراع المُلهِم، بقُدرته المُقدسة على إيقاف الزمن وتثبيت المشهد والصورة، وإعادتها مرّة أخرى.
في بداية السينما، ومع إرسال الأخوين لوميير للأفلام لتُعرض في مشرق الأرض ومغاربها، وقع الحُكّام والأباطرة في حُب السينما، حتى لو أظهروا خلاف ذلك، حين شاهد نيقولا الثاني إمبراطور روسيا الأفلام لأول مرّة، شيّد غُرفة سينما خاصة داخل قصره، ورغم أنه أظهر نفوره أكثر من مرّة اتجاه فن السينما، بيد أن الدلائل تُشير لعشقه لهذا النوع من الفن، ولكن السينما كفن وكوسيط له حضوره واستقلاليته، لا يمس الأباطرة والملوك بقدر ما يؤثّر على العامة.
وجد الكثير من المُثقفين السينما كوسيط مُهم للمُستقبل، يُمكن تطويعه واستخدامه على نحو أوسع من الفنون العاديّة
غيّر فن السينما إيديولوجية الحُكم والاستبداد؛ بتأثيره المُمتد إلى ملايين البشر، وقُدرته المُدهشة على تمرير الأفكار والمفاهيم، بحيث تضخ حيّز من التصوّرات المُكثّفة والمُنتقاة بعناية لتُغذية الطبقة العاملة التي لا تلمك سوى سواعدها، لتستغل الحكومات غياب الحس النقدي عند هذه الطبقة، وتأسس لأنظمتها السياسية والاجتماعية.
في مُستهل القرن العشرين، كان الجدال دائراً حول قوّة وخطورة الوسيط البصري الجديد المُسمى بالسينما، كيفيّة توظيفه في حدود مُعيّنة، وتقنين تأثيره المُمتد على كافة الطبقات الاجتماعيّة، لأن العروض التي أقامها الأخوين لوميير كان عروض عامة وغير مُصنّفة أو مُقتصرة على فئة مُعيّنة، ما أحدث ارتباكاً في الأوساط، خصوصاً مع ادعاء البعض أن السينما يُمكنها إفساد المنظومة الأخلاقية والصورة العامة التقليدية للمُجتمع، إلى جانب الانزعاج السياسي والفرضيّات التي يُفضل البعض تلافيها، ولكن على النقيض، وجد الكثير من المُثقفين السينما كوسيط مُهم للمُستقبل، يُمكن تطويعه واستخدامه على نحو أوسع من الفنون العاديّة.
يُشير الكاتب نيكولاس ريفز في كتابِه “قوّة الدعاية السينمائية ــ The Power of Film Propaganda” إلي تأثير عروض الأخوين لوميير في روسيا، ويُدلل بأحد الاقتباسات، على لسان الأديب الروسي المعروف (ليونيد أندرييف)، مدى تحمّس وانخراط البعض في الوسيط الجديد:
“مُعجزة السينما!.. يستوعبها الجميع بالقدر نفسه؛ متوحشي سانت بطرسبرغ ومتوحشي كلكتا، إنها عبقريّة الاتصال العالمي، تصل أقاصي الأرض بالحيّز الروحي، وتجمع البشريّة الهشّة داخل تيار واحد. السينما العظيمة…إنها تتكيف مع كُل شيء، تُخضِع كُل شيء، تصل كُل شيء.”
بدأت الدول فعلياً بتطبيق الدعاية السينمائيّة خلال الحرب العالمية الأولى، بمُبادرات تجريبيّة، رُبما لم تكن على المستوى المطلوب بيد أنها كانت تفي بالغرض آنذاك، لتبدأ حرب البروباغندا السينمائيّة في خضم الحرب العالميّة الثانيّة
يُعزز الاقتباس مدى تعاطي بعض المُثقفين مع الوسيط الجديد، يلتمسون فيه وجه جديداً من الإبداع، ما يُرسّخ لقوّة الصنعة المُستحدثة ويُحرّض على اكتشاف طرُق جديدة لاستغلال الفن، وليس أندرييف وحده الذي ذُهِل بالسينما، بل الكثير من الأدباء والفنّانين الروس داهمتهم الدهشة السينمائية الأولى، التي ستُكثّف حضورها خلال السنوات اللاحقة حتى اشتعال الثورة البلشفيّة واستحواذها على السُلطة، التي بدروها ستأخذ السينما إلى حيّز مُختلف، أكثر تأثيراً واتساعاً، فزُعماء البلاشفة آمنوا بأهمية السينما منذ البداية كوسيط لتمرير أفكارهم، ليحسموا جدلاً أبقى السينما داخل إطار المُربك والمُحيّر آنذاك.
