انتهت حلقة أخرى من حلقات مسلسل التفاوض “المكسيكي”، بين الحكومة السودانية والحركات المسلحة، بنهاية مماثلة للتي قبلها: انهيار التفاوض، إلا أن انعراجًا دراميًا لافتًا، شهدته ثنايا الحلقة التي دارت أحداثها مؤخرًا في إثيوبيا، إذ التئمت – على هامش التفاوض – قوى المعارضة المدنية والمسلحة ومنظمات المجتمع المدني وطرحت ميثاقًا جديدًا أسمته “نداء السودان”.
البعض ينظر للاتفاق على أنه حدث درامي لا جديد فيه، سوى أنه يزيد من أمد حلقات المسلسل التفاوضي، والبعض الآخر يعتقد أنه قد يشكل تحولاً دراميًا مهمًا، على الرغم من أن مخرج المسلسل التفاوضي “ثامبو أمبيكي” رئيس الوساطة الأفريقية الرفيعة، لا دور له مباشر في إقحام حدث اتفاق فصائل المعارضة السودانية.
أسفر فشل جولتَي مسارَي التفاوض بين الحكومة السودانية من جهة، والحركات المسلحة الدارفورية والحركة الشعبية – قطاع الشمال من جهة أخرى، عن تبنّي الحركة الشعبية – شمال اتجاهًا بعدم المشاركة في أي حوار يتجاوز قوى وثيقة “نداء السودان” الموقّعة مؤخرًا فيما بين الجبهة الثورية (التي تضم الحركة الشعبية – شمال وحركات دارفور)، والمعارضة المدنية ومنظمات المجتمع المدني، كما قال “ياسر عرمان”، كبير مفاوضي الحركة الشعبية – شمال، في مؤتمر صحفي بفندق راديسون بأديس أبابا، 4 ديسمبر/ كانون الأول: “إن نظام الخرطوم أفشل فرصة تاريخية لحل الأزمة وإن متغيرات كثيرة ستحدث في الواقع السياسي وإنهم لن يوافقوا على وقف إطلاق نار لا يشمل دارفور.”
وعلّقت الوساطة الأفريقية رفيعة المستوى، الخميس 4 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، مسارَي التفاوض؛ القائمين في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، بين الحكومة السودانية من جهة، والحركات المسلحة الدارفورية والحركة الشعبية – قطاع الشمال من جهة أخرى، حول إقليم دارفور ومنطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، إلى أجل غير مسمّى، حيث تمسّك الطرف الحكومي في تفاوضه مع حركات دارفور بوثيقة الدوحة لسلام دارفور كمرجعية للتفاوض بينما ترى حركتَي “تحرير السودان – جناح منّاوي” “والعدل والمساواة”، ضرورة ابتدار مسار جديد في معالجة قضايا الإقليم، أيضًا تتمسك الحكومة بوقف إطلاق النار الشامل وتتخوف من أن يمنح إطلاق النار المؤقّت، الحركات، فرصة في تجميع قواها والعودة أقوى في القتال، بينما ترى الحركات أن “وقف العدائيات” هو المرحلة الأولى من وقف إطلاق النار الشامل الذي يؤدي إلى ترتيبات أمنية تشمل تفكيك الميليشيات التابعة للحكومة ويرتبط بأفق حل سياسي، وفي التفاوض بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية – قطاع الشمال، طرحت الثانية مناقشة قضايا تتعلق بالحل السياسي الشامل إلى جانب مطالبتها بالحكم الذاتي لمنطقتَي النيل الأزرق وجنوب كردفان في حين اقتصر الوفد الحكومي بمناقشة قضايا الترتيبات الأمنية للمنطقتين.
وكان “ثامبو أمبيكي” رئيس الوساطة الأفريقية رفيعة المستوى، قد بعث في 2 ديسمبر/ كانون الأول، إثر وصول مسارَي التفاوض إلى طريق مسدود في 30 نوفمبر/ تشرين الثاني، برسالة خطية إلى الرئيس السوداني “عمر البشير”، بيد مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة للسودان وجنوب السودان، “هايلي منقريوس”، حيث التقى الرئيس ببيت الضيافة في الخرطوم بحضور وزير الخارجية السوداني “علي كرتي”، ولم ترشح معلومات حول تفاصيل اللقاء، إلا أن الرئيس في خطاب له الأحد 30 نوفمبر/ تشرين الثاني، لم يمنح أي ديناميكية لمسارَي التفاوض، حيث قال: “بروفسور إبراهيم غندور مفوّض فقط لمناقشة قضايا المنطقتين ولن يناقش أي قضية أخرى، ودكتور أمين حسن عمر كذلك يمسك في يده وثيقة الدوحة فقط”، وعبّر عن عدم قبول الحكومة بـ “نيفاشا جديدة” في إشارة إلى اتفاقية السلام الشامل المبرمة بين الحركة الشعبية وحكومة السودان في العام 2005م (قبل انفصال جنوب السودان)، أي اتفاق يناقش قضايا قسمة السلطة والثروة وهيكلة الدولة والدستور وربما يضمن للحركات الاحتفاظ بسلاحها.