السينما وتحقيق الغايات السياسية
على النقيض، لم يكن لدى البلاشفة شك حول أهميّة وقوّة السينما كفن سيكون ذراعاً محليّة يستندون إليها في بث الروح وتعميم الفِكر، إنها أداة ترويج مثاليّة للتأثير على طبقة هائلة من الطبقة الدُنيا من الشعب، فئة الأميين، الذي يُمثّل قوّة الثورة البلشفيّة في الأساس.
وفقاً لكتاب “قوة الدعاية السينمائية”؛ يتضح ميل البلاشفة للوسيط السينمائي كأداة للبروباغندا في اقتباس على لسان أناتولي لوناشارسكي؛ أول رئيس للهيئة الشعبيّة للتنوير ــ Commissariat of Enlightenment، الهيئة أو الوزارة المنوطة بأعمال الدعاية والبروباغندا لحساب الحكومة البلشفيّة:
“تكمن قوّة السينما في حقيقة كونها، مثل أي فن، تُضفي على الفكرة طابع حسي وشكل آسر، وعلى عكس الفنون الأخرى؛ السينما رخيصة ومحمولة ومُكثّفة برسومات وتصورات غير مُعتادة، يبلُغ تأثيرها حيث لا يُمكن أن يصل المُنتج الأدبي، إنها بالطبع أقوى من أي نوع دعائي مُقيّد أخر.”
لم ينفصل البلاشفة عن واقعهم الاجتماعي، أدركوا مدى التطوّر الاجتماعي للحياة المدنيّة، فالمجتمعات الصغيرة المُنغلقة تلاشت تقريباً، تستلزم المدينة والحركة الثوريّة والكثافة السُكانية الهائلة منهجيّة مُختلفة ومُبتكرة في التعاطي مع النظُام السياسي، لقد فهم البلاشفة طبيعة الوسيط الفني الجديد، وعرفوا كيفيّة توظيفه، أولاً كأداة ترفيهيّة جديدة على المُجتمع، ثانياً كوسيلة دعائيّة أقرب إلى عقول وقلوب المشاهدين، وبُناء على ذلك، عرّفت السينما الحقبة السوفيتية الجديدة، وكانت مركز تحقيق الغايات البلشفية على المدى الطويل.
لقد بدأت الدول فعلياً بتطبيق الدعاية السينمائيّة خلال الحرب العالمية الأولى، بمُبادرات تجريبيّة، رُبما لم تكن على المستوى المطلوب بيد أنها كانت تفي بالغرض آنذاك، لتبدأ حرب البروباغندا السينمائيّة في خضم الحرب العالميّة الثانيّة، وتُنتِج أفلاماً مُمتازة على مستوى الصناعة والدقة التقنيّة والفنيّة، غير أن قبلها بسنوات أخرج ديفيد غريفيث فيلماً أمريكياً “ولادة أمة ــ The Birth of a Nation” عام 1915، الذي يقف على الحياد، فيُمكن اعتباره دعائياً، أو تناوله بشكل مُستقل كعمل فني مُهم، لأنه مصنوع بحرفيّة عالية.
إلى جانب ذلك، هُناك فيلماً من الأفلام التي صدرت بين الحربين العالميتين، فيلم “المُدمّرة بوتمكين ــ Battleship Potemkin” للأستاذ والسينمائي الروسي المشهور سيرجي أيزنشتاين، عام 1925، والذي خلّف وراءه الكثير من النظريّات السينمائيّة المُهمّة، التي خلقت مُصطلحات ومفاهيم جديدة نستخدمها حتى الآن، وصكّت أشكالاً سينمائيّة ورؤى فعليّة لولاها لما تطورت السينما فيما بعد.
يضاف إلى ما سبق، أن أفلام الحرب العالميّة الثانية تملك صدى هائل كأفلام دعائية، أهمها وأشهرها على الإطلاق؛ مُنتج دعائي مُهم لألمانيا النازيّة، “انتصار الإرادة ــ The Triumph of the Will” عام 1935، للمُخرِجة ليني ريفنستال، ليس لضخامة إنتاجه، ولكن لتفاصيل صناعته وحرفيّة خلق الحالة والتكوين.