وتكمن نقطة الخلاف الرئيسية، كما يرى الكاتب والمحلل السياسي “عبد الله رزق”، بعدم نية الحكومة في القيام بتغيّرات جوهرية في بنيتها، ويوافقه الكاتب الصحفي والمحلل السياسي “فيصل محمد صالح” بأن الحكومة لن تسمح بتفكيك نفسها لذا تصر على منهج الحوار المجزّئ، وتعتبر أن أي نقاش تفصيلي وجامع سينتقل إلى مرحلة التفاوض وليس الحوار.
عليه فإن أحد أهم أسباب فشل مسارَي التفاوض هو تمسك الحكومة، في جولتها وهي التاسعة مع الحركة الشعبية، بقرار مجلس الأمن 2046 القاضي بضرورة توصل الحركة الشعبية – شمال والحكومة السودانية إلى حل بشأن المنطقتين، في مقابل قرار مجلس الأمن والسلم الأفريقي بالرقم 456 القاضي بوقف إطلاق متزامن في دارفور والمنطقتين، ثم اجتماع تحضيري شامل يؤطّر لبنود حل السياسي، الذي بدوره ينتقل إلى الخرطوم.
وفي خضم هذه التجاذبات التقت الحركات المسلحة بقوى المعارضة المدنية ومنظمات المجتمع المدني، التي كانت تتواجد في إثيوبيا بغرض وضع خارطة طريق تفضي إلى التفاهم فيما بينها (الحركات والحكومة) ثم نقل الحوار إلى داخل السودان، إلا أن موقف الحكومة قد قطع الطريق حاليًا على هذه المساعي، ووقّعت قوى المعارضة المدنية ومنظمات المجتمع المدني وحزب الأمة القومي والجبهة الثورية (كفصيل موحّد يضم حركات دارفور والحركة الشعبية – شمال) على اتفاق جامع، توافقوا على تسميته بـ “نداء السودان”، قسّم إلى أربعة محاور: القضايا الإنسانية والحروب والنزاعات، والقضايا المعيشية والراهن السياسي، وقضايا الحوار والحل السياسي الشامل، والانتقال إلى الديمقراطية وآليات العمل، وحمل النداء تأكيدًا على عدم المشاركة بالانتخابات المزمع عقدها في أبريل 2015م، بل العمل على مقاطعتها، ضمن اتجاه يضمن تفكيك النظام أو إقالته عبر انتفاضة شعبية، وهو ما يشكل تهديدًا جديًا لقدرة الحكومة السودانية على إنجاح الانتخابات، ويشكل مزيدًا من الضغط الذي من المرجّح أن يدفع الحكومة إلى التراجع عن جملة من مواقفها بسبب تزايد الضغوط كما يرى فيصل محمد صالح.
ويذهب الصحفي بصحيفة “الرأي العام” السودانية إلى أبعد من ذلك بتوقعه تغيير رؤساء الوفود المفاوضة في خطوة لتليين المواقف، وعلى وجه الخصوص يتوقع استبدال “أمين حسن عمر” الذي لا يملك أي صفة تنفيذية حاليًا داخل الحكومة السودانية خاصة أن تمسكه بوثيقة الدوحة لسلام دارفور قد يعود إلى كونه مهندسها في الجانب الحكومي، إلا أن عبد الله رزق يرى أن التنازلات الحكومية لن تكون كبيرة وجوهرية لأنه لا ضغوطات كبيرة على الحكومة من المجتمع الدولي بقدر ما هناك محفّزات بوعود رفع العقوبات وشطب الديون، وحتى هذه مشكوك في دخولها حيز التنفيذ بسبب أن الحكومة تلقت وعودًا مماثلة عند توقيع وتنفيذ نيفاشا! ربما لهذا يعتقد صالح بأنه لا بد من تحرك جديد من مجلس الأمن، إلا أن رزق يعتقد أن الحكومة مع خبرتها الطويلة في المواجهة الدولية اكتسبت مناعة ضد العقوبات، لكنها قد تتعاطى مع “نداء السودان” عبر مسار ثالث، إلى جانب مسارَي التفاوض مع الحركة الشعبية – شمال، وحركات دارفور، لكنها ستحافظ على ما تصفه بـ “الحوار” دون “التفاوض”، بينما يذهب صالح إلى أن “نداء السودان” يمكن أن يتعدّى كونه ورقة ضغط إذا نجح في صياغة موقف تفاوضي موحّد وأجندة تفاوضية موحدة.